يوهم أمراء الحرب في العراق، وجلهم من رجال الميليشيات، أنفسهم كما الآخرين أن حربهم في الفلوجة هي حرب مصيرية، غير مستبعدين إمكانية هزيمتهم فيها، في محاولة منهم للإيحاء بقوة العدو ومتانة دفاعاته.
وكما يبدو فإن أحدا لا يرغب في تسمية ذلك العدو باسمه الصريح، لئلا تبدو الشعارات الطائفية المرفوعة حول المدينة المنكوبة نوعا من الهراء الطائفي. فإن كان تنظيم داعش هو العدو، فكيف يمكن تفسير كل هذا التحشيد الطائفي الذي حاولت الولايات المتحدة التخفيف من غلوائه غير مرة، وفشلت كما فشلت الحكومة العراقية في التقليل من أضراره؟
ربما لا تكون الحكاية الرسمية مضبوطة.
فالفلوجة مدينة صغيرة. تعرضت لحروب قاسية، استعملت القوات الأميركية في عدد منها أسلحة محرمة دوليا. وقد حوصرت المدينة منذ الأيام الأولى للاحتلال. ولم يفك عنها الحصار أبدا، بل إن القوات الحكومية كانت تمنع دخول قوافل الإغاثة إليها.
هي في واقعها مدينة منكوبة، سلمها العراق الرسمي لمَن يفتك بها من الداخل.
ما من سر يضع الفلوجة في مصاف المدن الكبرى التي قاومت الغزاة، فهي ليست ستالينغراد، ولا حتى طروادة. لا تضاريسها الأرضية معقدة، وليس فيها من الغابات ما يستلزم إشعال حرائق هائلة.
حتى تسمية “الأرض المحروقة” لا تنسجم بتقنية الانتقام منها. فهي أرض محروقة أصلا، هي مدينة ملعونة بعد أن أصمّ العالم أذنيه عن سماع حكايتها الحقيقية.
هناك أطراف عديدة، من بينها الولايات المتحدة، تجد أن من مصلحتها أن تبقى تلك البقعة من الأرض صماء. لذلك يبدو شعار محوها وإزالتها من الخارطة مناسبا للكثيرين.
“الحرب على الإرهاب” هو العنوان الرئيس لحرب الفلوجة. نظريا فإن القضاء على تنظيم داعش الإرهابي الذي استـولى على المديـنة منذ سنتين، هو هـدف تلك الحـرب. ولكن ما جرى ويجري للفلوجة هو أشبه بتفجير طائرة بركابها بهدف القضاء على مختطفيها. لقد جرى تشويه سمعة المدينة، بطريقة يُراد من خلالها تبرير كل ما تعرضت وتتعرض له من قتل وتدمير وسحق ومحو. كل هذا يتم في ظل عمل ماكنة التجهيل التي دأب الطائفيون على تغذيتها بالأفكار المعلبة في إيران والتي لا تمت بصلة لتاريخ التعايش الوطني في العراق. فالمدينة التي صارت موضع لعنة لم تشهد في تاريخها، وهي واحدة من أقدم مدن العراق، حادثة واحدة تدل على عنصرية أو طائفية أهلها.
المدينة التي كانت دائما بعيدة عن الضجيج صارت موطنا لضجيج الشر القادم من مختلف جهات الأرض، وصار عليها أن تدفع ثمن ذلك.
لم يبق من أهلها صامدا، عن اضطرار، فيها سوى العشرات من الآلاف وهو رقم لا يستهان به، إلا من قبل الإعلام الطائفي في العراق الذي يصر على أن يُنسب كل ما في الفلوجة من بشر وحجر إلى داعش.
بالنسبة لمَن ضللتهم الدعاية وأعمت عيونهم الطائفية فإن الفلوجة هي التي اخترعت داعش وهي التي تمده بأسباب الحياة.
هناك كذب كثير في ما يتعلق بالمصير البشري.
يوم حاول أهل الفلوجة النزوح منها ليكونوا في مأمن على حياتهم بعيدا عن الجماعة الإرهابية منعتهم السلطات العراقية من عبور جسر بزيبز المؤدي إلى العاصمة، وحين عادوا إلى ديارهم مكللين بخيبة وطن لم يحتضنهم، طاردتهم الراجمات.
تبدو الفلوجة اليوم وهي في مرمى النار كما لو أن أحدا من العراقيين لا يقيم فيها. مدينة أشباح يتقافز بين أطلالها الدواعش مثل الأرانب. وهي صورة غير حقيقية. ذلك لأن الفلوجيين هم الذين صاروا هدفا ثابتا للنار التي يعرف الدواعش كيف يفرون منها.
سيأتي اليوم الذي يعترف فيه المحررون بأنهم لم يجدوا داعش في الفلوجة، ولكن ذلك لن يحدث إلا بعد أن تُسوّى المدينة وأهلها بالتراب.
فاروق يوسف
صحيفة العرب اللندنية