في مفاسد التقسيم

في مفاسد التقسيم

download

حينما جرت هبات ما بات معروفا باسم «الربيع العربي» في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة بعد الميلاد، كان تقدير المحللين أن ما أثارته من زوابع وغبار وحروب أهلية واضطراب وتدخل أجنبي وتراجع اقتصادي وتدمير للبشر والحجر، سوف تستمر آثاره حاكمة حتى نهاية العقد، وربما ما هو أبعد بسنوات إضافية، على الأقل. والآن مضت 6 سنوات تقريبا منذ لحظة البداية بكل آلامها وتكلفتها، ويبدو الآن أننا بصدد الوصول إلى ذروة الصراع الدائر في المنطقة، حيث تصل المعارك إلى ذروتها كما تشهد الفلوجة والرقة الآن، كما تختلط الحروب بالدبلوماسية التي تبحث عن حل وتسوية. بشكل ما فإنه من رحم الصراع بدأت بوادر وضع نهاية يكون مفتاحها نظاما إقليميا جديدا يسميه بعضنا «إعادة رسم خرائط المنطقة»، وبعضنا الآخر مرحلة ما بعد «سايكس بيكو»، وبعضنا الثالث – النظام السوري على سبيل المثال – يريد عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، فلا جرت ثورات، ولا كان هناك ربيع، ولا تحولت أحلام إلى كوابيس، وكأننا لا نرى سفن اللاجئين في البحر، ولا النازحين في البر، ولا قرى ومدنا لم يعد لديها أكفان وقبور كافية.

في الولايات المتحدة، كما هو الحال في الدول الغربية كلها، لا تكف مراكز التفكير والفكر والتحليل عن النظر فيما بعد المعارك الجارية التي تشهد بداية الأفول والسقوط لأكثر تنظيمات العنف والوحشية: «داعش». وما علينا إلا مشاهدة تقلص الظاهرة الراديكالية الدينية في دولة «الخلافة»، وتراجع قدراتها في سيناء، وانحسارها في ليبيا واليمن، حتى نرى أن النظر في المستقبل له ما يبرره؛ وبشكل أو بآخر فإن هذا المستقبل يبدأ الآن. الأفكار التي تتطاير كثيرة، وبعضها جدي وبعضها الآخر يأتي على طريق الاختبار، ومن بينها ما جرت مناقشته من قبل في هذا المقام حول الفكرة الفيدرالية. ولكن الفكرة الخطيرة الآخذة في الذيوع ترى أن «التقسيم» ربما يكون هو الحل لمشكلات الدولة العربية؛ فالعراق يصير 3 دول، للعرب والأكراد والشيعة، وسوريا بين العلويين والأكراد والعرب السنة، واليمن بين الشمال والجنوب وحضرموت، وليبيا بين الشرق والغرب والجنوب. وما لم يذكر من الدول العربية فليس لأن وحدة الدولة باتت مطلوبة فيها، ولكن لأن المنهج – التقسيم – يحتاج ضرب الأمثلة، التي هي عادة ما تكون ناضجة بما يكفي للتطابق ما بين المثال والواقع.

مرة أخرى، فإن هذه «أفكار»، ومنهج، واقتراب، من الإقليم، لا يأتي بالضرورة على سبيل «المؤامرة»، وإنما باعتباره الحل الأمثل لمشكلات ومعضلات الإقليم العربي، وأمنه، وتنميته، وسلامة شعوبه. والفكرة قد تكون آتية من اليسار بإسنادها إلى أن دول المنطقة لا تعبر إلا عن نتائج للحقبة الاستعمارية، ومن ثم فإن الحدود التي قامت لم تستند إلى واقع من أمم «حقيقية». وكما قيل فإن العالم العربي ما هو إلا «موزاييك» مبرقش بالقبائل والطوائف العرقية والدينية والمذهبية التي دارت حولها الحدود بلا منطق ولا عقل، وإنما مصالح استعمار. هنا فإن الفكرة تصير فورا ترديدا لما قال به «القوميون العرب» عن «الحدود المصطنعة» والأمم الواهية، ويصير التقسيم نوعا من «التحرير» الجديد من رق التاريخ الاستعماري.

لفكرة ذاتها تأتي من اليمين، سواء الليبرالي أو المحافظ، وهنا فإن الدولة العربية فشلت في التنمية وتحرير الإنسان، ولا سبيل لإصلاحها وإنما الاعتراف بتقسيماتها «الطبيعية» بين أعراق ونحل. هنا فإن المنطقة تصبح أمام نوع من ممارسة «حق تقرير المصير» من جديد، بحيث تكون العراق وسوريا واليمن وليبيا نموذجا لما سوف يأتي. فكما حدث في أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية، وحتى الحرب الباردة، فإن الصراع انتهى في كل الأحوال إلى تقسيمات جديدة. ألم تحصل «كوسوفو» الصغيرة على كيان سياسي خاص بها؟ هكذا سوف تتردد الأسئلة، وعلامات التعجب من تجاهل دروس فترة ما بعد استقلال الدولة العربية وما جرى فيها.

ولكن سواء جاءت الفكرة من اليمين أو من اليسار، فإن مبررها الدائم سوف يكون أن التقسيم يمثل الفكرة العملية التي تناسب مقتضى الحال، طالما أن التقسيمات المختلفة لم تعد تقبل العيش السلمي، وأكثر من ذلك فإنها تحشد الحشود لتتقاتل فيما بينها. الاقتراح هكذا يكون من أجل حقن الدماء، وربما تكون أكثر الحلول براغماتية، وعلى الأرجح أنها سوف تجد في داخل كل فصيل من هو على استعداد لوضع الفكرة موضع التطبيق، طالما أن ذلك سوف يعطيه سلطة للحكم. ولكن هنا تحديدا يوجد الضعف الأساسي للمنهج، ويصير من الرشد أن يقاوم سواء كان ذلك في ساحة الأفكار، أو على طاولات التفاوض، أو ساحات المعارك الدائرة الآن.

المسألة هنا ليست أن حدودا تاريخية جرى رسمها على خرائط غير مبررة، وإنما، وأيا كانت الأسباب، أن واقعا جرى على مدى عقود، وخلق أسواقا وعلاقات وتفاعلات؛ وهو في حقيقته ذات الواقع الذي وضع حدود الدول في العالم كله. والثابت أن محاولات تغيير الحدود القائمة، واغتيال دول انتصبت على مجتمعات وشعوب، لم تكن مدعاة للتقدم، ولا لقيام السلم الأهلي؛ ومهما كان من عنف جار في المنطقة العربية الآن، فإنه لا يصل من حيث العنف إلى ما كان خلال الحربين العالميتين، وحتى قبلها خلال القرن التاسع عشر. فتغيير الحدود يبدأ ساعة تحقيقها الدعوة إلى إعادة ترتيبها وتركيبها من جديد. وعندما دعا نائب الرئيس الأميركي بايدن إلى تقسيم العراق إلى 3 دول فإنه لم يدرك أمرين: أولهما أن الحدود بين العرب السنة والأكراد والشيعة العرب أيضا ليست بالوضوح الذي يتصوره، وأن ما يرسم الآن سوف يصير فورا بداية نزاعات تستمر لعقود قادمة. وثانيهما أنه لا توجد منطقة نقية من الناحية العرقية، والأخطر أنه لا توجد منطقة خالية من النزاعات الدامية داخلها حول كل شيء، من فهم العقيدة إلى شكل الحكم. وحينما انقسمت السودان كانت النتيجة أن حربا أهلية طاحنة جرت في الجنوب، ولا تزال الحدود بين شمال وجنوب السودان ساخنة بالتوترات حول الحدود وما حولها من ثروات طبيعية نفطا أو غيره. وسواء كان الأمر بين أكراد العراق أو سوريا، فإنهم في كل الأحوال توجد بينهم انقسامات احتكمت أحيانا للسلاح، أو قبلت بدورها قسمة من نوع أو آخر.

«التقسيم» هو فتح أبواب جهنم على مصراعيها، وهو الباب الذي يغلق أبواب التسوية في المنطقة، والتي فيها تعود المجتمعات المختلفة إلى طاولة التفاوض الوطني، لكي تضع نظاما من ناحية يحافظ على الدولة وحدودها القائمة؛ ولكنه في الوقت نفسه لا يسمح بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه. والحقيقة هي أن بقاء بشار الأسد ليس صنو استمرار الدولة السورية، فمثل ذلك فيه كثير من الزيف والادعاء، فالحفاظ على هذه الأخيرة رهين برحيل من قسمها منذ البداية.

عبدالمنعم سعيد

صحيفة الشرق الأوسط