لم يولد «حزب الله» من عبث أو فراغ. أما الأسباب التي مهدت له فتمتد من قيام الثورة الخمينية إلى اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، ومن المشروع الشيعي الذي رعاه موسى الصدر إلى الغزو الإسرائيلي في 1982.
لكن الحزب وُلد أيضاً من أفكار وممارسات أعاد توضيبها في أوعية دينية ومذهبية. وفي رأس الأفكار والممارسات العداء القاطع للاستعمار والإمبريالية الذي ارتبط تقليدياً بالمجمع القومي – اليساري، فصار عند «حزب الله» عداء قاطع للغرب بلا تمييز. وفي هذه الخانة نفسها اندرج تأييد المجمع القومي – اليساري لـ «الأنظمة الوطنية والتقدمية» والانضواء في «جبهاتها»، وهو ما دفعه الحزب ليغدو مشاركة قتالية نشطة دفاعاً عن النظام السوري. أما مقاومة إسرائيل، العابرة للحدود وغير العابئة بها، فكانت الشهوةَ القومية – اليسارية التي وجدت في المقاومة الفلسطينية تلبيتها، فإذا بالحزب يغدو هو هو المقاومة التي تفضح نقص الكفاءة عند سابقتها. وبالطبع هناك قرابة يجلوها مبدأ الإذعان لمركز عالمي. وهنا أيضاً جعل «حزب الله» الامتثال القديم لمصر الناصرية أو الاتحاد السوفياتي هفوات إذا ما قيس بالقانون الحديدي الذي يحكم ارتباطه بإيران.
إذاً، هناك تقليد استأنفه ثم طوره «حزب الله» شعبوياً. واليوم يأتي الموقف من المصارف ليكمل العمل باستئناف هذا التقليد وبتجاوزه الراديكالي.
صحيح أن أي نظام أعدل في لبنان يصطدم بموقع المصارف المركزي في اقتصادنا، ويتدخل في أنظمة تسليفها وفي انعكاسها على القطاعات المنتجة، كما في شبحية تلك المصارف وغفليتها العادمة للشفافية. لكن هذا شيء والعداء للمصارف شيء آخر. وقد سبق أن درج الشيوعيون، في تأسيسهم ذاك التقليد
على اعتبار رجال المصارف «اليمين الغبي» مقابل «اليمين الذكي» الذي كانه الصناعيون. ومع اندلاع حرب السنتين، كان من الأنشطة البارزة والمبكرة للمجمع القومي – اليساري، اللبناني – الفلسطيني، نهب البنك البريطاني. ودائماً كان البنك، ومثله الملهى والفندق، شتيمة أخلاقية، إذ الخدمات والسياحة موضع هجاء إلا ما أقيم منها في فارنا البلغارية إبان عهدها الشيوعي. أما مع «حزب الله» فصار المطلوب أن نعيش، بمن فينا جمهور الحزب وبورجوازيو طائفته، بلا مصارف، وربما بنظام المقايضة و»الشنطة». وهذا مع العلم بأن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، شدد قبل أيام أربعة فحسب على أن «الاقتصاد المقاوم (…) لا يعني الانعزال عن العالم»، وحض الولايات المتحدة كي «تشجع المصارف على العمل مع طهران، بعد رفع العقوبات».
وفي عمومه، يرقى التقليد المذكور إلى برنامج من العداء للبنان، ومحاولة تصديعه، برنامجٍ باشره المجمع القومي – اليساري وتوجه «حزب الله». فالأخير، وعلى عكس ما يرى البعض، لم ينقلب شيطاناً يوم قتاله في سورية بعد طور ملائكي مديد. ذاك أن قتاله السوري كان الحصيلة الطبيعية لقتاله إسرائيل، أي لتصديعه لبنان، مرة بالحرب في جنوبه ومرة في شرقه. فالحزب ولد شره مع ولادته وولادة مقاومته التي لم تكن إلا لتمكين إيران، بذريعة مقاتلة إسرائيل، ولإعدام لبنان الذي يحوله كل قتال إلى مسرح اقتتال. ولبنان المكروه هذا هو حيث الأفراد أكثر حرية بلا قياس مما في جوارهم، يستطيعون أن يختاروا أفكارهم وأهواءهم وانحيازاتهم، كما يستطيعون أن يرفضوا حتى وطنيتهم نفسها، وهي أصلاً وطنية رخوة وفولكلورية لا تمتلك أيديولوجيا رسمية وقتالية تقول للناس كونوا فيكونون. ثم إن لبنان الذي يُراد عقابه، والذي فُضلت عليه بلغاريا الشيوعية مرة وإيران الخمينية مرة، هو حيث لا تنشأ جدران تفصل الداخل عن الخارج بحجة المقاومة وحاجاتها، بل تمتد جسور تلبي حاجة سكانه لأن يكونوا أعرف وأذكى وأغنى. وأحد هذه الجسور المصارف وأحدها اللغات، مما يضعه في قلب العالم ولا يعزله عنه.
فإذا تساوت الأحزاب والزعامات الطائفية في تخلفها وفسادها، فإن «حزب الله» فاقها جميعاً في أنه حامل النموذج المكتمل البديل، وهو نموذج واعد بمثال كوري شمالي، «مُكتفٍ ذاتياً» بالتأكيد. وهذا ما يجعل الحزب وحده نقيض لبنان الكامل، يقوده غصباً عنه إلى الموت بالحرب أو الموت بالعزلة، مستدرجاً باقي اللبنانيين كي يجهروا بما يحسونه: لا نريد العيش مع حزب كهذا في وطن واحد، وليكن لنا وله وطنان.
حازم صاغية
صحيفة الحياة اللندنية