كان النقاش قبل خمس سنوات بشأن ارتدادات هذه الاستراتيجيات ومخاطرها، بإيقاعها المتسارع على الداخل التركي، وتحديداً على مستقبل رئيس الحكومة في حينه، رجب طيب أردوغان شخصياً وحزب العدالة والتنمية الحاكم. هل يدفعا ثمناً سياسياً وشعبياً في ظل معارضة شرسة من القوميين والعلمانيين وبعض اليساريين، أم يدخل أردوغان التاريخ من أوسع أبوابه؟
لماذا الحاجة للتغيير؟
أما نقاش اليوم فمختلف تماماً، على الرغم من شعبية أردوغان المتزايدة، وحظوظ بقائه في السلطة سنوات طويلة، بحسب إجماع استطلاعات الرأي: هل تحتاج تركيا إلى مراجعة سياستها الخارجية وتغييرها، وهي التي تعلن أنها وسط مرحلة انتقاليةٍ سياسيةٍ ودستوريةٍ مرتقبة تكتمل خلال الأشهر المقبلة؟
نعم بشكل جذري وعاجل. لماذا؟ ليس لأن فارس السياسة الخارجية التركية، داود أوغلو، ترجل عن حصانه بشكل مفاجئ، ورحل من دون أن يلتفت إلى الوراء حتى، تاركاً البلاد وسط أزمة إدارة شؤون عشراتٍ من الملفات الخارجية الحساسة، بل لأن كثيراً من طروحاته وطموحاته اصطدمت بجدار الرفض والتصدّي من لاعبين إقليميين ودوليين، توحّدوا في أكثر من مكانٍ لعرقلة التحرك التركي، ومنعه من الوصول إلى ما يريد. لا بل الأكثر من ذلك أن سياسة أوغلو ونظرياته تلقت ضرباتٍ موجعةً في العمق، أسقطتها من حلبة المنافسة، في العامين الأخيرين تحديداً، بالمقارنة مع إنجازات ما قبل خمس سنوات. إذا لم نشأ التوقف مطولاً عند حقيقية أن الثوابت في سياسات تركيا الخارجية الإقليمية والدولية تتعرّض للاستهداف المباشر اليوم، بعدما تحوّلت إلى حجر عثرة أمام المضي في الدفاع عن مصالح تركيا الحيوية وأمنها القومي وخطوطها الحمراء المهدّدة بالاختراق في أكثر من مكان. وقد باتت الهجمات الانتحارية والعبوات الناسفة والسيارات المفخخة التي تستهدف الداخل التركي تطاول السياسة الخارجية التركية في العمق أيضاً.
وتلتقي قراءاتٌ كثيرة في داخل تركيا وخارجها عند مسألة أن لعب ورقة المدرّجات في العالمين، العربي والإسلامي، قد تكون نفعت تركيا في مواجهتها مع إسرائيل إبّان أزمة “ون ميونيت” (عندما رد أردوغان غاضباً على شيمون بيريس في منتدى دافوس، وانسحب محتجاً في عام 2009)، لكنها لم تعد تنفع كثيرا اليوم بعد تقدّم السفن بما لا تشتهيه الرياح التركية. فيما كانت وسائل الإعلام التركية والإسرائيلية تتحدّث عن تعثّر خطة إعادة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها، بسبب عدم التفاهم حول نقاط التسوية المتبقية لحل أزمة الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة (مايو/أيار 2010)، كان شاهين دار خواه، الدبلوماسي ورجل المخابرات الإيراني الذي شارك في صناعة أكثر من تفاهم غربي إيراني، يعلن أنه قبل خمس سنوات، أي إبّان أزمة أسطول الحرية، زار تل أبيب، لبحث حماية مصالح إيران الثنائية والإقليمية مع إسرائيل.
في العلن، نعرف أن أوامر إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/كانون الثاني 2015، أصدرتها حكومة داود أوغلو مباشرة، لكن المستفيد الأول من الحادثة كانت واشنطن التي لم تترك تركيا بمفردها تواجه التصعيد الروسي، بل هي سارعت للتفاهم الثنائي مع الكرملين، في إدارة المرحلة الجديدة من الملف السوري، غير عابئةٍ بالاعتراضات التركية. وربما هذا ما دفع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى الإعلان، قبل أيام، أن أزمة الطائرة مع روسيا كانت متعبة حقاً، سنترك تدريجياً، هذه الأزمة وراء ظهورنا، ونتطلع بحماس للمرحلة المقبلة.
خدم التصلب السياسي والدبلوماسي التركي في التعامل مع ملفاتٍ إقليمية أنقرة، ربما في مواجهتها مع النظام السوري، في تغيير مكان ضريح جد الأتراك، سليمان شاه، قبل عامين. ومع بغداد التي فشلت في إنهاء العمليات العسكرية التركية في جبال قنديل ضد مواقع حزب العمال الكردستاني، لكنه لم يصل إلى أية نتيجة، في حل مواجهة أنقرة مع البرلمان الألماني، بعدما خرجت علينا نائبة ألمانية من أصل تركي، تدعو برلين إلى منع دخول أردوغان ألمانيا بسبب حملته ضدهم في الموضوع الأرمني.
سخرية القدر ربما هي أن يتّخذ البرلمان الألماني قراراً سياسياً، بتحميل الأتراك مسؤولية ارتكاب المجازر ضد الأرمن وأقليات مسيحية قبل مائة عام في شرق الأناضول، وأن تلجأ أنقرة إلى المحكمة الدستورية الألمانية لمطالبتها بإلغاء قرار البرلمان، وهو ما يعني تراجع الدبلوماسية، وفرص الحوار والحل السياسي لأزمة بين شريكين وحليفين قويين، وأن تختار تركيا الذهاب إلى القضاء الألماني، لتحكيمه، ولمساعدتها على الخروج من ورطتها.
استهدافات وأخطاء
تعرف تركيا أنها مستهدفة، بسبب صعودها الاقتصادي الإنمائي في العقد الأخير، وتطوير تكنولوجيتها العسكرية، وتحرّرها في تحديد مواقفها في الداخل والخارج، بعيداً عن طلب الدعم أو الارتهان أو المبايعة، وأن ما يجري هو تمرّد على السياسات التقليدية، وانشقاق على الوعود المقطوعة بالولاء للغرب وأميركا، وأن للثمن الذي تدفعه، اليوم، علاقة مباشرة بمحاولة دولة إقليمية متوسطة مقارعة الكبار ومنافستهم وإغضابهم بالتمرّد على طريقتهم، في إدارة اللعبة، لكنها تعرف أيضاً أن الزيارات المتلاحقة، والانفتاح التركي على القارة السمراء ودول أميركا اللاتينية، لن يعوّض أنقرة غيابها الطويل عن زيارات بيروت والقاهرة ودبي وبغداد.
أخطأت أنقرة في المبالغة بالرهان على مسار ثورات الربيع العربي ومستقبلها، وفي تمسكها بمواقفها حيال هذه الثورات، على الرغم من تغير المشهد، وانقلاب المعادلات والتحالفات، رأساً على عقب في دول عديدة. رفضت عقد صفقات جديدة، ودفعت ثمن تمسكّها بمواقفها وسياساتها التي تركتها في عزلةٍ ومواجهةٍ مع لاعبين محليين وإقليميين. تقول أنقرة اليوم إن الدعم الأميركي لحزب الاتحاد الديمقراطي يعني دعم حزب العمال الكردستاني أيضاً، وتقول واشنطن إنها لم تعثر على الوثائق التي تثبت الترابط العضوي بين التنظيمين الكرديين.
الشعار الذي رفعه رئيس الوزراء التركي الجديد، بن علي يلدريم، حول تقليص عدد الأعداء وزيادة عدد الأصدقاء، هو بمثابة معادلة دفاعية، بالمقارنة مع نظرية حماية العمق الاستراتيجي الهجومية لسلفه داود أوغلو، وهي أكثر تواضعاً واعتدالاً وقبولاً. لكن، كيف ستتحرّك أنقرة لتطبيق هذه المعادلة، وسط بحر من العلاقات المتردية مع شركاء وحلفاء، قبل الحديث عن التدهور المتزايد مع المنافسين والخصوم؟
وقد جاء قرار تكليف وكيل وزارة الخارجية التركية، فريدون سينيرلي أوغلو، بمهمة دبلوماسية جديدة طويلة الأمد خارج تركيا، وهو الشريك الأول لأوغلو في رسم السياسات الخارجية، قد يكون أحد أهم المؤشرات الحقيقية على بداية التحوّل في مسار السياسة التركية الخارجية التي بدأت تغيير اللاعبين المحليين في موقع القيادة، والتي ستكون، كما هو واضح، متزامنةً مع انطلاق عملية التحول السياسي والدستوري التي تنتظر تركيا في الأشهر القليلة المقبلة.
ويقول نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، إن السياسة الخارجية التركية تواجه أزمات في ستة أماكن، هي سورية وأميركا وروسيا وإسرائيل وإيران ومصر وأوروبا. ويتحدّث وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، عن ضرورة توفير الحلول لملفات أساسية هي الملف الأرمني والكردي والقبرصي والطاقة. وتنتظر حكومة يلدريم ملفات كثيرة، لكن ذلك يتطلب، أولاً، معرفة من الذي سيقود عملية التغيير، أي إبقاء حزب العدالة والتنمية موحداً ومتماسكاً، ثم حماية المسافة التي تفصل بينه وبقية أحزاب المعارضة شعبياً ثانياً. والحؤول دون وقوع أية مفاجآت داخلية، أمنية أو اقتصادية ثالثاً، وهي متطلباتٌ لن يكون من السهل تجاوزها، وسط كل هذه الهبات والخضات المتلاحقة.
أردوغان في الحكم حتى منتصف عام 2019، إذا تعذّر حدوث التغييرات الدستورية التي يريدها، والتي ستوصله إلى السلطة حتى عام 2023 على أقل تقدير، لكن مشكلته ستبقى أنه يعيش وسط بحيرةٍ من التوتر في العلاقات التركية مع الحلفاء والشركاء ودول الجوار، فكيف سينجح في الجمع بين إمساكه بدفة القيادة الداخلية والتخلص من مطبّات السياسة الخارجية وأفخاخها؟
وقد بات مطلب مواصلة الصعود التركي الاقتصادي والإنمائي مرتبطاً بمراجعة خطط التغيير الحقيقي السياسي والدستوري والاجتماعي في الداخل، وتحريك الجانب الحواري أيضاً، في الملف الكردي تحديداً، ثم إعادة درس سياسات الانتشار والتمركز الإقليمي، وإقرارها، وهذه مهمة لن تكون سهلة إطلاقاً أمام كل هذا الكم من العوائق والضربات الموجعة التي تتلقاها الدبلوماسية التركية.
هناك عدة عوامل فرضت على أوغلو تبني سياسة شرق أوسطية جديدة، منها التخوّف من ازدياد الابتعاد والعزلة إقليمياً، وقناعة تركيا بأن قوتها الاقتصادية والإنمائية هي فرصتها الأقرب لحماية المصالح والأهداف، ولعب الدور الإقليمي الريادي. لكن، هناك من شجع القيادات السياسية التركية على المضي حتى النهاية، وراء أوراق إقليمية خاسرة، تحولت، مع الوقت، إلى مصيدةٍ لها. تُرى، هل تتحمل واشنطن الشريك الاستراتيجي الأول مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه النقطة من التدهور؟
ولا يمكن القول إن الإنجازات السياسية التي يحققها رجب طيب أردوغان في الداخل التركي، والأهداف اليومية التي يسجلها في مرمى المعارضة باحتراف، تتحقق أيضاً على رقعة الشطرنج الإقليمية في هذه الآونة تحديداً. وقد اهتز التفوق التركي في السياسة الخارجية التي رسم الخوجا داود أوغلو معالمها ووضع أطرها في أكثر من مكان، وباتت أنقرة تواجه مشكلة زيادة عدد المتاريس، وتحصين مواقعها السياسية والأمنية والاستراتيجية، حيال أكثر من ملف وأزمةٍ ورياح عاصفة، تهدّد من كل صوبٍ، بعكس ما تشتهي السفن التركية.
وتعرف أنقرة تماماً أن أي زلزال دستوري، تعيشه سورية في المرحلة المقبلة، ستكون في مقدمة المتضررين من ارتداداته وآثاره السلبية، فعاصفة قوية تهدّد التوزيع الديمغرافي العرقي في سورية لا بد أن تنال تركيا حصتها منها.
وكثيرون هم اليوم الذين يريدون تصفية حساباتهم مع أنقرة، بسبب التباعد في التعامل مع ملفاتٍ إقليمية، تتقدمها الملفات السورية والإيرانية والإسرائيلية والفلسطينية والمصرية والإخوانية والتكتل السني الذي ارتفعت أسهمه، في الأشهر الأخيرة. وتعرف حكومة “العدالة والتنمية” أن محاولات استهدافها لن تتوقف، بل على العكس ستتزايد، كلما قاومت ونجحت في التصدّي لهذه الهجمات المباشرة، أو عبر وكلاء، تعرف أن الخروج من المأزق يتطلب إعادة التموضع، وتقديم التنازلات المرتبطة بسياستها الخارجية الجديدة. فكيف ستعيد ترتيب شؤونها، لتخرج بأقل الخسائر والأضرار في مواجهتها مع التفاهم الأميركي– الروسي– الإيراني الذي يحرّك لاعبين محليين كثيرين ضدها، ويحاول الرد على تحالفاتها الإقليمية الجديدة؟
سمير صالحة