د. معمر فيصل خولي
أطلت علينا قبل أيام الذكرى الخامسة لمحاولة الانقلاب العسكري الذي وقع في تركيا في 16 تموز/يوليو 2016م. وعلى الرغم من الدور الذي مارسته السلطتان التنفيذية والتشريعية والأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية في إفشاله، إلا أنه من الصعوبة بمكان إغفال دور النخبة والجماهير التركية في إفشاله أيضًا.
بعد دقائق قليلة من تصريحات رئيس الوزراء التركي- آنذاك- بن علي يلدريم، والتي أكد خلالها وجود محاولة انقلابية في اليوم الانقلابي، برز على الفور موقف الأحزاب السياسية التركية الرافضة للإنقلاب العسكري، فحزب الشعب الجمهوري، الذي كان عرّاب الانقلابات العسكرية سابقًا، أعلن- حينها- زعيمه كمال قلجدار أوغلو أن «تركيا عانت من الانقلابات وسندافع عن الديمقراطية». من دون أن يدعو أنصاره للنزول إلى الشارع، فيما بدا موقفًا واقعيًا وأخلاقيا في ذات الوقت، يثبت بعض التحول في ثقافة أنصار الكمالية. وذلك بالنظر إلى الدور الذي أداه الحزب على تاريخ في دعم المحاولات الانقلابية، أو على الأقل السكوت عنها والاستفادة منها للعودة إلى الحكم، كما حصل في انقلابي 1960م و1971م، وكذلك في الانقلاب الناعم 1997م.
أما حزب الحركة القومية، كان رفضه للانقلاب تعبيرًا عن مواقفه التاريخية، عندما رأى بأن “الدولة والنظام والأمة” هي المستهدفة، ولتشابك القواعد الشعبية بين “الحركة القومية” و”العدالة والتنمية”.
أما بالنسبة لحزب الشعوب الديمقراطية، فلم يكن من المنتظر منه سوى معارضة المحاولة الانقلابية، بسبب تشكّل جميع قيادات الحزب ونوابه من النخبة المثقفة اليسارية الكردية والتركية، والتي قضت سنوات في المعتقلات وتحت التعذيب، بسبب المؤسسة العسكرية وبالذات بعد انقلاب عام 1980م.
فإن انقلابًا عسكريًا قد يعني بالنسبة للشعوب الديمقراطية إطلاق يد الجيش في جنوبي شرق تركيا ضد المسلحين الأكراد وقاعدتهم الشعبية بصورة أكبر. إلى جانب تداعيات الانقلاب على بناء النظام السياسي وآليات تداول السلطة. لذلك فضّل “الشعوب الديمقراطي” ما اعتبر “قسوة” حزب “العدالة والتنمية” في التعامل مع “الكردستاني” على قسوة الجيش، لأن قدوم الجيش يعني تدمير الحدّ الأدنى من الحريات، التي ما زالت تتمتع بها الحركة القومية الكردية.
تلك الأحزاب ولاسيما حزب الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطية وعلى الرغم من تباينها الفكري والبرامجي مع حزب العدالة والتنمية، ومعارضتها الشديدة لمجمل السياسات الداخلية والخارجية لرئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان إلا انها رفضت جميعها المحاولة الانقلابية وانتهاز الفرصة التاريخية للتخلص من خصم قوي كحزب العدالة والتنمية والرئيس التركي، لكنهم لم يفعلوا ذلك ليس حرصًا عليهما، وإنما للحفاظ على المكتسبات المتراكمة للنظام الديمقراطي والإلتزام بقواعده، وكأن لسان حالهم يقول: إن الحزب السياسي الذي يحكم تركيا وفق صناديق الاقتراع لا يغادر الحكم إلا من خلالها وليس عبر انقلاب عسكري، نظرًا لما له من تأثير سلبي على الحياة السياسية التركية برمتها. لذلك أصدرت الأحزاب الأربعة” العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري، والحركة القومية، والشعوب الديمقراطية” بيان نيابي تدين المحاولة الانقلابية الفاشلة.
وهذا الموقف الرافض لمحاولة الانقلاب من قبل الأحزاب ينسحب أيضا على موقف المجتمع النخبوي منه وخاصة وسائل الإعلام التركية، إذ ساهمت بدور كبير في إفشال المحاولة الانقلابية من خلال قيامها بأدوار متعددة كقيام إحداها في إجراء لقاء سريع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتبيان موقفها الرافض للانقلاب والذي دعا من خلال تلك القناة الشعب التركي للنزول إلى الشوارع لمواجهة الانقلاب. وقيام أخرى بعرض مواقف الأحزاب السياسية التركية الرافضة للانقلاب واجراء مقابلات مع مسؤولين أتراك سابقين رافضين لمحاولة الانقلاب أمثال رئيس الجمهورية التركية السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو. هذا الموقف يعد موقفًا تاريخيًا لوسائل الاعلام التركية إذ لم يحدث من قبل أن واجهت تلك الوسائل أي محاولة انقلاب عسكرية من قبل.
أما الجماهير التركية فكان لها دور محوري في إفشال الانقلاب، فبمجرد ظهور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على قناة تلفزيونية (عبر تطبيق للاتصال المرئي على جهاز التلفون الجوال) ليطلب من شعبه التصدّي لعملية الانقلاب،اندفعت الجماهير التركيّة للدفاع عن ديمقراطيتها ضد المحاولة الانقلابية إلى جسر البوسفور والصمود هناك، كما استمر التحشّد الجماهيري الرافض للانقلابيين في مدن عديدة، كان أبرزها في العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة الاقتصادية اسطنبول.
كان هذا النزول مستندًا على قناعة جماهيرية ديمقراطية مفادها بأن عقارب الساعة الديمقراطية التركية لا تسير إلى الوراء وانها لن تقبل استنساخ تجارب الانقلابات العسكرية السابقة التي فرضت وصايتها على النظام السياسي والمجتمع المدني التركي، وكما كان خروجها للشوارع للتأكيد أيضًا على قناعتها الراسخة بأن دور المؤسسة العسكرية ينحصر في حماية الدولة التركية من الاعتداءات الخارجية فقط.
لاشك أن موقف النخبة والجماهير المعارض للانقلاب العسكري – الذي سرّع من انهياره – كان موقفًا سليمًا مستندًا على وعي عميق، مفاده بأن الدولة التركية في مرحلة ما بعد عام 2002م، تنظر إلى الانقلابات العسكرية في الحياة الساسية التركية على أنها شيء من الماضي، وأنها لن تحكم إلا وفق آليات الديمقراطية.
وحدة الدراسات التركية