دفعت السياسة “الحذرة والمترددة” للولايات المتحدة الأمريكية تجاه تطورات الأزمة السورية، بواحد وخمسون مسؤولاً في وزارة الخارجية الأمريكية بتوقيع مذكرة سرية طالبت البيت الأبيض بشن غارات عسكرية على النظام السوري لحمله على التقيد باتفاق وقف الأعمال القتالية، وكذلك دعم انتقال سياسي دون بشار الأسد. ودعت المذكرة إلى «الاستخدام المدروس لأسلحة بعيدة المدى وأسلحة جوية» ضد نظام بشار الأسد، معتبرة أن الوضع القائم في سورية ما زال يؤدي إلى «أوضاع كارثية في المجال الإنساني وعلى الصعيد الديبلوماسي والإرهاب». وأكد موقعو المذكرة أن «المنطق الأخلاقي للتحرك من أجل وقف المجازر وآلاف الضحايا في سورية بعد خمس سنوات من حرب رهيبة، واضح وغير قابل للجدل».
وتعكس المذكرة الداخلية المسربة من وزارة الخارجية الأميركية حول سوريا خيبة أمل قائمة منذ أمد طويل لدى طيف واسع من الدبلوماسيين والمسؤولين الأميركيين بسبب طريقة تعامل البيت الأبيض مع الملف السوري. بينما تنبع أهميتها التي سربت إلى صحيفتي وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز، من أنها تدق ناقوس الخطر من التداعيات الوخيمة لترك الملف السوري مشرعا على مصراعيه، دون أت تمارس إدارة أوباما ضغطا حقيقيا قد يفضي إلى تغيير في حسابات النظام السوري. وأكدت المذكرة أن سياسة إدارة الرئيس أوباما المتبعة حاليًا تعمل بالضد من المعارضة السورية، وتعين الرئيس بشار الأسد على الاحتفاظ بالسلطة في دمشق.
الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية أكد استلام المذكرة، لكنه امتنع عن التعليق على محتوياتها، ولكن مسؤولًا له علم بالمذكرة قال إنها أرسلت “لأن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر”، وقال إن موقعي المذكرة حثوا الإدارة الأمريكية على توجيه تهديد يتمتع بمصداقية بالقيام بعمل عسكري ضد حكومة بشار الأسد، وإلا فلن تشعر الحكومة السورية بأي ضغط يجبرها على التفاوض مع المعارضين، وأن هذا الموقف الدبلوماسي يعبر عن المخاوف من أن انهيار عملية السلام التي ترعاها روسيا والولايات المتحدة بما يعود بالنفع على حكومة دمشق.
ربما يمكن القول إن الاتجاه الذي بدأ يظهر في واشنطن ويدعو إلى توجيه ضربات عسكرية ضد نظام بشار الأسد، يستند إلى أن مجرد التهديد باستخدام القوة في التعامل مع تطورات الأزمة السورية يمكن أن ينتج تداعيات إيجابية بالنسبة لواشنطن، على غرار ما حدث في أيلو/ سبتمبر 2013، عندما هدد الرئيس باراك أوباما باستخدام القوة للرد على اتهام نظام بشار الأسد باستخدام الأسلحة الكيماوية في الهجوم على الغوطتين الشرقية والغربية لريف دمشق، في أغسطس من العام نفسه، حيث أدى ذلك في النهاية إلى تفكيك الأسلحة الكيماوية السورية بعد المبادرة التي طرحتها روسيا في هذا السياق.
ونظراً لأهمية هذه المذكرة التقى وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، بعشرة من الدبلوماسيين الموقعين علىها، وقال المتحدث باسم الخارجية جون كيربي، خلال المؤتمر الصحفي اليومي، إن اللقاء استمر 30 دقيقة، مشيرًا إلى أن جميع الدبلوماسيين المشاركين في اللقاء، يعملون في المقر الرئيسي للوزارة بواشنطن، ولم يفصح “كيربي” عن معلومات تتعلق بفحوى اللقاء، مكتفيًا بالقول: “كيري غادر اللقاء بشكل إيجابي جدًا”، مضيفًا “كان اللقاء على شكل تبادل للآراء، وأدلى كيري بمعلومات عن سياسة واشنطن في سوريا”، ورفض “جون كيربي”، تأكيد طبيعة النقاشات أو محتوى العريضة التي ذكرت تقارير أنها كانت تدعو لشن ضربات على نظام الرئيس السوري، بشار الأسد.
وإزاء هذه المذكرة تباينت المواقف بين مؤيد ومعارض لها، أمريكيا ودوليا، فعلى مستوى مؤيد لها أمريكيا، ارتكز تأييدهم للمذكرة على رفضهم تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط في السياسة الأمريكية وتصاعد الاتجاه الداعي إلى خفض الانخراط الأمريكي في تلك المنطقة منذ عام 2005م، وتأكد هذا الاتجاه مع وصول إدارة الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض عام 2009م،حيث قدرت تلك الإدارة أن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الرئيسية، خلال القرن الحادي والعشرين، تتركز في جنوب وجنوب شرق آسيا، مما دفعها لتطوير استراتيجيتها المسماة”الاستدارة شرقاً” وهذا ما انعكس- من وجهة نظرهم- على أداء السياسة الأمريكية الضعيف حيال الأزمة السورية وهذا ما يرفضونه.
ومن السياسيين المؤيدون لهذه المذكرة السيناتور الجمهوري، جون ماكين المذكرة، قائلاً إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، يتحمل مسؤولية الكثير من الأحداث الدولية بسبب فشل سياساته بالشرق الأوسط، مبديًا تأييده لمطالب موظفين بالخارجية الأمريكية بشن ضربات على النظام السوري الذي قال إن تدخل موسكو وإيران أنقذاه من سقوط سريع، كما اعتبر أن روسيا عادت للشرق الأوسط بسبب الإخفاق السياسي الأمريكي.ورد جون ماكين، على سؤال حول العريضة التي وقعها العشرات من موظفي وزارة الخارجية احتجاجًا على سياسة البيت الأبيض تجاه سوريا والمطالبة بتنفيذ ضربات عسكرية ضد نظام الرئيس بشار الأسد: أن العريضة “تحمل تواقيع شخصيات مؤثرة للغاية ومحترفة مثل السفير السابق بسوريا، روبرت فورد، الذي يتمتع باحترام واسع”، وتابع ماكين بتأكيد اتفاقه مع محتوى العريضة قائلًا: “داعش في نهاية المطاف ليس الجهة التي تقوم بإلقاء البراميل المتفجرة على آلاف المدنيين من الأطفال والنساء وليس الجهة التي تقوم باستخدام الأسلحة الكيماوية لقتل الآلاف من الأبرياء وليس هو من يحتجز الآلاف في سجونه”، بإشارة منه إلى ممارسات يُتهم بها نظام الرئيس السوري، بشار الأسد.
جون ماكين نبه إلى مستوى تحالفات الرئيس السوري بشار الأسد الدولية وتداعياتها على الموقف الأمريكي بالقول: “الفظائع التي ارتكبها نظام بشار الأسد لم تشوهه فحسب، بل طالت تداعياتها أيضًا كل حلفائه اليوم من إيران إلى روسيا”، وذكّر ماكين بأن وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية، CIA، الجنرال ديفيد بتريوس، كانا قد طالبا في 2011 بتدريب وتسليح المعارضين السوريين والجيش السوري الحر لإنهاء ما يجري على الأرض لكن الرئيس أوباما رفض ذلك، مضيفًا “نحن بعد ثماني سنوات من حكم أوباما مللنا من استخدام الشماعة القديمة بإلقاء اللوم دائمًا على حقبة حكم الرئيس السابق، جورج بوش”.
السيناتور الجمهوري أضاف قائلًا: “الحقيقة هي أنه بفضل سياسة تعزيز القوات التي طبقها في العراق انتهى الصراع وجرى طرد القاعدة نحو سوريا؛ حيث تحول التنظيم إلى داعش وترك التداعيات التي نراها اليوم. فشل الرئيس أوباما في ترتيب بقاء قوات أمريكية في العراق أدى إلى هذا الوضع غير المستقر والذي توقعنا مسبقًا حدوثه”، واتهم ماكين سياسات أوباما الفاشلة بالتسبب في أكبر موجة من اللاجئين في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وتعريض أمريكا وأوروبا لهجمات كثيرة مستطردًا بالقول: “هذا ليس وليد الصدفة، بل يعود لفشل سياسات أوباما رغم الاعتراضات والتوصيات المقدمة من الكثير من الشخصيات الموهوبة والذكية مثل بتريوس وكلينتون وبانيتا”.
وفي هذا السياق المؤيد للمذكرة قال “إد رويس” رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، المنتمي للحزب الجمهوري، “حتى وزارة الخارجية في إدارة أوباما نفسها تعتقد أن سياسة الإدارة الأمريكية حيال سوريا تفشل”، وأضاف “إيران وروسيا والأسد هم الذين يحركون الأوضاع في سوريا، متجاهلين وقف إطلاق النار وسامحين للأسد بمواصلة جرائم الحرب ضد شعبه”. ومن جانبه قال المتحدث السابق باسم الخارجية الأمريكية فيليب كراولي إنها “مرآة لخيبة أمل لدى الجميع تجاه الوضع الحالي”. ويضيف كراولي أن تسريب المذكرة التي رفعت عنها السرية المفترضة فيها يؤشر على رسالة يراد توجيهها بأن “الجهود الحالية غير فعالة”.ويقول المسؤول الأميركي السابق في تصريحات للجزيرة نت إن الإدارة ناقشت خيارات إضافية بشأن الأزمة السورية، ولكنها لا تقترح ضرب قوات النظام السوري كما تدعو إلى ذلك مذكرة الدبلوماسيين.ويضيف أن “هناك جانبا من الحقيقة في ما ورد في المذكرة وهي أن الأسد لا يشعر بأي ضغط كاف على الأرض”. غير أنه تساءل عن مدى نجاح أي ضربات عسكرية في تغيير حسابات النظام ومن ثم روسيا وإيران، ورأى أن تغيير حسابات النظام مرتبط أساسا بتحقيق المعارضة السورية تقدما عسكريا.
وتابع بهذا السياق المدافع عن المذكرة رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ريتشارد هاس من خلال تقريره الذي أشاره فيه بالآتي: “بعد خمسة أعوام على الحرب الأهلية، و400 ألف قتيل، وتشريد أكثر من 10 ملايين شخص، كتب عشرات من الدبلوماسيين الأمريكيين مذكرة لرؤسائهم، قالوا فيها إن سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا فاشلة، وإن هناك حاجة للتغيير”. وأضاف ” أهم ما في مذكرة الـ 51 دبلوماسيا، أنهم تحدوا وقالوا الحقيقة، وحتى لو رفضت دعواتهم الآن، فقد يرحب بها الساكن القادم للبيت الأبيض، خاصة أن كانت هيلاري كلينتون أظهرت عندما كانت وزيرة للخارجية استعدادا لاستخدام القوة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية”.
أما المعارضون الأمريكيون لهذه المذكرة يرون في الانخراط العسكري الأمريكي المباشر في الأزمة السورية من شأنه انجرارها إلى حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا بعد النتائج السلبية للتدخلات العسكرية الأمريكية في كل من أفغانستان والعراق وليبيا. كما أن ذلك يتعارض مع جهود واشنطن لمنح الأولوية للحرب ضد تنظيم “داعش” الذي بدأ يهدد المصالح الغربية بشكل مباشر، حيث كان لتفاهماتها مع روسيا التي أدت إلى صدور قرار مجلس الأمن رقم 2268 تأثير إيجابي في إلحاق خسائر مادية وبشرية بارزة بالتنظيم في سوريا والعراق. وتدخلها العسكري أيضاً من شأنه أن يصعد حدة التوتر في العلاقات مع روسيا، في ظل اتساع نطاق الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حول العديد من الملفات الأخرى، على غرار نشر أجزاء من الدرع الصاروخية في رومانيا إلى جانب الأزمة الأوكرانية، بشكل سوف يقلص احتمالات نجاح الجهود التي تبذلها موسكو وواشنطن في الفترة الحالية من أجل تعزيز فرص الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة.
فالموقف الأمريكي من الأزمة السورية واضح ومفاده أن الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً ضد النظام في دمشق، ومعركتها الأولى اليوم هي ضد «داعش» وليس ضد بشار الأسد. لذلك، فإن إدارة أوباما تحاول أن تتملّص من المعارضة السورية المسلحة المتمثلة في «الهيئة العليا للمفاوضات» وتوافق ضمنياً مع روسيا على استبدال تلك المعارضة على الأرض بقوات كردية وعشائرية تشكل «قوات سورية الديموقراطية»، مهمتها الأولى محاربة «داعش» لا إسقاط النظام. هذا التوجه يتزامن مع تقاعس دولي في مجلس الأمن والأمم المتحدة، حيث يتم عملياً اختزال المسألة السورية إلى أزمة لاجئين ومأساة إنسانية تتطلب التركيز على إدخال المعونات الإنسانية بعيداً من تصنيفها سياسية مع إبعادها عمداً عن مسار المحاسبة على ارتكاب الجرائم والفظائع. فلقد تم إجهاض «بيان جنيف» الذي تحدث عن عملية سياسية انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة. وحققت «عملية فيينا» التي ولّدتها روسيا ما تبتغيه وتوقفت حيث خططت لها موسكو أن تتوقف. أعضاء مجلس الأمن تقوقعوا في بيانات خالية وانحنوا أمام ما فرضته السياسة الروسية – الإيرانية بإذعان بلا «الخطة باء». الأمانة العامة للأمم المتحدة بلعت كلامها عن «المحاسبة» وخضعت للشريكين الروسي – الأميركي في إدارة المأساة السورية من دون أن تجرؤ على الاحتجاج. وهكذا خسرت الأمم المتحدة القيادة الأخلاقية، وتخلّت عن مبادئ المحاسبة، وتراجعت عن القيم، ورضيت بأن تكون أداة تنفيذية لإلغاء «بيان جنيف»، واختبأت في ثوب ضعفها عندما داهمها موعد آخر لعملية سياسية هو الأول من آب (أغسطس) حين كان من المفترض أن تبدأ عملية سياسية انتقالية أقل حزماً من التي أطلقها «بيان جنيف». مواساتها الوحيدة هي أن القيادة الأميركية والقيادة الروسية فقدتا البوصلة الأخلاقية في سورية قبل أن تضطر قيادة الأمم المتحدة للالتحاق بهما.
ما يقوله المطلعون على تطورات الساحة السورية هو أن واشنطن وموسكو تبدوان متفقتين الآن على الحد الأدنى من التوافق وهو «قوات سورية الديموقراطية» المكونة من الأكراد والعشائر العربية، وأن الخبراء الأوروبيين والأميركيين على الأرض لمساعدة هذه القوات لتحارب «داعش» أولاً. فهذه القوات تشمل أقليات وليس فيها حركات سلفية أو جهادية. وهي تبدو البديل الذي يتم إعداده لقوات المعارضة السورية تحت لواء «الهيئة العليا للمفاوضات» التي تلقى دعم تركيا والسعودية وقطر وغيرها.
لذلك، تلتقي روسيا والولايات المتحدة اليوم على دعم «قوات سورية الديموقراطية» باعتبارها من وجهة نظر موسكو البديل العلماني عن القوى المعارضة الأخرى في سورية على نسق تلك الممثلة في «الهيئة العليا للمفاوضات»، ومن وجهة واشنطن، القوى القادرة على محاربة «داعش» عملياً على الأرض. وكلاهما يوافق على وجهة نظر الآخر.فلقد كانت إدارة باراك أوباما داعمة صعود الإسلاميين إلى السلطة في مطلع «الربيع العربي» في تونس ومصر وليبيا واليمن. واجهتها القيادة الروسية على مستوى الرئيس فلاديمير بوتين مواجهة شرسة إلى أن التقيا في سورية وتمكنت موسكو تدريجاً من سحب واشنطن إلى معسكرها، باستثناء الخلاف بينهما على تركيا وكذلك مصر إلى حد ما.
يأتي التلاقي الأمريكي الروسي في أزمة السورية يأتي ضمن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، ويمكن في هذا الإطار، تبين ملامح ثلاث استراتيجيات أمريكية متوالية:
- الفوضى الخلاقة التي استهدفت رفع الدعم عن أنظمة الحكم القائمة في بعض الدول العربية، ومنح فرصة لما تصورته السياسة الأمريكية تيارا إسلاميا معتدلا ليكون بديلا للأنظمة القائمة، وللتطرف الإسلامي في آن واحد. وقد كشفت أحداث الخمس السنوات الماضية الأخيرة عن تهافت هذا التصور، بسبب عدم وجود فوارق حقيقية بين التيارات المختلفة التي تتبنى دعاوي السياسة المقدسة، سواء أكانت معتدلة أم متطرفة، حيث تتعاضد وبعضها بعضاً، مثلما كشفت خبرة حكم الإخوان المسلمين في مصر،وليبيا، وتونس. وتنتهج جميعاً نمط سياسات يغذي الإقصاء، والتطرف. وكذلك بسبب رفض شعوب المنطقة لهذا الخيار.
- سياسات التوازن الطائفي المستندة على ايجاد توازن قوي طائفي، سني-شيعي، بين إيران والدول العربية ذات الأغلبية السنية. فقد أدى باتجاه خلق هذا التوازن إلى إثارة نعرات الصراع الطائفي ومفاقمتها، وخاصة مع الصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية على مناطق النفوذ في المنطقة. ولم تكن النتيجة الإقليمية سوى تعزيز قوى الإرهاب وتنظيماته إقليمياً، ونشر قيم التطرف، ومشاعر الكراهية الطائفية بين فئات مهمة من المسلمين التي عانت اغترابا ثقافيا أو تهميشاً عبر العالم.
- مع بروز مخاطر كلتا الاستراتيجيتين السابقتين، بدا وجود قبول أمريكي، منذ منتصف عام 2015م، لمحاولة تأسيس نظام أمني متعدد الأطراف ومتوازن في المنطقة، بحيث تلعب بعض التحالفات الإقليمية، إضافة إلى حضور مباشر من قبل قوى دولية ذات مصالح في المنطقة، أدوراً أمنية محدودة ومتنافسة، تحت رعاية أمريكية. برز ذلك في القبول الأمريكي بدور عسكري روسي مباشر في سوريا، وإنشاء قاعدة بريطانية في البحرين، في أول عودة لوجود بريطاني عسكري مباشر في المنطقة منذ غادرتها عام 1971م، فضلاً عن السماح بدور فرنسي في بعض المرتكزات التي تقدر السياسة الفرنسية إنها مهمة لأمنها أو لمصالحها الاقتصادية.
تتمثل معضلة هذه الاستراتيجية الأخيرة في أن تنافس الأدوار والأجندات الأمنية بين القوى الإقليمية يهدد بتفجر مستمر للصراعات فيما بينها، أو بينها وبين القوى الدولية الآخذة في تأسيس مراكز أمنية جديدة لها في المنطقة. فضلاً عن ذلك، فإنه لا يبدو أن أي قوة دولية أخرى راغبة في تحمل أي أعباء أمنية تتجاوز ضمان مصالحها المباشرة والمحددة في المنطقة. مثل الوجود الروسي في شرق المتوسط، أو مساعي الصين في لتأسيس قاعدة عسكرية في جيبوتي لتأمين طرق الملاحة البحرية مع شرق أفريقيا وعبر البحر الأحمر. ويعزز احتمال محدودية انخراط قوى دولية، بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية في صياغة أي معادلات أمنية جديدة في الشرق الأوسط، البروز المتزايد لمنطقة القطب الشمالي كمركز لثروات وافرة من النفط والغاز وغيرهما من الموارد الطبيعية، فضلاً عن التنامي التدريجي في أهميتها كممر ملاحي، حتى لو كان موسمياً، لكنه أقصر وأكثر أمناً مما عداه من طرق ملاحية تقليدية، خاصة تلك التي تمر عبر الشرق الأوسط.
ويعتبر نائب رئيس الأمريكي “جو بايدن” من أبرز المسؤولين الأمريكيين الرافضين للمذكرة إذ انتقد الدبلوماسيين الموقعين عليها، وقال إنه والرئيس باراك أوباما، مستعدان دائمًا للاستماع لوجهات نظر جميع الدبلوماسيين، إلا أن المذكرة التي وقع عليها 51 دبلوماسيًا، لن تترتب عليها نتائج مفيدة فيما يتعلق بسوريا، وأكد “ جو بايدن” أنه لا يوجد حل وحيد، لوقف الحرب في سوريا، وحل المشاكل التي تعاني منها.وحول مطالبة الدبلوماسيين في مذكرتهم، باستخدام القوة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، قال “جو بايدن”، إن التدخل العسكري ليس أسلوبًا صحيحًا، واعتبر أن المذكرة لا تحمل أية اقتراحات ملموسة، كما أكد على معارضته للتدخل العسكري في سوريا وليبيا.
وقد رد “جوش آرنست” المتحدث باسم البيت الأبيض على مذكرة الدبلوماسيين بما ينسجم مع رؤية باراك أوباما لحل الأزمة السورية فقد قال أن الرئيس باراك أوباما لن يغير رأيه حول مقاربته للحرب الأهلية السورية، حتى لو كان قرأ مذكرة 51 من الدبلوماسيين الأميركيين التي تدعو إلى توجيه ضربات عسكرية أميركية مباشرة لإجبار نظام الرئيس السوري بشار الأسد على التفاوض للتوصل إلى سلام. وقال خلال موجز صحفي دوري، قدمه 20 حزيران/يونيو الحالي: “حسناً.. أنا لا أعرف ما إذا كان الرئيس قد قرأ المذكرة، لكن أوباما يقف إلى جانب اعتقاده أنه لا يوجد حل عسكري للصراع المستمر منذ خمس سنوات في سوريا”. وأضاف، أن الدروس التي تعلمتها الولايات المتحدة من الحرب على العراق، في العام 2003، تؤكد عدم وجود حل عسكري للنزاع في سوريا.
وقال: “إن سياستنا الحالية في سوريا منعت تكرار الأخطاء التي ارتكبتها الإدارات السابقة”، مشيراً إلى أنه ليس بإمكان أحد تحقيق نجاح إذا عول على الحل العسكري في سوريا. وتابع: “أعتقد أنه أهم الدروس التي تعلمناها بعد التدخل في العراق الذي أقدمت عليه الإدارة السابقة في العام 2003”.وأشار أن “الرئيس يرحب بأي شخص لديه فكرة جيدة، ولكن الرئيس واضح تماماً عن المبادئ التي نحن بحاجة إلى الالتزام بها من أجل حماية مصالحنا”.
كما شكك في تجنب وقوع حرب شاملة مع سورية في حال اللجوء إلى الخيار العسكري ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد. قال: «أعتقد أن ذلك يعني أنه ينبغي علينا أن نوجه قوة الجيش الأميركي ضد نظام الأسد، وأعتقد أن الأمر يثير الكثير من الأسئلة: أولاً، كيف يمكن القيام بذلك من دون إيذاء المدنيين الأبرياء؟ ثانياً، لست متيقناً من التفويض القانوني الذي سيستند إليه الرئيس للقيام بأمر مماثل. ثالثاً، يبدو الأمر كمنزلق، فهل تقتصر المسألة على جولة واحدة من الضربات الصاروخية، ثم نمضي بعد ذلك شهراً ونحن نحاول التفاوض مجدداً؟ وفي حال لم يتحقق أي شيء، هل نشن مزيداً من الضربات الجوية، أم علينا أن نواصل تصعيد عملنا العسكري؟ وما هي نقطة النهاية؟ يصعب أن ينتهي الأمر من دون حرب على أمة ذات سيادة تتلقى الدعم من روسيا وإيران».
إن لم يكن هناك تكتيك ركيك للدفاع عن سياسة فاشلة بهذا المقدار من الإهانة لذكاء 51 ديبلوماسياً، فما قاله جوش إرنست هو المسودة الكلاسيكية. لا داعي لتفنيد كل جملة نطق بها، فكل كلمة تشكل دليلاً وقاموساً للسياسة الأوبامية. هذا الرد يفضح ما خلفته السياسة الأميركية نحو سورية وهو افتقاد أي أساس للزعم بأن للولايات المتحدة الأرضية الأخلاقية العليا. هذه السياسة سلبت الولايات المتحدة من القدرة على القول أنها ذات قيم أعلى من الدول الأخرى. لذلك، أتى الاحتجاج الجريء لهذا العدد الكبير من الديبلوماسيين الأميركيين الذين أرادوا للولايات المتحدة الأمريكية ألا تخسر التمييز في هذه المرتبة المهمة عالمياً. مثل هذا الاحتجاج ما كان ليأتي من الديبلوماسيين في روسيا ولا من الموظفين في الأمم المتحدة. الولايات المتحدة لا تتوقف عند إدارة أو عند سياسة أو عند رئيس ما. وأقل ما يمكن الاعتراف لها به هو أهمية جرأة ديبلوماسيين أميركيين أن يعارضوا رئيسهم ويقولوا له: «خذلتنا أخلاقياً وإنسانياً وقيماً».
أما عن المواقف الدولية المؤيدة والمعارضة لمذكرة الدبلوماسيين الأمريكيين، فعلى مستوى الأول يمكن أن نستدل على تصريح لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير حينما سُأل في أثناء زيارته لواشنطن، عن موقف المملكة العربية السعودية منها ،أجاب بالقول:” قلنا منذ بداية الأزمة السورية إن من المفترض أن يكون هناك تدخل أكثر حسماً في سوريا”. وهذه إشارة واضحة لموقف المملكة العربية السعودية الداعم لاستخدام القوة العسكرية لاجبار بشار الأسد على الرحيل عن حكم سوريا. أما روسيا فهي تمثل الموقف الرافض للمذكرة إذ سارعت إلى توجيه انتقادات لها، حيث قال نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أن الدعوة لتوجيه ضربات عسكرية أمريكية في سوريا تتعارض مع القرارات الصادرة من مجلس الأمن، في إشارة إلى القرار الأخير رقم 2268 الذي صدر في 26 شباط/ فبراير 2016، بعد تفاهمات جرت بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، الذي قضى بوقف الأعمال العدائية بين النظام السوري وقوى المعارضة، وهو ما يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن أى تغيير محتمل في السياسة الأمريكية تجاه الأزمة السورية سوف يفرض تداعيات مباشرة على العلاقات بين واشنطن وموسكو.
مما تقدم يمكن القول قد لا تؤدي المذكرة إلى تغير في السياسية الأميركية، لكنها شدت الانتباه إلى قوة مضمونها من حيث إنها تعكس حنقا غير مسبوق تجاه سياسة البيت الأبيض، عبّر عنه العشرات من المسؤولين المكلفين بتتبع السياسة الأميركية تجاه سوريا، وهو عدد كبير جدا رغم أنه لا يضم دبلوماسيين من الصف الأول. وهي الأولى من نوعها التي تتخذ طريقها في قنوات الخارجية الأمريكية، فمن النادر أن يعارض دبلوماسيون بهذا العدد موقفًا يعتمده البيت الأبيض. غير أن توقيت هذه المذكرة جاء ربما في الوقت الضائع، مع توقعات ضئيلة بأن تسهم في تغيير سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما التي سترحل بعد سبعة أشهر. فموقف البيت الأبيض الرافض لهذه المذكرة قد يؤكد سياسة أوباما والولايات المتحدة الأمريكية من بعده “الإستدارة شرقا”، وأن عدم المبادرة و الفعل تجاه أزمات الشرق الأوسط ومنها الأزمة السورية هي بحد ذاتها سياسة أمريكية قد نحتاج لبعض الوقت لتقبلها.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية