أعلنت وزارة الداخلية،في الثاني من الشهر الحالي، ان وزيرها محمد الغبان أمر باحالة عدد من الضباط والمنتسبين في شرطة البصرة الى مجلس تحقيقي على خلفية مشاركتهم في تظاهرة امس الجمعة بدعوى احياء يوم القدس العالمي. وقالت الوزارة في بيانها، إن “امراً صدر من وزيرها محمد الغبان يتضمن احالة عدد من الضباط والمنتسبين في شرطة البصرة الى مجلس تحقيقي وتطبيق العقوبات الواردة في قانون عقوبات قوى الامن الداخلي، ذلك جاء بعد مشاركتهم في تظاهرة ذات طابع سياسي يوم امس الجمعة الاول من تموز الجاري بدعوى احياء يوم القدس العالمي”. وفي هذا السياق نبحث عن الدافع الرئيس الذي التي قاد وزراة الداخلية إلى إحالة ضباط الشرطة إلى مجلس تحقيقي؟
في آب/أغسطس عام 1979م اقترح “روح الله الخميني” قائد الثورة الإيرانية -آنذاك- تخصيص الجمعة الأخيرة من شهر رمضان للتأكيد على معارضة المجتمعات الإسلامية والعربية الإحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس في حزيران/يونيو عام 1967م، وقد اطلق على ذلك اليوم تسمية “يوم القدس العالمي”. أو “اليوم الدولي لمدينة القدس الشريف”. وبالفارسية يطلق عليه اسم “روز جهانی قدس”.
ولم تكن بعض محافظات العراق استثناء عن المشاركة وخاصة في مرحلة ما بعد عام 2003م، فقد شارك مجموعة الضباط العراقيين في محافظة البصرة للاحتفال بيوم القدس العالمي برعاية النظام الإيراني لكن الغريب في هذه المشاركة أن يدوس هؤلاء الضباط على علم الولايات المتحدة الأمريكية وما يحمله هذا العلم من رمزية وطنية جامعة للشعب الامريكي. فهذا التصرف من شأنه الإساءة للحكومة العراقية ويظهرها بمظهر الضعف والإحراج أمام حليفها الأمريكي الذي يعمل على تدريب الجيش العراقي لمساعدته على مواجهة تنظيم داعش الإرهابي وتساهم قوته الجوية في ضرب مواقع التنظيم الأمر الذي سهّل من تحرير الرمادي والفلوجة من ذلك التنظيم.
وقد يرى البعض أن هذا التصرف طبيعي، مستشهداً بما قام به النظام العراقي السابق حينما رسم العلم الأمريكي على عموم محافظات العراق للدوس عليه، وأنه أيضاً يأتي في سياق حرية الفكر. من الصعوبة بمكان التسليم بهذين الأمرين والقبول بهما في الحالة الأولى اتسمت علاقة نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بالولايات المتحدة الأمريكية منذ احتلال العراق للكويت في ثاني من آب أغسطس عام 1990م وحتى يوم سقوط نظامه في التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م، بالعداء الشديد، إذ اتخذ هذا العداء طابع توجيه ضربات جوية للعراق من قبل إدراة إداراة كلينتون في العام 1998م وجورج دبليو بوش في العام 2001م، ناهيك عن الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة الامريكية على العراق والذي كان له أثر سلبي مباشر على واقع العراق الاقتصادي والاجتماعي، ففي هذه المرحلة المتوترة في العلاقات الأمريكية العراقية فقد يكون أمر الرسومات من قبل النظام العراقي مبررة ومفهومة، وهي ليست كذلك في حال عراق ما بعد عام 2003م. والذي يمكن أن نطلق علية جمهورية العراق الثالثة.
فالأولى كانت منذ عهد الرئيس عبدالكريم قاسم وانتهت بنهاية حكم الرئيس عبدالرحمن عارف، والثانية استهلت مع الرئيس أحمد حسن البكر وانتهت مع الرئيس صدام حسين، أما الجمهورية الثالثة، فهي الجمهورية التي ساهمت بشكل مباشر الولايات المتحدة الأمريكية في تأسيسها عندما خططت ونفذت في العدوان و من ثم احتلال العراق والاتيان بنظام حكم حليف لها. وها هي لليوم ترعى هذا النظام الجديد لحكم العراق، والدليل على ذلك مشاركتها في تدريب الجيش والشرطة العراقية وتسهيل الحصول على قروض مالية من المؤسسات الدولية. فمن هنا لا يحوز اسقاط تجربة الرسومات على بعضهما البعض، فالعهد الجمهوري -وخاصة بعد احتلال دولة الكويت حتى سقوطه- الثاني كان الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية ناظم للعلاقة،بينما تحالف الجمهورية الثالثة هو العنوان الأبرز في العلاقة معها.
أما في الحالة الثانية الدفع بالقول أن دوس ضباط الشرطة في محافظة البصرة على العلم الأمريكي يأتي في سياق حرية الفكر. هذا الأمر صعب قبوله إن لم يكن من المستحيل ذلك. فموظفي مؤسسات الدولة عليهم الالتزام بنسقها الفكري واحترام علاقة دولتهم بالدول الأخرى، لأي مواطن له كامل الحرية في اعتناق أي فكر ديني أو إنساني خارج إطار مؤسسات الدولة كي لا يؤثر انتمائه الفكري على عمله، لك أن تتخيل في مؤسسة أمنية كمؤسسة الشرطة أن يكون أفرادها متعددي الانتماء الفكري كأن يكون أحدهما ماركسي أو ليبرالي أو إشتراكي أو إسلامي أو وجودي، حينها كيف يمكن للمؤسسة أن تضطلع بمهامها على أكمل وجه، وطالما نتحدث عن حرية الفكر، هل يقبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يكون نائبه جون بايدن من معتنقي الفكر الماركسي؟ وهل يقبل الناخب الأمريكي أن يكون المرشح لمنصب الولايات المتحدة الأمريكي شيوعي التفكير والميول بالتأكيد لا. قد يقبل الشعب الأمريكي بذلك خارج مؤسسات الدولة لكن طالما تمثل الدولة فعليك الالتزام بفكر الدولة الرسمي، وهذا إن شئت أن تعممه على أفراد الشرطة الامريكية والجيش الأمريكي فهؤلاء الأفراد لا يلتزموا إلا بفكر الدولة الرسمي، وهذا ما هو مطلوب من الشرطة العراقية الالتزام بتوجهات الدولة الرسمية وعدم القيام بأي عمل يسىء إلى سمعة وهيبة الدولة.
ومن هنا يفهم الدافع الحقيقي لوزارة الداخلية في إحالة ضباط الشرطة في محافظة البصرة إلى مجلس تحقيقي لأن ما قاموا به يتنافى مع طبيعة عملهم الشرطية ويسيء للدولة العراقية، كما أنها محاولة لاحتواء أي رسالة سلبية قد تصل للولايات المتحدة الأمريكية -جراء ذلك السلوك- راعي نظام الحكم في العراق في مرحلة ما بعد عام 2003م.
المفارقة هنا، والتي من المفيد الإشارة إليها، ففي الوقت الذي يخرج فيه مواطني مدينة اصصفهان الإيرانية في “يوم القدس العالمي” ذات المقترح الإيراني، يطالبون النظام الإيراني بوقف تدخله في سوريا، وهي إشارة واضحة لرفضهم سياساته الدموية في سورية، تقوم الشرطة العراقية في محافظة البصرة بالدوس على العلم الأمريكي وكأن الشرطة هناك تحولوا إلى ضباط إيرانيين ومع ذلك لا يقوم الضباط الإيرانيون بهذا التصرف.
خلاصة القول، يؤكد ما حدث من قبل ضباط الشرطة في محافظة البصرة في اليوم القدس العالمي بأن النظام الإيراني “الثوري” استطاع أن ينتشر في كل مؤسسات العراق وخاصة الأمنية وأن يثبت للإدارة الامريكية أن العراق ليس حديقته الخلفية وإنما الأمامية وأن عراق الجمهورية الثالثة يسير باتجاه ولاية الفقيه وأن النظام الإيراني سيحافظ بكل قوة على الجائزة الكبرى- عن قصد أو غير قصد- التي قدمتها له إدارة “جورج دبليو بوش” في التاسع من نيسان/ إبريل عام 2003م، وسياسات أوباما تجاهه فيما بعد، فالولايات المتحدة الأمريكية تحتل العراق والنظام الإيراني يوظف مخرجاته بما يخدم مشروعه التوسعي في المشرق العربي، والذي يبدأ من العراق.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية