تتفق الدراسات المقارنة للدول الحديثة، على أن قدرة الدولة على البقاء تعتمد على عدة مهام جوهرية، أبرزها قوة الدولة في الدفاع عن حدودها، وتعبئة قواتها المسلحة لردع أي أطماع خارجية، لاقتحام أرضها أو الاستيلاء عليها. وأيضاً قدرة الحكومة على تطبيق حكم القانون وإنفاذه، وتوفير الاحتياجات المعيشية لسكانها.
وكانت الأمم المتحدة – وكذلك القانون الدولي – قد أقر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بقدسية الحدود القائمة، والأهمية البالغة لسيادة الدولة على أرضها وسكانها، وسيطرتها على أي نشاط يمارس العنف فوق أرضها.
لكن في ظروف هذا العصر، وتفشي ظاهرة المنظمات التي ليست دولاً، ولا تلتزم بالقانون، أو بالمعايير القانونية الدولية، فقد صعدت قيمة الركن الأساسي في قوة الدولة ومكانتها، وهو القوات المسلحة، التي تجاوزت مهامها في حماية الحدود إلى حماية الداخل من جماعات العنف المسلح.
وفي تحليل لهذا الجانب، فإن البروفيسورة توبي دودج أستاذة العلاقات الدولية، بجامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وكبيرة مستشارين بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في لندن، كتبت دراسة نشرت بالمطبوعة الفصلية «سيرفايفل»، استشهدت فيها بالعراق كنموذج لما جرى للقوات المسلحة. وقالت إن فشل بغداد في ردع تقدم«داعش» يفهم جيداً على ضوء دراسة الطرق التي اتبعتها الحكومات التي حكمت العراق منذ عام 2003، والتي قوّضت بشكل منظم كل ركن من أركان بقاء الدولة، وخلقت أزمة تسببت في انهيار العسكرية العراقية.
وتضيف في شرحها أن الفرقة الثانية للجيش العراقي، كانت أول من استسلم أثناء هجوم «داعش» على الموصل. بعدها خسرت الفرقة الثانية جسرين في مواجهة هجوم «داعش» على الفلوجة والرمادي في ديسمبر 2013. كما هربت اثنتان من كتائب الفرقة الثالثة أمام تقدم «داعش»، بالإضافة إلى اختفاء نصف أفراد الفرقة الرابعة.
وترجع أسباب الانهيار السريع للجيش العراقي إلى مشكلة واجهت الدولة ككل. فالجيش أصيب بداء الفساد، الذي انتشر في العراق في فترة حكم المالكي وكان الجنرالات الكبار يطلبون رشاوى من الضباط الأقل رتباً، مقابل ترقيتهم. وكل هذا أسهم في إضعاف قابلية الجيش للقتال دفاعاً عن الدولة، وكذلك تدهور معنوياته.
لكن ضعف الجيش، كان جزءاً من الضعف الذي لحق ببقية أركان بقاء الدولة، والتي زادت من شيوع الانقسامات، والطائفية فيها، منذ الغزو الأمريكي، وتحكّمه في إرادة الدولة.
كل هذه الأسباب أضعفت من الروح الوطنية، خاصة بين القوات المسلحة، وظهر ذلك بقوة في تنامي المشاعر الطائفية، التي من شأنها أن تمزق أواصر التماسك المجتمعي، في إطار دولة وطنية، يجمعها الانتماء لوطن له عندها الأولوية، قبل تغليب المشاعر الطائفية والفئوية.
إن إثارة النعرات الطائفية، وإضعاف مفهوم الدولة الوطنية، الحاضنة لكل مكونات الدولة، لم يأت مصادفة، لكنه كان مخططاً ضمن حسابات قوى كبرى، لاستمرارية سيطرتها على مناطق إقليمية تحتوي مصالح استراتيجية لها، وكانت هذه القوى قد أطلقت في بداية التسعينات حملة ترويج لفكرة نهاية عصر الدولة القومية، ومبشرة بالتقسيم إلى قوميات متعددة ومنفصلة.
في هذا الوقت كانت هذه القوى الخارجية قد رصدت تصاعداً داخل الدول الإقليمية في التخطيط لتحقيق تقدم داخلي فعلي، يمكن أن يضعها في وضع المنافسة مع الكبار. ويضاف إلى ذلك أن محاولات التقسيم الطائفي لجسم الوطن الواحد، أغرت دولاً إقليمية طامعة لمحاولة الاستفادة من التوجهات السياسية الخارجية لقوى كبرى، لكي يكون لها نصيب من التهام قطع من هذه الأوطان، وإقامة مواقع نفوذ لها داخل الدول المستهدفة.
عاطف الغمري
صحيفة الخليج