الاتهامات تنطلق في كل اتجاه بعد التفجير المريع الذي ضرب حي الكرادة في بغداد وتفوّق بعدد الضحايا وفظاعة الجريمة على ما سبقه منذ الغزو الأميركي قبل 13 سنة. ولأن الاتهامات لا تستند، حتى الآن، إلى أي حجة أمنية أو قانونية، فإنها تأخذ وجهة مصلحية بحسب هوية من يطلقونها. وهكذا، في مناخ التفكك السياسي والأمني والمذهبي الذي يضرب بلاد الرافدين، ليس صعباً أن تجد بين أبناء الكرادة من يتهم الفصائل والتنظيمات والعشائر السنّية، وليس تنظيم «داعش» وحده، مثلما لا يُستبعد أن تجد بين السنّة من يتهم تنظيمات شيعية بارتكاب التفجير بهدف استغلاله لتوجيه تهمة الإرهاب اليهم.
وفي مناخ الاحتشاد المذهبي هذا خرجت أصوات محسوبة على ائتلاف «دولة القانون» الذي يقوده رئيس الحكومة السابق نوري المالكي تطالب بمنع دخول أبناء محافظة الأنبار إلى بغداد، باعتبار انهم متّهمون بالجملة بدعم الإرهابيين أو بالتستر عليهم. مع أن حكومة المالكي الطيبة الذكر كانت هي التي تخلت عن حماية أهل الموصل وأبناء الأنبار وتركتهم فريسة بين يدي «داعش»، عندما انسحب الجيش العراقي من تلك المناطق ولم يقم بواجبه في حماية أهلها.
في كل الحالات، تظل وقائع الحدث العراقي هي الأفضل للحكم على الأمور. فتفجير الكرادة يأتي في ظل حملة عسكرية يقودها الجيش العراقي بالتعاون مع «الحشد الشعبي» الذي يعتبر كثيرون من المراقبين والمعنيين بالشأن العراقي أنه ميليشيا شيعية أكثر من كونه تنظيماً ذا طابع وطني. هذه الحملة تمكنت حتى الآن من تجريد تنظيم «داعش» من مواقع ومدن مهمة كان يسيطر عيلها، من الرمادي إلى تكريت وصولاً في المرحلة الأخيرة إلى الفلوجة، فيما يهدد رئيس الحكومة حيدر العبادي باستعادة الموصل، التي أطلق ابو بكر البغدادي خطاب إعلان «الخلافة» من مسجدها قبل سنتين بالضبط، وباتت تعتبر «العاصمة» الفعلية لقيادة التنظيم إلى جانب مدينة الرقة السورية.
وهو ما يمكن أن يُستنتج منه أن تفجير الكرادة هو عملية انتقامية من خسارة الفلوجة وتهديد بما هو أعظم إذا حصلت عملية التقدم التي يجري التهديد بها باتجاه الموصل، وكأن «داعش» يريد أن يقول إنه يمكن أن يخسر في المواجهة المباشرة على أرض المعركة، لكنه لم يفقد شيئاً من قدراته الإرهابية التي لا تميز بين المدن أو الضحايا، ولا تقيم فرقاً لأي حسابات مذهبية، بدليل أن ضحايا الكرادة كانوا من مختلف الطوائف العراقية.
غير أن الأمن العراقي الذي كان يُفترض أن يتحسب لإرهاب «داعش» هو أمن فالت وسائب. وهو ما عبر عنه سكان الكرادة بوضوح عندما جاء حيدر العبادي «يتفقدهم» بعد المجزرة التي أودت بأبنائهم، فرموه بالبيض وبأقسى العبارات وطالبوه بالخروج من منطقتهم. وتكفي فضيحة كاشفات المتفجرات التي كلفت الخزينة العراقية ما يزيد عن مئة مليون دولار لـ «حماية» بغداد وأحيائها وتبين أنها لا تعمل، كما أن الرجل الذي باعها للعراقيين يقيم في سجن بريطاني عشر سنوات بعد إدانته بجريمة الغش. فيما لم يتم التحقيق مع المسؤولين العراقيين الذين اشتروها، ولم يتعرض أحد منهم لمساءلة أو محاكمة!
وفوق ذلك، هناك تفكك أجهزة الاستخبارات وصراعات المسؤولين الأمنيين، وقد عبر وزير الداخلية محمد الغبان الذي ينتمي إلى «الائتلاف الوطني» عن ذلك في رسالة استقالته أمس، عندما قال إن عدم التنسيق بين الأجهزة الأمنية هو الذي يسهل الاختراقات التي ينفذ منها الإرهابيون لارتكاب جرائمهم.
بكلام آخر، لا يكفي القول إن إرهاب «داعش» هو المسؤول عن هذه المجازر والاكتفاء بذلك وكأن هذا الإرهاب هو مثل القَدَر لا يرد. فلو كان العراق دولة متماسكة بمؤسساتها السياسية وبأجهزتها الأمنية لما استطاع «داعش» أو سواه النفاذ لتحقيق الاختراقات الأمنية وارتكاب فظائعه التي تقتل العراقيين من كل الطوائف.
الياس حرفوش
صحيفة الحياة اللندنية