أعراس الدم والاستثمار السياسي

أعراس الدم والاستثمار السياسي

1019422478

في مسرحية «عرس الدم» للشاعر الاسباني لوركا، كانت ثمة عداوة دموية بين طرفين، عداوة قائمة في التاريخ، ليس مهما ما أسبابها، ثمة عملية قتل أدت إلى انتقام، ثم قتل آخر، فانتقام، وهكذا، امتدت طويلا سلسلة دموية لم يعد مهما معها التفكير في الدم الأول، صار الدم نفسه هو المعنى الوحيد لوجودهم. وصار الآخرون، لا القتلة وحدهم، موضوعا لانتقام مقدس. ضمن هذه المقدمات يتحول العرس الدموي في نهاية المسرحية الى حصاد للكراهية.
فجر يوم الأحد الماضي حدث انفجار ارهابي ضخم في مدينة الكرادة، وهي منطقة تسوق رئيسية في وسط بغداد، قالت وزارة الداخلية العراقية أنه ناجم عن سيارة مفخخة، أدى الانفجار الذي لم يترك أي أثر على أرضية الشارع، إلى حريق كبير في أكثر من ست بنايات. وقد تسبب نقص التجهيزات الخاصة بالسلامة في هذه البنايات، في مقتل الكثيرين حرقا او اختناقا بعد ان عجزوا عن الخروج بسبب محاصرة النيران لهم. وقد بلغت الحصيلة النهاية للضحايا 250 شخصا.
منذ اللحظات الأولى للمأساة، وقبل أن يجف الدم المسفوح على المذبح، سارع الجميع إلى استحضار تاريخه الخاص، وهويته الخاصة، وعلاقاته الخاصة، وبرامجه الخاصة، وتصوراته الخاصة، وأوهامه الخاصة. وتحول الدم المسفوح فجأة الى فرصة ومناسبة لتسجيل النقاط في حلبة الصراع المفتوح.
وكالعادة في أعراس الدم العراقية السابقة، تسابق الجميع إلى الاستثمار السياسي في رأسمال الدم العراقي المادي والرمزي. لم يكن مهما البحث الجنائي عن الجهة التي خططت ونفذت، ولا مهما الهدف أو الأهداف من وراء العملية، فقد أصبح اعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن التفجير حقيقة مطلقة، لم يعد مهما معها التحقيق في الجريمة. ولم يعد معها مهما التأكيد على أن الجميع قاد الأمور نحو هذه المأساة سياسيون، وأحزاب، ونخب بجميع تصنيفاتها ومرجعياتها؛ سواء عبر المشاركة الفعلية في شرعنة منطق الدم، أم عبر الصمت والفرجة السلبية على ما جرى ويجري، والأهم من كل هؤلاء وأولئك، الجمهور الذي ساهم في انتاج وديمومة هذا الوضع عبر إصراره على إعادة انتاج النخب السياسية الفاشلة التي أوصلت العراق إلى حد الـكــارثة. ونــســي الجميع في ظل هذا التـــدافع أن الـــدم يفرض شروطه الخاصة، ومنطـــقه الخـــاص بعيدا عن المستثمرين له، وبعيدا عن قدرتهم على السيطرة على تدفقه.
فرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي،كان اول المستثمرين للفاجعة، من خلال التعبير عن رغبته بالعودة إلى السلطة، ليس بشخصه بالتأكيد، بسبب الرفض المحلي والاقليمي والدولي لعودته مرة ثالثة، وإنما من خلال شخص ينصبه هو ويتحكم به عن قرب!
والميليشيات التي أصبحت بنية عسكرية موازية للمؤسسة العسكرية الرسمية، هي الأخرى عمدت إلى استثمار محرقة الكرادة للتمدد أكثر داخل المشهد السياسي العراقي، بإعلانها عن ضرورة ان يكون لهم دور في حفظ الأمن، كما جاء على لسان قيس الخزعلي قائد مليشيا عصائب أهل الحق.
على المستوى الرسمي، تكررت التصريحات التي تأتي بعيد اي تفجير ضخم في بغداد، توحي بتغييرات ومراجعات جوهرية تطال الخطط الامنية. ولعل الجديد الوحيد هذه المرة هو إعلان الدكتور العبادي سحب جهاز الكشف عن المتفجرات
من الاستخدام في نقاط التفتيش، وهذا الاعلان يكشف عن طبيعة العلاقة المعقدة بين الفساد والاستثمار السياسي في العراق. فهذا الجهاز الذي دخل الخدمة في نقاط التفتيش في العراق بداية من العام 2007، حين استوردت وزارة الداخلية العراقية عددا كبيرا من هذه الاجهزة بمبلغ 85 مليون دولار (بلغ ثمن الجهاز الواحد 40 آلف دولار) لاستخدامه في نقاط التفتيش. وعلى الرغم من الجدل الكبير حول جدوى هذا الجهاز، تحديدا بعد اتهام القضاء البريطاني للشركة المصنعة له بالنصب والاحتيال عام 2010، والذي انتهى إلى الحكم على مالك الشركة «جيمس ماكورك» بالسجن لمدة 10 سنوات في آيار/ مايو 2013 لبيعه هذه الأجهزة «المزيفة»! إلا أن القوات الامنية العراقية ظلت تستخدم هذا الجهاز طوال السنوات اللاحقة، حتى مع صدور حكم قضائي في كانون الاول/ يناير عام 2012 على المدير العام لمكافحة المتفجرات في وزارة الداخلية العراقية بالسجن لمدة 4 سنوات بعد ادانته بالفساد بقضية استيراد هذه الاجهزة! وصدور حكمين آخرين على الشخص نفسه في آب/ اغسطس عام 2015 في القضية نفسها! المفارقة هنا أن أشخاصا آخرين كانوا على صلة مباشرة بهذه القضية ظلوا محافظين على مواقعهم من دون أي مساس! فالمفتش العام لوزارة الداخلية بين أعوام 2005 و2013 والذي يفترض بحكم منصبه كشف الفساد في الوزارة، تحول إلى محافظ، وما زال في منصبه، والطريف انه صرح أكثر من مرة مؤخرا ان هذا الجهاز فاشل وأنه تسبب في هدر أرواح الأبرياء! أما مهندس الصفقة الأول، وهو رجل الاعمال العراقي الذي عرض هذا الجهاز على وزارة الداخلية وأقنعها بالشراء، والذي أدار العملية كلها، فقد تحول إلى زعيم سياسي يمتلك كتلة برلمانية من خمسة أعضاء، وكانوا جزءا مما سمي بحركة التصحيح التي قادت الاعتصام في مجلس النواب العراقي مؤخرا! سياسيا ظلت الأطراف التي لها علاقة بالصفقة، تدافع عن هذا الجهاز وقدرته على كشف المتفجرات على الرغم من هذه المعطيات كلها، فرئيس الوزراء السابق نوري المالكي وحلفاؤه ظلوا حريصين على التمييز بين أجهزة مزيفة وأخرى صالحة!
على هامش مشهد البكاءين والمستثمرين على اختلافهم، كان ثمة مشهد آخر يحدث بالتوازي مع عرس الدم في الكرادة، وهو مشهد لم يلتفت إليه أحد، بما فيهم الجهات الرسمية! فعلى بعد بضعة كيلومترات فقط من المحرقة، كانت عشرات الصواريخ تستهدف «معسكر ليبرتي» غرب بغداد، الذي يضم المئات من مقاتلي الفصيل الايراني المعارض «مجاهدي خلق» مع عوائلهم، مما تسبب في جرح أكثر من اربعين شخصا! كما كانت «النيران الصديقة» أيضا تستهدف يوم الثلاثاء ببضعة صواريخ مخيما للنازحين العراقيين في منطقة الدورة جنوب بغداد، ما أدى الى مقتل ثلاثة أشخاص، بينهم طفلان في العاشرة والسادسة عشرة من العمر! ولأن القتلى هنا لا جدوى سياسية من الاستثمار فيهم، لم نر احتجاجا سياسيا، أو استنفارا أمنيا، أو وعيدا بتغييرات جوهرية.
لم يكن العنف، والاستثمار في الدم، حكرا على الأنظمة السياسية في العراق الحديث، تحديدا بعد تموز 1958، فقد كان العنف أداة سياسية حاضرة بقوة لدى جميع الاحزاب السياسية العراقية الرئيسية التي كانت حاضرة في مشهد ما بعد 2003، وجميع أعضائها مارسوا العنف في تاريخهم السياسي، ولا يزالون ينظرون إلى هذا التاريخ بوصفه تاريخا نضاليا يستحق الإشادة والتكريم، الامر الذي اضفى شرعية اخلاقية ما على فكرة استثمار الدم العراقي، وما زال هؤلاء يمتلكون ميليشياتهم المشاركة في سفك الدم العراقي. لقد تورط الجميع، بشكل أو بآخر، في الصراع الأهلي الذي أعقب لحظة 9 نيسان 2003، والذي تعزز بعد لحظة 22 شباط 2006 ومجرد الهيمنة على السلطة بعد 2003 لا يعني نهاية لتاريخ الدم، هذا التاريخ لن ينتهي إلا بمصالحة تاريخية حقيقية لا يبدو أنها قريبة لاسيما ان لا احد في السلطة اليوم، يرغب حقيقة في انهاء الصراع، خاصة في ظل علاقات القوة المختلة التي تحكم المتصارعين.
ان منطق الصراع هو الذي يحكم العراق اليوم، وتاريخ الدم القديم لا يزال يخيم على المشهد، الجميع لا يرى أبعد من مصالحه الشخصية والحزبية والطائفية والإثنية، كما ان مقولات الهيمنة والاحتكار والتهميش والاستئصال اصبحت جزءا أساسا في ثقافة النخب السياسية القائمة وفي ثقافة المجتمع ايضا، كل ذلك كفيل باستمرار أعراس الدم في العراق وباستمرار الاستثمار اللاأخلاقي لها.

د.يحيى الكبيسي

صحيفة القدس العربي