الخطوات الروسية والتركية السريعة والمتبادلة من أجل إعادة تطبيع العلاقات، بين موسكووأنقرة، من شأنها أن تحمل معها تغيرات كبيرة على صعيد العديد من المعادلات الإقليمية التي تحكم أكثر من ملف من الملفات ذات الاهتمام المشترك بين الجانبين، لاسيماالأزمة السورية، وخارطة التحالفات في المنطقة، مرورا بتعقيدات العلاقات الروسية والتركية مع الاتحاد الأوروبي من زاويتين مختلفتين، وصولا إلى العلاقات التركية الأميركية.
التقاط الرئيس، فلاديمير بوتين لرسالة الاعتذار من نظيره التركي رجب طيب أردوغان، عن إسقاط طائرة روسية من طراز “سو24” في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، لم يكن نقطة البداية لعملية تطبيع العلاقات بين البلدين، أو حسب القاموس السياسي الروسي “إعادة تشغيل العلاقات”، فقد سبق ذلك تعبير الرئيس الروسي أكثر من مرة عن رغبته بعلاقات جيدة مع تركيا والشعب التركي، وكشف بوتين في 28 مايو/أيار الماضي عن وجود اتصالات روسية مع تركيا، لكنه ربط حينها عودة العلاقات مع أنقرة بخطوات تنتظرها موسكو من الجانب التركي. وبدوره لم يفوت أردوغان أي فرصة ممكنة للدعوة إلى إعادة العلاقات الودية مع روسيا.
تخطى أردوغان حاجزا نفسيا بإرساله رسالة اعتذار لنظيره الروسي، كان بوتين قد وضعها في مقدمة ثلاثة شروط لإعادة العلاقات بين البلدين، “اعتذار أردوغان العلني، وتعويض الأضرار، والتحقيق في مقتل الطيار الروسي”، علما بأن المتهم بقتل الطيار الروسي خضع للمحاكمة. وفي الضفة الأخرى بادر الرئيس الروسي لإجراء مكالمة هاتفية مع أردوغان، ووقع على مرسوم يقضي بإلغاء العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضت على تركيا عقب حادثة إسقاط القاذفة الروسية.
بالإضافة إلى حجم المصالح الاقتصادية والتجارية والسياسية والأمنية المتبادلة بين روسيا وتركيا، ناهيك عما تمثله الحرب في سوريا من مأزق مزدوج لكل من موسكو وأنقرة.
النزول عن الشجرة
تشير المعطيات الميدانية في سوريا إلى أن التدخل العسكري الروسي وصل إلى سقفه الأعلى دون أن يستطيع تحقيق الحسم، فالمعارك على مختلف الجبهات مازالت تتسم بطابع أخذ ورد بين مقاتلي المعارضة وجيش النظام وحلفائه، واستطاعت قوات المعارضة في الأسابيع القليلة الماضية أن تستعيد زمام المبادرة في جبهات مهمة، وأن تبسط سيطرتها مرة أخرى على مناطق كانت قد خسرتها في معارك مع جيش النظام وحلفائه بعد التدخل العسكري الروسي، مما يضع موسكو أمام خيارين: إما زيادة تورطها العسكري في سوريا أو الانسحاب منها.
الخيار الأول يحمل محاذير كبيرة تعي موسكو مخاطرها، بينما سيُنظر إلى الخيار الثاني كهزيمة إستراتيجية لها، وفي مثل معطى كهذا لا يبقى أمام الكرملين سوى البحث عن خيار ثالث أقل تكلفة، بالإبقاء على وجودها العسكري في سوريا، مع إبداء استعداد لضبط مستوى التدخل واستهدافاته، والتخفيف من مخاطره، بالتقليل من الخسائر المحتملة في الداخل السوري والحيلولة دون هجمات على الأراضي الروسية من قبل خلايا لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهنا تبرز حاجة روسيا إلى شريك مثل تركيا.
في المقابل؛ شهد التأثير التركي في الملف السوري تراجعا كبيرا في الأشهر القليلة الماضية، ليس فقط بسبب التدخل العسكري الروسي وحالة اللامبالاة عند الناتو والولايات المتحدة، وخشية أنقرة من التورط في حرب مع موسكو، بل أيضا بسبب السياسات الأميركية وضلوع واشنطنفي خلق فيدرالية كردية في شمال سوريا على الحدود مع تركيا. ويبدو أن أنقرة لم تعد تعارض من حيث المبدأ الوجود والتدخل العسكري الروسي في سوريا، فالانتقادات التركية تنصرف إلى المطالبة بضبطه على قاعدة تفاهمات بين موسكو وأنقرة، تضمن احترام المصالح التركية.
ومن المفترض أن تفسح عملية “إعادة تشغيل العلاقات” دورا أكبر لتركيا في العمليات العسكرية ضد داعش داخل الأراضي السورية، وأن يكون لتركيا ثقل أكبر في المفاوضات السياسية في فيينا مستقبلا بين النظام السوري والمعارضة، بما يضمن لأنقرة العمل على إفشال مشاريع إقامة كيان فيدرالي كردي على حدودها الجنوبية.
ويرى محللون روس وأتراك أنه ليس من مصلحة تركيا انسحاب روسيا من سوريا في المدى المنظور، وربما هذا يفسر إعراب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن أمله بـ”إقامة الجيشين التركي والروسي اتصالات مشتركة فيما بينهما بشأن القضية السورية”، ويرجع التغيير “المفترض” في الموقف التركي إلى مخاوف من أن يؤدي الانسحاب الروسي في ظل الوضع القائم إلى زيادة النفوذ الإيراني، وإطلاق يد الولايات المتحدة في تنفيذ سياسات ومخططات تهدد المصالح العليا لتركيا.
تحليلات روسية تذهب إلى أبعد من ذلك بالحديث عن أن أنقرة قد تقبل ضمنيا بسيطرة جيش النظام على المناطق التي تسيطر عليها حاليا الميليشيات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة (وحدات حماية الشعب)، التي يشكِّل عمودها الفقري حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” المرتبط بحزب “العمال الكردستاني” التركي. ولا يستبعد المؤيدون لهذا التحليل قيام نوع من التنسيق -ولو بشكل غير مباشر- بين تركيا وإيرانوالعراق ونظام الرئيس الأسد، تحت مظلة روسية، في مواجهة الجماعات الانفصالية الكردية المسلحة. وبالطبع لا شيء يعطى بالمجان.
ترتيبات جديدة
تأمل موسكو في أن تكون عملية “إعادة تشغيل العلاقات” مع أنقرة مفتاحا لقيام الأخيرة بتغيير جذري لسياساتها الإقليمية التي قادتها نحو الصدام مع موسكو، وأبدى الكرملين ترحيبه بالاتفاق الذي عقدته تركيا مؤخرا مع إسرائيل، باعتباره عودة إلى الشعار القديم الذي أطلقه رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، (صفر مشاكل مع دول الجوار).
من الواضح أن هذه المعادلة تلتزم بالخط الأحمر الذي وضعته تركيا على قيام كيان كردي فيدرالي في شمال سوريا، وتقدم تركيا نفسها كطرف رئيس في التحالف ضد الإرهاب وداعش، وعمليا سبق للحكومة التركية تصنيف جبهة النصرة في قائمة التنظيمات الإرهابية، بتاريخ 3/6/2014، ونفت على الدوام تقديم أي شكل من أشكال الدعم لها لوجستيا أو عسكريا.
ومن الجدير بالذكر أن القضية الكردية لا تحتل أولوية بالنسبة لموسكو، ويمكن لتركيا أن تعمل إلى جانب إيران على تنسيق المواقف في محاربة الجماعات الانفصالية الكردية، في الداخل الإيراني والداخل التركي، وبلورة موقف روسي تركي إيراني موحد بخصوص الملف الكردي في سوريا.
بناء على ما سبق؛ يمكن القول إن الإشكالية التي يمكن أن تبرز من وجهة نظر أنقره تجاه الرؤية الروسية بأضلاعها الثلاثة، إن صح التعبير، تتعلق بنقطتين: التزام موسكو بالتوقف عن استهداف المعارضة السورية المعتدلة، والتوقف عن تقديم دعم مفتوح لنظام الأسد.
ومن المرجح، بناء على هذا التحليل، أن يستجيب الكرملين للتحفظات التركية، فهو في نهاية المطاف يدرك استحالة إعادة الأوضاع في سوريا إلى ما كانت عليه قبل 17/3/2011، وأن أي تسوية سياسية دائمة شرطها رحيل الأسد في نهاية المطاف، وهذه نقطة خلاف كبيرة بين موسكو وطهران. كما أن روسيا معنية بمراجعة نطاق وأهداف تدخلها العسكري في سوريا، وإعادة علاقاتها مع تركيا تحمل في طياتها رسالة ضمنية لإيران كي تقبل بالتغيرات المتوقعة على السياسات والتوجهات الروسية بخصوص الملف السوري.
القوة الناعمة بديلا للعسكرية
نتيجة لتدخلها العسكري في سوريا، وخسارتها لإمكانية لعب دور وساطة بين النظام وفصائل المعارضة الرئيسية، والقطيعة السياسية والاقتصادية مع تركيا، وبرودة علاقاتها مع السعودية، وتحالفها مع إيران والنظام السوري، والعقوبات الاقتصادية التي فرضها عليها الاتحاد الأوروبي، على خلفية شبه جزيرة القرم والأزمة الأوكرانية، كل ذلك أدى إلى أن تخسر روسيا أدوات مهمة من عداد قوتها الناعمة في المنطقة، وبوابة استعادة تلك الأدوات تتمثل في العلاقات الاقتصادية والسياسية مع تركيا.
وهي نتيجة لذلك مضطرة إلى التعامل بعقلانية بعيدا عن ردود الأفعال غير المضبطة، ومما لا شك فيه أن من بين دوافع موسكو لالتقاط اعتذار الرئيس أردوغان، والتسريع في إجراءات “تشغيل العلاقات”، الحرص على عدم التفريط بسوق الغاز التركي لصالح الغاز الإسرائيلي، وعلى إحياء المشاريع الجيوسياسية المهمة مع تركيا، مثل مشروع “السيل التركي”، رغم التصريحات الرسمية التي تؤكد أنه من المبكر الحديث عن ذلك.
ويعتبر قرار موسكو رفع الحظر عن الرحلات السياحية إلى تركيا بمثابة إكسير للحياة للسياحة التركية، حيث وصل عدد السياح الروس في تركيا قبل الأزمة الدبلوماسية أكثر من 3 ملايين سائح سنويا. ومن العوامل الأخرى التي دفعت الطرفين للإسراع في تطبيع العلاقات بينهما، تجديد العقوبات الاقتصادية الأوروبية ضد روسيا، مع الإشارة إلى أن تركيا لم تلتزم بفرض تلك العقوبات، رغم خلافاتها مع موسكو حول الملفين السوري والأوكراني. وتعد تركيا خامس أكبر شريك تجاري لروسيا، بما نسبته 4.5% من إجمالي التجارة الخارجية الروسية. وعليه فالعلاقة مع تركيا مهمة من أجل مساعي روسيا لإخراج اقتصادها من حالة الركود.
بالإضافة إلى أرضية من المصالح المشتركة في المنطقة، فروسيا باتت مقتنعة بأنه لا يمكن حل المشكلة السورية دون تركيا، وكذلك دون إيران، لكنها تخشى، كما بدا واضحا من اجتماع وزراء دفاع سوريا وإيران وروسيا في طهران، من أن تتحول روسيا إلى خادمة للنفوذ الإيراني في سوريا، كما أن التنسيق الروسي التركي ضروري جدا لمنع عودة آلاف المقاتلين من داعش إلى روسيا ودول المجاورة لها.
ومن جانبها، باتت أنقرة موقنة بأنه لا يمكن الوصول إلى حل دون مشاركة موسكو، وأنه يمكن الوصول إلى تفاهمات وتقاطعات مع موسكو تضغط على طهران، وكذلك على واشنطن، وتحقيق ذلك ممكن من خلال المزج بين استخدام القوة العسكرية الروسية والتركية في شكل منضبط وتوسيع استخدام القوة الناعمة.
عامر راشد
الجزيرة