وينعكس هذا الإحباط على موقفهم من الدول الصديقة والحليفة التي تتعرّض، أكثر فأكثر، للانتقاد والتشكيك بما قدّمته، أو يمكن أن تقدّمه. لكنه يتجلى أيضاً في التهجم المتزايد على المعارضة، بمختلف تياراتها، ويتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نفي للذات، وتشكيكٍ متزايدٍ بهويتهم، وفي ما إذا كانوا بالفعل شعباً واحداً أو موحداً، ومجتمعاً منسجماً قادراً على العمل المشترك، وبناء الدولة، والنهوض من جديد من الكارثة التي أصابت البلاد والعباد.
وأول من يحاول استغلال مناخ الإحباط هذا، ويسعى إلى الاستفادة منه، القوى الدولية التي تحاول أن تقنع السوريين، اليوم، أنه فات الوقت، لكي يتمكنوا من إعادة توحيد أنفسهم كشعب، وأن يستعيدوا ملكة العيش المشترك، وأنه لم يعد أمامهم من سبيلٍ للوصول إلى الحد الأدنى من السلام والأمن سوى التسليم للدول الأجنبية بتقرير مصيرهم، حتى صار من الطبيعي والعادي والمسلم به تداول وثائق وخرائط ومسوّدات دساتير، عم انتشارها في وسائط التواصل الاجتماعية، صادرة عن بعض الأوساط الدبلوماسية، أو عن جمعيات ومؤسسات بحثية، لم يكن لها في الأصل أي علاقة بالبحث بشأن سورية، وربما لا يعرف معظم باحثيها، قبل ثورة مارس/ آذار 2011، موقع هذا البلد على الخريطة.
يكاد هذا الشعور يطمس، للأسف، الإنجاز الأول والأروع لهذه الحقبة، وأعني ما سطره السوريون من ملاحم، وما أظهروه من بسالةٍ وصمودٍ أسطوريين، في قتالهم من أجل حريتهم وكرامتهم، وما كبّدوه من هزائم متواصلة لأربعة جيوش نظامية: جيش النظام الانكشاري، ومرتزقة حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، وجيش الخلافة الداعشية المزعومة، بالإضافة إلى المليشيات الطائفية الدولية المستشرسة، والمدفوعة بغلٍّ مذهبي دموي لا يرتوي، من دون أن ننسى الدعم اللوجستي والعملياتي المباشر والقوي من سلاح الجو الروسي، فلا يعادل غدر الأسد بشعبه وخيانته التزاماته بوصفه رئيساً للجمهورية، وإصراره على حرق البلاد تمسكاً بالسلطة، سوى إيمان الشعب السوري بحقه في الكرامة والحرية، وإصراره على الاستمرار في القتال حتى النهاية. وربما لن يحتفظ التاريخ من هذه الحقبة بصورةٍ أخرى غير إرادة الحرية التي ألهبت حماس السوريين، وحولت نضالهم إلى أسطورةٍ ومثالٍ أعلى لكفاح الشعوب من أجل سيادتها واستقلالها وتقرير مصيرها بيدها.
هذا بالضبط ما تهدف إلى تغييبه الحملة الدعائية والنفسية المنظمة التي يشارك فيها، منذ أكثر
من خمس سنوات، النظام وجميع الدول والتيارات المناهضة لولادة سورية حرّة جديدة، تعكس حرية السوريين وسيادتهم على أرضهم، فهي تستغل التطورات، وتزيد من حجم التعقيدات التي أنتجها تدخل القوى المتعددة، للحيلولة دون انتصار ثورة الشعب، من أجل تيئيس السوريين من مستقبلهم ومصيرهم، وتحويل كارثة الحرب العدوانية التي شنتها الطغمة الحاكمة عليهم إلى مناسبةٍ للقضاء على الدولة السورية، ومن خلالها على استقرار المنطقة المشرقية بأكملها.
ولا شك أيضاً في أن المعادلة الدولية التي فرضت على الثورة، والقائمة على منع الحسم العسكري، وتجاهل شروط الحل السياسي من جهة، وما رافق هذه المراوحة في المكان من قتلٍ وتشريدٍ ودمارٍ من جهة ثانية، تضغط بقوة على الرأي العام السوري، على مختلف اتجاهاته، وتفقده أكثر فأكثر الأمل بإمكانية الخلاص القريب، وتدفع قطاعاتٍ متزايدةً من مؤيدي الثورة، للتشكيك بسلامة قرارهم في الخروج على النظام، على الرغم من جوره وخيانته مصالح شعبه. وما يزيد من هذه الضغوط انزياح مركز القرار بشكل مضطرد من يد السوريين إلى الدول الداعمة لهذا الطرف أو ذاك، حتى ساد شعور عميق، اليوم، بأن السوريين لا يملكون أدنى تأثيرٍ على مصيرهم، وليس لهم سوى الاستسلام لقرار الدول الأجنبية المنقسمة هي نفسها في دعم هذه الفريق أو ذاك. وهذا ما يفسّر تزايد تداول الخرائط والبيانات والتصريحات المتعلقة بتقسيم سورية والمنطقة، أو إعادة تشكيل دولها وكياناتها، وربما هويتها أيضاً حتى عند السوريين.
أخطر ما يعيشه السوريون اليوم هو فقدان الثقة بأنفسهم، والاستسلام لفكرة عجزهم عن التوصل إلى حلول لمشكلاتهم بإرادتهم، والتسليم للدول الأجنبية، العربية وغير العربية، بالقرار، وإيجاد حل للقضية، مع الأمل بأن لا يخذل حلفاؤهم ثقتهم، وأن يبقوا عند حسن ظنهم بهم. وهذا ما يؤكده، للأسف، ويبرهن عليه كل يوم سلوك كثير من فصائل المعارضة وشخصياتها التي تتسوّل الدعوات من الدول والمؤسسات الأجنبية، وتربط أي قرارٍ يُفرض عليها اتخاذه بقرار الدول الصديقة ورأيها، ولا تفكر في طرح أي خطةٍ أو استراتيجيةٍ مستقلة للنقاش، وللإمساك بقضيتها، وتنتظر دائماً ما تقرّره هذه الدول بمصيرها ومستقبلها.
لن تحل الدول الأجنبية المسألة السورية، حتى لو كانت قوى كبرى، بل إنها هي التي عقدتها وقطعت عليها طريق الحل، وإذا حلّتها، فلن يكون ذلك لصالح سورية والسوريين، مهما كانوا وإلى أي فريقٍ انتموا، وإنما لحسابها، ومن أجل تقاسم المصالح فيها، حتى لو اضطر الأمر إلى تقسيمها جغرافياً وسياسياً. وهذا ما يحصل الآن في تعزيز الاعتقاد عند السوريين بأنهم ذئابُ بعضهم لبعض، وعشائر وقبائل وطوائف متناحرة لا تستطيع التفاهم، ولا شيء يجمع بينها، لا قومية ولا عقيدة ولا دين. وفي هذه الحالة، لن يكون الحل إلا عن طريق تفتيت الخريطة السورية وتقسيمها، ولن يعني أبداً إنهاء الحرب والنزاع، وإنما إيجاد أسبابٍ إضافيةٍ لاستمرارهما، ولو أن رهاناتهما وأشكالهما سوف تختلف، على حسب طبيعة القوى المتلاعبة والمتنازعة على اقتسام السوريين، ورسمها أو تقديرها لمصالحها في هذه المنطقة، أو الكيان، أو ذاك.
لن يكون هناك أملٌ في التوصل إلى حلٍّ للقضية السورية، أي إلى صيغةٍ للحل، تحقق مصالح السوريين جميعاً، وتضمن السلام والأمن والعدالة في بلادهم، وتسمح باستعادة الدولة والسيادة والوحدة السورية، إلا باستعادة السوريين ثقتهم بقدراتهم، وعودتهم إلى تحمل مسؤولياتهم، والمراهنة على حسّهم الوطني والإنساني وإرادتهم الحرة، ورفضهم أي قرارٍ يُفرض عليهم، مهما كان نوعه ومن أي طرفٍ جاء. وهذا يعني ضرورة الكفّ عن انتظار الحل من الخارج، والتسليم للدول بحقها فيه، أو العمل في إطار استراتيجياتها المتعدّدة والمتباينة أيضاً.
ولن يستطيع السوريون استرجاع قرارهم وحقهم في تقرير مصيرهم، ما لم ينزعوا روح الاحتلال النفسي والانقسام والتبعية التي فرضتها عليهم القوى الغاشمة، عقوداً طويلة، بل قروناً، وعزّزتها سياسات الدول المتنازعة على السيطرة، وضراوة الصراع الذي يدور حول بلادهم ووطنهم بين الدول الإقليمية والخارجية.
وهذا يستدعي يقظة ضمير سياسي وإنساني عند السوريين جميعاً، والالتفاف حول قيادةٍ وطنيةٍ تقف موقف الاستقلال والندية مع القوى الخارجية المعنية، والتي أظهرت الأحداث فشل سياساتها القائمة على تحييد الشعب السوري، والانفراد بحل القضية على حسابه. وهذا هو جوهر برنامج الكرامة والحرية الذي نزل الشعب السوري بالملايين إلى الشوارع السورية لتطبيقه، وهتف له تحت البراميل المتفجرة والجوع والحصار، وبذل أبناؤه من أجله دماءً زكية، لا تزال تجري كالأنهار في طول البلاد وعرضها.