على الرغم من كل ما قيل وأثبت من جرائم وتجاوزات وممارسات طائفية ممنهجة، قامت بها مليشيا الحشد الشعبي في العراق، منذ تاريخ مشاركاتها في العمليات العسكرية في محافظات العراق (السنيّة) العربية خلال وبعد بدء عمليات تحرير المدن التي وقعت في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بدءاً من مدينة تكريت في مارس/ آذار 2015 وحتى معركة الفلوجة في يوليو/ تموز 2016، وعلى الرغم من كل الاعتراضات الإقليمية والدولية الرسمية والإنسانية والحقوقية، إلا أن مشروع تثبيتها قوة عسكرية وأمنية رئيسية متنفذة ومهيمنة في العراق جار على قدم وساق، كجزء رئيسي من مراحل تنفيذ المشروع الإيراني الخاص بتصدير (الثورة الإسلامية)؛ وكانت آخر دلالات هذا الأمر واضحةً، بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة، حيدر العبادي، جعل الحشد “تشكيلاً عسكرياً مستقلاً مرتبطًا بالقائد العام للقوات المسلحة”، إضافة إلى عمله بنموذج “يضاهي جهاز مكافحة الإرهاب من حيث التنظيم والارتباط، فضلا عن تشكله من قيادة وهيئة أركان وصنوف وألوية مقاتلة”.
كان قرار العبادي، فيما يبدو، ضمن آلية شرعنة التدخل الإيراني في شؤون العمليات العسكرية والأمنية في العراق، على الرغم من كل ما أثاره هذا التدخل من استياءٍ واسع، وسط النخب السياسية العراقية. ويبدو هذا واضحاً من خلال مواقف المسؤولين الإيرانيين من هذا القرار، كدعوة مؤسس الحرس الثوري الإيراني، الجنرال محسن رفيق دوست، إلى تكرار تجربة الحرس الثوري في العراق، واستعداده لنقل خبرته في هذا المجال، لتشكيل “حرس ثوري عراقي”، على أن تسهم طهران مباشرةً في تسليحه وتدريب عناصره، ونصيحة عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، النائب محمد جوكار، العراق بتطبيق التجربة الإيرانية بخصوص “حرس الثورة”، وقوله “نحن على أتم الاستعداد لتزويد العراقيين بنمط هذه القوات وهيكليتها، ليتمكّن العراق من تشكيل قوات حرسه”.
وفي الوقت الذي تعمد العبادي، والكتل المؤيدة للحشد الشعبي في البرلمان العراقي، تأخير تشريع قانون الحرس الوطني الذي يجعل كل القوى الشعبية المسلحة ضمن دائرة قانونٍ واحدٍ يحكمها ويوجهها، وتجاهله ضم متطوعي العشائر في محافظات صلاح الدين والأنبار ونينوى إلى المؤسسة العسكرية الرسمية، بموجب دورهم في تحرير مدنهم من سيطرة تنظيم داعش، فإنه فتح الأبواب بشكل كامل لإيران، من خلال دمج الفصائل والمليشيات الشيعية في العراق بتنظيم الحشد الشعبي الموالي لهذه الدولة وولاية الفقيه، ومنح هذا التنظيم صفة وصلاحيات أكثر التنظيمات العسكرية في العراق جدلاً وضبابيةً (مكافحة الإرهاب) الذي أسسته القوات الأميركية ذراعاً قوية عالية التدريب وشديدة الولاء للمحتل، في الانقضاض على بيوت المقاومين العراقيين، أو المشتبه بمقاومتهم الاحتلال، من دون أن تخضع أي من فصائلها لسلطة القانون؛ كونها أنشئت خارج إطار أي قانون عراقي.
رأى المراقبون أن قرار حيدر العبادي هو من أجل تقليم أظافر رئيس الوزراء السابق ومؤسس
“بدأ الحشد الشعبي يتقدّم خطوات سريعة تجاه الهيمنة على مؤسسات الدولة”
الحشد الشعبي، نوري المالكي، فيما رآه آخرون إجراءً يضع المليشيات تحت السيطرة المباشرة لمكتبه. لكن، في حقيقة الأمر، ليس هناك أية صلة بين هذه التفنيدات وأسباب القرار، فهو بداية عمّق بشكل واضح حالة الانقسام السياسي في العراق، ومنح عصابات ومليشيا إجرامية أذونات قتل وتدمير بهويات وعناوين رسمية، كما أنه فتح الأبواب للمليشيات المنضوية تحت راياته الطائفية المتعدّدة، للاشتراك في معركة الموصل المقبلة، والتي كانت جميع الأطراف الوطنية والإقليمة والدولية ترفض مشاركة الحشد فيها بصفته تنظيماً غير منضبط، لا سيما بعد الانتقادات الدولية الواسعة التي وجهت لهذه المليشيات بعد التجاوزات الكبيرة التي ارتكبتها بحق المواطنين السنّة في محافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار وبابل (جرف الصخر)، كان آخرها معركة الفلوجة وأطرافها، كما أن قرار الضم كان تشجيعاً واضحاً من منصب سيادي عراقي (رئيس مجلس الوزراء) للاعتبارات المذهبية المرتبطة بالمصالح الإيرانية.
لم يحقق العبادي الذي قدم نفسه، وبشكلٍ مموه، بصفته راعياً للإصلاح وباحثاً عن إعادة مفهوم المواطنة بدل المحاصصة، وتقييد ملكية الأسلحة لأجهزة الدولة فقط، لم يحقق أياً من هذه الوعود، بل ظهر بشكل واضح أنه ينفذ أجندة المالكي (إيران) في العراق، بعد أن أوصل الأخير هذه الأجندة إلى طريقٍ مبعثر، بسبب سياساته المتغطرسة والدموية المستبدّة تجاه عموم الشعب، وتجاه سنّة العراق تحديداً؛ وهو ما أكده بشكل قاطع رئيس الوزراء العراقي السابق، إياد علاوي، في مقابلة مع إحدى الفضائيات العربية، أن إيران “تمتلك نفوذاً كبيرا في العراق، وتفرض سيطرتها على مؤسسات الدولة، بل هي من تعين وتنتخب رئيساً للحكومة، وهنالك بؤر في الحكومة العراقية تبعيتها وانتماؤها لطهران، بحكم علاقاتها القديمة معهم”، معتبرا أن الصلاحيات التي منحها رئيس الحكومة، حيدر العبادي، للحشد الشعبي بموجب القرار، تؤكد على “عدم وجود دولة في العراق، بل فوضى عارمة”.
ضم مليشيا الحشد الشعبي الإرهابي إلى الجيش العراقي بالطريقة التي انتهجها وأقرّها رئيس مجلس الوزراء العراقي، من دون الرجوع للبرلمان، هو شرٌّ سيحول الجيش العراقي بموجبه تدريجيا إلى أداة إيرانية، قوامها مليشياتٌ إرهابيةٌ طائفيةٌ، كان وما زال قائد فيلق القدس الإيراني (سيئ الصيت) الواجهة الرسمية له، بمعاونة مجموعة من قادة المليشيات المطلوبين دولياً بتهم الإرهاب.
لا يمثل قرار العبادي أساساً لتشكيل تنظيم مواز للجيش العراقي والقوى الأمنية، كما يظن مراقبون كثيرون، لكنه، في حقيقة الأمر. وهنا تكمن خطورة القرار الذي يشرّع تنظيماً موازياً للدولة في العراق؛ قرار فيه تحايلٌ كثير على القانون والدستور الذي يمنع الكيانات السياسية من مد الأذرع العسكرية، ومن ثم المشاركة في الانتخابات البرلمانية والاستفتاءات، على أساس أنها غير منحازة، كما أن الحشد الشعبي الذي بدأ يتقدّم خطوات سريعة تجاه الهيمنة على مؤسسات الدولة في العراق اختط طريقاً مشابهاً بدرجة كبيرة لأسلوب عمل حزب الله في لبنان والحرس الثوري في إيران، وقدرتهما الكبيرة والرئيسة على التحكّم بمقدّرات البلدين.
سنشهد أحداثا كبيرة جدا على المستويات، السياسي والأمني والجغرافي في العراق، عقب معارك محافظة نينوى و(تحرير) الموصل، تتمثل ببزوغ دولة “الحشد” المهيمنة على سياسة الحكومة العراقية وقراراتها، كما ستكون ركيزة عدوانٍ وتدخلٍ في الشؤون الداخلية لدول الإقليم العربي وغير العربي. عندها سيعرف العراقيون، وربما كل المهتمين بالشأن العراقي في العالم، الدور الخطير لرئيس مجلس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في التغيير الجيوسياسي في العراق، لصالح الهيمنة الإيرانية ومشروع ولاية الفقيه المرعب في المنطقة.
الحشد الشعبي والدولة الموازية في العراق
فارس الخطاب
العربي الجديد