وبقدر ما تصحّ تسمية معركة حلب معركة استراتيجية، لكلا الطرفين المتجابهين حتى نهاية الشوط المديد، بقدر ما تصحّ معه تسميتها، أيضاً، مصيرية، سواء أكان ذلك لنظام الأسد، أو بالنسبة للثورة التي عبرت إلى عامها السادس، وهي تواجه تحالفاً إقليمياً من طبيعةٍ مذهبية فجة، يعمل تحت غطاء جوي لإحدى أكبر القوى العسكرية في العالم، الأمر الذي أثقل كثيراً على كاهل الثورة، وعقد المشهد المعقد أصلاً، وزاد من وزن العوامل الخارجية المقرّرة في توجيه دفة الحرب المتصاعدة، على نحوٍ كادت فيه كل هذه المتغيّرات أن تهمّش العامل الذاتي إلى أدنى درجة ممكنة.
من هنا، تنبع الأهمية الاستثنائية لمعركة حلب الطاحنة، باعتبارها بمثابة رد اعتبار لعنصر العامل الذاتي الذي استعاد، بهذه المعركة، تموضعه السابق، لاعباً مركزياً، له القول الفصل في إدارة وقائع الحرب، وفي توجيهها بما يحفظ إدامة فعل الثورة، سجالاً بين مدّ وجزر، إلى أن يتم تعديل موازين القوة، وجلاء الصورة، ومن ثمة كسر قواعد اللعبة المستجدّة، في وقت لاحق، وهو ما تستبطنه فصول هذه المعركة التي تبدو، في نظر أصحابها، ووتيرة تصاعدها، نقطة تحولٍ لافتة، انتقلت معها الثورة من حيّز الدفاع عن النفس إلى موقع المبادرة الهجومية. ذلك أن انعكاسات هذه المعركة، الجارية في أكبر الحواضر الشامية، على حاضر ثورة الحرية والكرامة ومستقبلها، بما في ذلك مردوداتها المتوقعة على الحاضنة الشعبية في المدى المنظور، تتجاوز كل النتائج الميدانية المرجوّة في نهاية المطاف، إلى التحليق بالثورة في فضاء الحالة المعنوية، بما تؤدي إليه هذه الحالة من رفعٍ للروح القتالية، وتجديدٍ لشباب الثورة، وإطلاقٍ لطاقاتٍ كامنة، لعل في مقدمتها توحيد الفصائل المسلحة على قاعدة الحد الأدنى المشترك، وطي صفحة الخلافات البينية، التي كادت أن تعصف بكل ما تحقق من نتائج طيبة في السنوات الخمس الماضية.
وكما أدى دخول حلب المتأخر إلى معمعان الثورة، إلى إطلاق المارد من قمقمه، وحوّل
الاحتجاجات الشعبية الريفية إلى تمردٍ شعبي شامل، فإن انتفاضة الشهباء على نفسها أولاً، وتحطيمها قانون لعبة الحصار الجهنمية ثانياً، ورفض السابقة الحمصية ثالثاً، من شأنه كسر عنق الزجاجة مرة أخرى، وإيجاد قوة زخمٍ مضاعفة، فضلاً عن منح الثورة دماً جديداً، هي في أمسّ الحاجة إليه، بعد أن أصاب صفوف المقاتلين ما أصابهم من مظاهر ترهّل، وما مالت إليه بعض الفصائل، تحت ضغط الواقع المرير، من هدنٍ ومصالحاتٍ موضعية مهينة.
بكلام آخر، غيّرت حلب موازين الوضع الداخلي، عندما التحق ريفها، وبعد ذلك المدينة نفسها، بصفوف الثورة، حيث وضعت النظام المتهالك آنذاك في أصعب امتحان له منذ خروج أول مظاهرة في درعا، وها هي اليوم تكتب بدمها فصلاً ملحمياً في كتاب الثورة التي بدّلت الوضع السوري، كما لم يتبدّل في السابق، الأمر الذي من المتوقع معه أن تعيد هذه المعركة تصحيح اتجاه البوصلة من جديد، وأن تجبر صورة ما انكسر في مرآة الثورة، وبالتالي، من المؤكّد، والحالة هذه، أن ما بعد معركة حلب لن يكون كما كان قبلها.
وعليه، يصحّ النظر إلى معركة حلب على أنها، في حد ذاتها، أكبر من مجرد معركة كبيرة، تقاس فيها النتائج وفق معايير الحرب الكلاسيكية، حيث ترتسم على ساحتها خطوطٌ حمراءُ متقابلة، وتجري في نطاقها لعبة مصالح متعاكسة، وتتجلى على أديمها مظاهر نفوذ إقليمية ودولية متوازية، الأمر الذي يجوز فيه القول إن معركة حلب كاسرة للتوازنات والمعادلات، وإنها قد تقرّر المآل الأخير، وربما المصير النهائي، سواء للنظام المحارب بالمليشيات الطائفية، أو للثورة المحاربة بسيوف نحو مائة ألفٍ من مقاتليها.
وليس من المبالغة القول إن على نتائج معركة حلب الدائرة في إطار أوسع من رقعة المدينة، كما سبق ذكره، سيتوقف مستقبل هذه المنطقة التي تتحارب فيها كل الملل والنحل والأعراق، وتتقابل فيها الهواجس، لتقرير الأحجام والأوزان، ورسم الخطوط الحمر، وتحديد مطارح النفوذ والمصالح، الأمر الذي يثقل بشدة على أكتاف صانعي هذه الملحمة، ويرقى بهم إلى منزلة من حققوا نقطة تحوّل، صنعوا تاريخاً، كثيراً ما كانت فيه مدينةٌ بعينها تنوب عن الأمة، وفق ما ترويه لنا كتب التاريخ القديم، في زمن الغزو المغولي، وسنين الحروب الصليبية، وعهد الاستعمار الأوروبي.
وأحسب أن معركة حلب، المثيرة بكل المعايير، موقعةٌ كبرى كاشفة نيات الدولة العظمى الملتبسة، ومقوّضة معايير روسيا المزدوجة، وفاضحة حسابات الدول الإقليمية الصديقة واصطفافاتها اللفظية مع الثورة، خصوصاً الدول التي انشغل بعضها بهمومه الداخلية فجأة، وبعضها الآخر بأولويات مستجدّة، إلا أن النقطة المضيئة أكثر من غيرها، في خضم هذه المعركة الطويلة بالضرورة الموضوعية، تظل ماثلةً في حقيقة أنها ستدوّن في سفر الخلود ملحمةً، وأنها أحدثت رافعةً كبرى من روافع الثورة اليتيمة، وأنها عبرت بها من عنق الزجاجة التي راوح فيها المقاتلون طويلاً، وكادوا يفقدون زمام المبادرة.