مع اقتراب معركة أستعادة الموصل من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، آن الأوان لإيلاء الأولوية للمسائل المتعلقة بالحكم والتسوية السياسية لفترة ما بعد تنظيم «داعش». ومن الضروري اكمال إشراك القادة والمجتمعات السنية العربية في العملية السياسية من أجل إحلال الاستقرار على المدى الطويل ولمنع الحركات المتطرفة من النهوض مجدداً. وبينما تساعد مشاركة المجتمع المدني على تعزيز المصالحة على المستوى المحلي، إلا أن المصالحة السنية على المستوى الوطني تتطلب اتباع نهج الاتجاه «من أعلى المستويات إلى أدناها».
وتتقلّص الفرص المتاحة أمام القيادات السنية العربية المجزأة لتقديم رؤية موحدة عن دورها وأهدافها المستقبلية في الموصل، وفي العراق ككل. فموجة الاتهامات، التي تقاذفها اثنان من كبار السياسيين السنّة في العراق في الأسبوع الثاني من آب/أغسطس، تسلّط الضوء على فداحة هذه الانقسامات. بالإضافة إلى ذلك، يدل إنكار وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري مؤخراً في واشنطن للمشكلة الطائفية التي يعاني منها العراق على أن الدبلوماسية العراقية غير مستعدة للإعتراف بالمشكلة، ناهيك عن الإرتقاء إلى مستوى التحدي المتمثل بإعادة دمج السنة المهمشين في البلاد.
قد تضطلع رئاسة الحكومة الأمريكية بدور حاسم لتحفيز السنة على اتخاذ موقف متماسك، من خلال إشراك الدول السنية التي تتمتع بتأثير على السنّة العرب في العراق، في حوار متعدد الأطراف يهدف إلى فهم جداول أعمال كل منها وتكوين رؤية موحدة ذات أهداف واقعية.
لقد أدت الانقسامات في صفوف الزعامة السنية في العراق إلى حرمان رئيس الوزراء حيدر العبادي والوسطاء الأمريكيين من العثور على نظائر جديرين بالثقة يدافعون عن المصالح السنية ويوحون بالثقة لإبرام الاتفاقيات وتطبيقها. والتاريخ يشهد أن السنّة العرب يفتقرون إلى مرجعية دينية مركزية تتمكن من الاضطلاع بالدور عينه الذي تؤديه النجف في صفوف المسلمين الشيعة. ويختلفون عن نظائرهم الشيعة أيضاً بتعدد الرعاة الإقليميين الذين يقدمون لهم الدعم المالي والسياسي، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة وتركيا وقطر. وتمتلك هذه الدول مصالح مختلفة غالباً ما تكون متضاربة. وفي السنوات الأخيرة، أدت الضغوط المكثّفة التي مارسها تنظيما «القاعدة في العراق» و «داعش» لاحقاً من جهة وتلك التي مارستها حملة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي من جهة أخرى لتهميش القادة والفصائل السنية، إلى تحريضهم ضد بعضهم البعض.
وتتجسد القضيتان الأكثر أهمية بالنسبة إلى العرب السنة بعلاقاتهم مع الحكومة المركزية ودورهم في قوات الأمن الوطني. بالنسبة إلى الأولى، يحتاجون إلى توافق في الآراء حول ما إذا كانت إحدى الخيارات التالية كفيلة بتحقيق استقلالهم الذاتي وتطلعاتهم في الحوكمة: تطبيق الأحكام النافذة التي تقتضي اللامركزية وتفويض السلطة، أو اكتساب وضع المنطقة الفدرالية لكل من المحافظات التابعة لهم على حدة، أو تشكيل منطقة فدرالية سنية تشمل كافة المحافظات ذات الأغلبية السنية. وتظهر هذه الخيارات الفروقات بين السعي إلى تحقيق اللامركزية الإدارية المنصوص عليها في الدستور ورفض نظام ما بعد عام 2003 واللجوء إلى التقسيم الفعلي.
وعلى السنة أيضاً أن يتوافقوا في الآراء حول ما إذا كان عليهم أن يمارسوا الضغوط اللازمة لتطبيق مشروع الحرس القومي الذي يواجه طريقاً مسدوداً للاضطلاع بدور فعال في المحافظة على أمن محافظاتهم، وإلا فسيضطروا إلى دعم التجنيد الإلزامي كوسيلة لضمان المشاركة النسبية في القوات المسلحة. وعلى الهامش الأكثر تطرفاً، يتواجد السنة الذين يرغبون في مقاطعة قوات الأمن التابعة للدولة واتخاذ صفة الجيش السني المستقل تماماً عن بغداد.
وعلاوة على ذلك، غالباً ما يعجز القادة السنّة أنفسهم عن التوصل إلى توافق في الآراء على ما هو أفضل لمجموعاتهم. وعلّقت شخصية سنية واقعية مؤخراً في واشنطن بأن الضباط السابقين في الجيش يجب أن يحظوا بدور رئيسي في حكومة ما بعد تنظيم «داعش» في الموصل بدعم من بغداد. إلا أن السياسيين، على غرار محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي، يسعون إلى تشكيل منطقة سنية ويعتقدون أن احتلال تنظيم «الدولة الإسلامية» للموصل يعتبر مثالاً على اللامركزية الفعالة والاستقلال عن بغداد. كما أن ثمة زعماء عشائريين في المقاطعات الغربية من الأنبار يمارسون ضغوط على العبادي ليقسّم محافظتهم إلى قسمين، ومن المحتمل أن يهدف هذا الأمر إلى النأي بأنفسهم عن الفلوجة التي تشكل مصدراً للمتاعب في شرق الأنبار. وفي الوقت نفسه، خسر السنة في محافظة ديالى الكثير من نفوذهم في محافظة كانت تعتبر ذات أغلبية سنية منذ أن أعلنت الميليشيات المدعومة من إيران أن المنطقة قد “تحررت” في أوائل عام 2015. وما لبث المحافظ السني أن استُبدل بزعيم شيعي متزمت في ظل ظروف غامضة.
وقد أحبطت مبادرات كثيرة كانت ترمي إلى إنشاء وحدة سنية وإلى تشجيع المصالحة بين القادة السنة والحكومة قبل أن تبدأ كنتيجة لفشل الحوارات التي عُقدت في السابق بين السنة. وفشلت المؤتمرات السنية التي عقدت في عمّان في آب/أغسطس 2014، وفي الدوحة في أيلول/سبتمبر 2015 و باريس في نيسان/أبريل 2016، في الاتفاق على أيّ بنود مهمة. وفي الواقع، أثبتت سبل النقاش موضع البحث في شتى الطرق أنها تؤدي إلى الانقسام لا التوحيد. وقد حاول السنة المشاركون في العملية السياسية وأولئك الذين ينتمون إلى المعسكر المعارض مراراً وتكراراً استبعاد بعضهم البعض مما عاد على كل منهما بالمزيد من خيبة الأمل.
ولكل من المملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر تأثير على العديد من الجهات السنية العراقية قد تستخدمه لتخطي هذه الأزمة. ومن المتعارف عليه لدى أي عراقي أن معظم السياسيين، بغض النظر عن انتماءاتهم، يُدعمون بطريقة أو بأخرى أو يقعون تحت تأثير إحدى القوى الإقليمية.
وتقوم تركيا على سبيل المثال بتسليح بشكل مباشر المئات من المقاتلين وتدربهم بقيادة محافظ نينوي السابق النجيفي. وإنه لمن المنطقي افتراض أن إشادة النائب السابق لصدام حسين وقائد “جيش رجال الطريقة النقشبندية”، عزة الدوري، في الحرب التي تخوضها المملكة العربية السعودية في اليمن ودعوته لزميله القائد البعثي بشار الأسد للتعاون مع قوات المعارضة المدعومة من السعودية، هي حصيلة الدعم السعودي السخي لقوات الدوري المعادية لإيران.
وحالياً، يستخدم السعوديون ودول سنية أخرى هذا النفوذ لتوجيه طاقة السنة العراقيين والسوريين في الاتجاه العام لاستعداء إيران وحلفائها عوضاً عن تأمين مصالح مجتمعاتهم.
وأدى التركيز على إيران، المرفق بمواقف هؤلاء الداعمين الإقليميين التي غالباً ما لا تكون متماسكة بشأن مصالح السنّة على الصعيد الوطني، إلى تفاقم مشكلة التمثيل السني في العراق. إلا أن الدبلوماسية الأمريكية والقيادة في واشنطن قد تساهم في التخفيف من حدة هذه التحديات. يتعين على الولايات المتحدة أن تجتمع مع القادة في هذه الدول المسؤولين عن السياسات المتعلقة بالعراق للاستماع إلى مخاوفهم ولكي يستمعوا كذلك إلى بعضهم البعض. وحينئذ تتمكن الولايات المتحدة من حثهم على صياغة رؤية موحدة لمستقبل اصدقائهم في العراق. وقد تنجَز هذه المهمة كجزء من المبادرات الحالية التي تهدف إلى محاربة تنظيم «داعش» أو حتى بواسطة مبعوث خاص جديد.
وإذا بقي الوضع على ما هو عليه، فسيتعرض السنة العراقيين لخطر خسارة ما تبقى لديهم حالياً من دعم. ويشير التقدم البطيء بل المستقر الذي يحرزه الجيش العراقي والميليشيات الحليفة في استعادة الأراضي من تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلى أن المشاركة السنية المتواضعة في ساحة المعركة، والتي تعتبر مهمة بالطبع، لا تحتاج إلى أن تنتشر على نطاق أوسع لإلحاق الهزيمة العسكرية بتنظيم «داعش». ومن المرجح أن يستنتج المتشددون العراقيون الشيعة أن أهمية دور السنة في الصراع تستمر في التقلص وبالتالي هم لا يستحقون أي “مكافأة” سياسية. وكلما اقترب الجيش والميليشيات المتحالفة معه من الموصل، زادت معارضة هؤلاء المتشددين الشيعة لأي ترتيبات تُقدم إلى العرب السنة حول نصيبهم العادل من القوة الشرعية.
إلا أن تكوين رؤية وضمان تطبيقها مهمتان مختلفتان. فحتى لو قدّم العرب السنّة برنامجاً موحداً للتفاوض مع حكومة العبادي، فلا يزال عليهم التعامل مع معارضة المتشددين الشيعة وإيران لتقاسم السلطة.
ويتمثل التحدي القادم في التصدي لازدواجية المعايير التي تتبعها إيران وخصومها السنة في الصراع الإقليمي. فإيران تريد سيطرة الأغلبية الشيعية في العراق على البلاد ولا تنوي إعطاء أي دور مهم للأقلية السنية. وتتّبع إيران ديناميكية متناقضة في سوريا، إذ تحاول أن تبقي الأسد والأقلية العلوية في سوريا في الحكم في الوقت الذي تدين المعارضة التي تمثل الأغلبية السنية على أنها إرهابية. ومن الواضح أن الدول السنية تتبع معايير مزدوجة أيضاً إذ تعمل على إضعاف حكم الأغلبية الشيعية في العراق بينما تصرّ على استبدال الأسد بحكم أغلبية سنية في سوريا. وفي هذه المعارك، دعم الطرفان القوات المعتدلة وغير المعتدلة على حد سواء. ولن يتمكن أي من الطرفين أن يحقق أي مكاسب على أرض الواقع إذا أصرّ على تحقيق الفوز التام في ساحتي المعركة.
ولعل الحل الوحيد يتمثل بمحاولة حث السعوديين والأتراك والإيرانيين على النظر إلى المنطقة من منظار محصّلة الأرباح والخسائر الذي يقوم على نظرية أن أي خسارة مرتقبة في منطقة ما قد تعوّض بفوز في أخرى. وقد توفر عملية إعادة ترتيب المصالح، وإن لم تكن مثالية، فرصة أفضل للخروج من المأزق الحالي وللتوصل إلى ميزان قوى أكثر توازناً في المنطقة.
عمر النداوي
معهد واشنطن