سنجنح هذه المرة الى التوصيف علمي لتحديد مفهوم الأقلية والأغلبية ونعتقد ان القارئ بحاجة الى تكريس رؤية علمية لديه حول هذا الموضوع لكيلا تنطلي عليه تصريحات التهويل والتضخيم التي يمارسها بعض السياسيين لجماعاتهم التي ينتمون اليها لحصد مكاسب سياسية لهم ولاحزابهم .
اسلوب التضخيم في اعداد الجماعات العرقية والطائفية باتت شغل السياسيين وهمهم للحصول على المكاسب السياسية في واقع العراق الحالي، وهذه القضية بكل تاكيد لن تنتهي طالما ان الرداء الذي بات يرتديه العراق بعد عام 2003، لم يعد من قماش واحد او لون واحد وانما مركب من مجموعة اقمشة وبالوان مختلفة، فالهوية الوطنية ركبت منذ نشوء الدولة العراقية من مركب واحد هو الهوية الوطنية، بالرغم من ان تلك الهوية لم تكن مكتملة وعليها ملاحظات تتعلق بشرعية حكم السنة وجنوح الاكراد والشيعة نحو العنف الثوري، لكن تلك الهوية تواصلت لاكثر من ثمانين عاما واسست لوحدة وطنية انغمس في غالبية العراقيين وخلقت بينهم روابط سياسية واجتماعية وثقافية جعلت العراقي يفتخر بانتماءه للعراق ولحضارته وتاريخه ووحدته.
هذه الوحدة تفككت بعد عام 2003، وحل محلها مفهوم الاغلبية والاقلية والذي يعني ان العراق طوال تاريخه كان مختزلا بحكم الاقلية السنية، التي احتكرت الحكم وبالتالي فان مفهوم الهوية الوطنية لم يكن مكتملا لانه كان مختزلا بحكم السنة مع تهميش مقصود للشيعة والاكراد عن حكم العراق، وان الوحدة التي حصلت بفعل استعماري بريطاني بين المكونات الثلاث كانت وحدة قسرية ارغامية ولم تبنى على اساس الرضى والاندماج الطوعي.
ولهذا فان واقع العراق الحالي يدفع باتجاه ضرورة اعادة العلاقة بين المكونات العراقية ليس على اساس الوحدة التي تلغي الخصوصيات، وانما على اساس الترابط الوطني الذي يحفظ لتلك الهويات خصائصها وهواياتها الفرعية . بالتاكيد هذه الرؤية الجديدة لمفهوم الوحدة العراقية لم تنجح لولا الرعاية الامريكية، التي تبنت حملتها لتدمير العراق واعادة تركيبه وفق مفهوم الاقلية والاغلبية، ورافقت تلك الحملة دعاية امريكية وغربية ان نشوء العراق الحديث كان خطئا استراتيجيا تبنته بريطانيا وان المرحلة المقبلة يجب ان تتضمن تصحيح الخطأ عبر تصحيح العلاقة بين مكونات العراق. واعطاء هذه المكونات حقها وفق مابدا يعرف بحق تقرير المصير الداخلي الذي يعني انه من حق المجموعات العرقية والطائفية والعشائرية ان تمارس خصوصياتها الاثنية في لغاتها وخصوياتها المحلية بلا قيود.
هذه الرؤية الامريكية في العراق لم تكن بعيدة عن استراتيجية التفكيك والتقسيم التي اخذت امريكا باتباعها في العالم بعيد انتهاء الحرب الباردة في يوغسلافيا والسودان واندونوسيا ( تيمور الشرقية ) . بالتاكيد كانت الرؤية الامريكية بمثابة حبل النجاة لكل من السياسيين الشيعة والاكراد، حيث سعى كلا الطرفين الى تضمين تلك الرؤية في الدستور العراقي وفي السلوك السياسي، الذي ارتكز على تجييش مشاعر بسطاء الناس وتفعيل مشاعرهم الطائفية والقومية عبرخطاب سياسي واعلامي مدفوع نحو مطالب سياسية تضمن حقوق الجانبين الكردي والشيعي في الحكم .
لقد شكل هذا الخطاب اساس الواقع السياسي العراقي بعد عام 2003 ، وفي ظل هذا الواقع بات السنة اقلية بالمفهوم السياسية والاجتماعية، وتم تجريمهم كل سلبيات الحقب السابقة من حكم العراق، وهل السنة اقلية في العراق؟ من المؤكد ان هذا السؤال هو اصعب الاسئلة التي توجه لاي باحث سياسي واجتماعي متخصص بقضايا الاثنيات والهويات الفرعية، اولا لان العراق لم يبنى في نشاته وهويته السياسية على اساس الطائفة والعرق الذي يفترض وجود احصائيات دقيقة ومحدثة لاعداد المنتمين لهذه الجامعة او تلك، وحتى وان كانت هناك احصائيات احتفظ بها النظام السابق في جهاز المخابرات او الامن العام، فان هذه الاحصائيات باتت قديمة وغير ذات فائدة في ظل تغير تركيبة العراق الديمغرافية بعيد عام 2003، حيث وفد واستقر ملايين الشيعة والاكراد من دول الجوار بحجة انهم كانو مهجرين زمن النظام السابق، كما ان ملايين السنة قد تعرضوا للقتل والتهجير واضطروا لمغادرة العراق عنوة وهو ما اخل بتركيبتهم الديمغرافية.
وكذلك الحال مع المسيحيين والايزيديين وغيرهم من جماعات العراق الاصيلة، بالتاكيد الكل يتذكر حادثة اختفاء مئات الاف الجوازات العراقية في سفارات العراق في السويد والدنمارك، على ايدي السفراء الكرد الذين كانوا ادوات فعليه في جلب مئات الاف الاكراد الايرانيين الى العراق لتغيير تركيبة المناطق المتنازع عليها المناطق المحيطة بمدينة كركوك، وكلنا يتذكر تصريح رئيس وراء العراق ابراهيم الجعفري حينما سئل عن ان ملايين الايرانيين قد استقروا في العراق، فاكد ان الرقم مبالغ فيه وانهم لم يتجاوزا المليون .
ان فتح الحدود العراقية مع دول الجوار قد تم استثماره على اتم وجه من قبل احزاب السلطة في العراق لتعزيز خطابها حول مفهوم الاغلبية والاقلية وابراز واقع ديمغرافي يعطيها احقية في الحكم عبر صناديق الاقتراع، التي فسحت المجال لملايين من الوافدين بالاشتراك بالانتخابات وتعزيز مقاعد الاحزاب الشيعية والكردية، اذن البحث بدقة في الارقام الحقيقية للمجموعات الاثنية في العراق غير متوفر ويعتبر عبثا. ومن هذا المنطلق لا يمكن اعتبار السنة في العراق اقلية اذا لاتوجد احصائية دقيقة لاعدادهم، اضافة الى ان معيار تصنيفهم بني على اساس خاطئي منذ البداية، ويتنافى مع المعايير العالمية لتصنيف الاقليات، فقد اعتبروا سنة عرب، مزجوا بين الهوية الطائفية والقومية، في حين انهم اما ان كونوا سنة يجتمعون مع الكرد السنة في هوية واحدة وبالتالي فان اعادادهم تتجاوز ال 58% من العراق، او انهم يحسبون وفق معيار الهوية القومية وبالتالي فانهم عرب يندمجون مع الشيعة العرب فيشكلون 80% من سكان العراق.
ان التصنيف الذي ابتدعه الامريكان وسايره سياسيو الشيعة والاكراد هو تصنيف غير علمي غايته تثبيت مكتسبات سياسية في العراق، لا تقوم على مرتكزات حقيقية ، وقد فندت الانتخابات العراقية التي حصلت في 2005 ، ان السنة في العراق هو الاغلبية فقد قاطع السنة بالكامل تلك الانتخابات، ولم يشتركو فيها وهاجموا العملية السياسية والانتخابات واعتبروها غر شرعية، لانها حصلت في ظل الاحتلال، بل ان فصائل المقاومة حذرت السكان السنة من مغبة الاشتراك فيها، مقابل ذلك فان الاكراد والشيعة قد اندفعوا بقوة للانخراط بتلك الانتخابات، ودعموا مفوضية الانتخابات التي شكلها الأمريكيين، وقد اكدت المفوضية ان نسبة المشاركة في الانتخابات بلغت 58% من الشعب العراقي ـ وبمعادلة حسابية يظهر ان عدد السنة هو 42% من الشعب العراقي، مؤشر اخر نستقيه من دراسة قامت بها جامعة اوكسفورد البريطانية ونذكر كتاب خير الدين حسيب او كتاب د. ادهام العزاوي حول المسيحيين فيه احصائيات دقيقة عن الشيعة والسنة، فلا توجد دقة علمية في تحديد اعداد اردنا ان نسلم بان السنة هم اقلية فعلا وهم ليسوا كذلك، فهم اقلية استراتيجية يشابه في بعض خصائصها دور الاقلية البيضاء في جنوب افريقيا صحيح ان البيض وافدون جاؤوا مع الاستعمار البريطاني، وان السنة هم سكان العراق الاصلاء وانهم مؤسسو العراق الحديث، الا ان هناك شيء من التشابه لجهة الانضباط في الحكم والإدارة والتنمية، حيث شهدت جنوب افريقيا نموا متسارعا في التنمية باتت فيه الدولة الإفريقية الاولى.
محمد العزاوي