شهدت بدايات هذا العام (2016) تقاربا استراتيجيا بين إسرائيل وتركيا، وفقا لشواهد كثيرة، منها موافقة تل أبيب علي دفع تعويضات بقيمة عشرين مليون دولار للضحايا الأتراك الذين قتلوا وأصيبوا قبالة شواطئ غزة في عام 2010، وعودة العلاقات السياسية بين البلدين، وتبادل السفراء، وإصدار تركيا قانونا يلغي الدعاوي القضائية ضد الجنود والضباط الإسرائيليين المشاركين في هجوم الاستيلاء على سفينة “مرمرة”، مقابل تقييد نشاط حركة “حماس” في تركيا، وطرد القيادي في تلك الحركة صالح العاروري من الأراضي التركية.
كشف عن هذا التقارب اللقاءات الرسمية لمسئولين رفيعي المستوي في البلدين، آخرها لقاء لندن في 8 أبريل الماضي، الذي جمع وفدا تركيا بالمبعوث الخاص لرئيس الوزراء الإسرائيلي بهدف تطبيع العلاقات بين البلدين. وقالت الخارجية التركية في بيان لها إن الجانبين “أحرزا تقدما نحو وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق تطبيع العلاقات، وتقريب وجهات النظر”.
والأرجح أن حادث الاعتداء على سفينة لنشطاء مؤيدين للفلسطينيين، حاولت في مايو 2010 كسر الحصار على قطاع غزة، لم يكن وحده وراء توتر العلاقة، فقد دخل المناخ بين البلدين مرحلة الشحن مع صعود الدور والنفوذ التركي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ودعم أحزاب فلسطينية بعينها، ودعم غزة بالمال والمشاريع، فضلا عن ادعاء إسرائيل ظهور ما سمته بحالات لا سامية تؤجج العداء ضد اليهود في الإعلام التركي. وكان بارزا، هنا، انتقاد إسرائيل عرض تركيا مسلسلا تليفزيونيا في عام 2009 يكشف صورا عن الإرهاب الإسرائيلي.
غير أن تحولات المشهد الإقليمي دفعت البلدين لإعادة تقييم العلاقة الاستراتيجية، وفتح نوافذ في جدار القطيعة القائم منذ نحو خمس سنوات. وقد مهد الطريق للتهدئة الاعتذار الشفهي الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، بحضور الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، خلال زيارة الأخير للمنطقة في منتصف مارس .2013
أولا- متغيرات وراء التقارب:
ثمة معطيات جيواستراتيجية وتطورات مهمة تسربت إلى معادلة العلاقات التركية – الإسرائيلية. ويتمثل أول التطورات في التغيرات الجيوسياسية التي أفرزتها الأزمة السورية، وانعكاساتها السلبية على تركيا، خاصة ما يخص صعود نفوذ “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، وهو حزب كردي سوري نافذ تأسس في عام 2003، ونجح في بسط نفوذه على مناطق واسعة في الشمال والشمال الشرقي من البلاد، بعد انسحاب قوات النظام منها في صيف 2012، ونجاحاته في صد “داعش” في موقعة عين العرب “كوباني”، وهي المعركة التي أعادت الصورة الذهنية للحزب، ومنحته زخما إقليميا ودوليا.
ولأن أنقرة تري في الأكراد السوريين خطرا محدقا على الأمن القومي بسبب علاقاتهم بالأكراد القوميين في تركيا، فقد نظرت بقلق متزايد إلى توسع التعاون بين الميليشيات الكردية السورية، والقوات الأمريكية في الحرب ضد تنظيم الدولة “داعش”. وكان الرئيس التركي قد اتهم الغرب في دعمه لأكراد سوريا، بأنه يستبدل بجماعات إرهابية جماعات إرهابية أخري شمال سوريا.
في المقابل، مثلت المعارك الأخيرة في الشمال السوري تحديا لمجمل القراءة التركية للمسألة السورية، وذلك في ضوء التقدم الذي حققته قوات النظام والميليشيات المدعومة إيرانيا بغطاء جوي روسي في حلب من جهة، وقيام وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي، من جهة أخري بالتوغل داخل حدود المنطقة التي تطالب أنقرة بأن تكون آمنة.
والأرجح أن هذه التطورات ربما تهدد بإنشاء منطقة عازلة معاكسة يشغلها الأكراد، ويتم بموجبها عزل تركيا تماما عن الشمال السوري. وكان الرئيس الأمريكي أوباما قد رفض إقامة منطقة آمنة في سوريا منذ وقت مبكر من عمر الثورة السورية في نوفمبر 2011، ولا يزال يتفادي ذلك خلال عامه الأخير في منصب الرئاسة، ويري أن أخطارا تتضمنها، تتطلب وجود قوات على الأرض، وحماية من الجو. وأثار الرفض الأمريكي غضب أنقرة التي تستوعب نحو 2.6 مليون لاجئ على أراضيها.
وفي الوقت الذي تسعي فيه أنقرة إلى الإطاحة بالأسد، ومنع إقامة كيان كردي، ثمة قلق إسرائيلي مرتبط أيضا بالوجود العسكري والاستخباراتي الإيراني في سوريا، الذي بإمكانه أن يتمدد أيضا باتجاه الحدود الشمالية لإسرائيل، ومرتفعات الجولان، في حال انسحاب انتصارات الجيش السوري شمالا على الجنوب السوري.
لذا، فإن أنقرة وتل أبيب تسعيان إلى وقف تمدد إيران وحزب الله في سوريا، لأن صعود نفوذهما يمثل خطرا. ولذلك، وصف شتاينتس، عضو المجلس الوزاري المصغر للشئون السياسية والأمنية في إسرائيل، الإنجازات الأخيرة للجيش السوري بأنها تغيير في الميزان الاستراتيجي، وقال إن “هذا يشكل خطرا علينا، وعلى الأتراك، وعلى القبارصة الذين يشعرون أيضا بالقلق، إذ لا أحد يريد أن يري إيران تصل إلى حوض البحر الأبيض المتوسط”.
ثمة متغير آخر مهم يتعلق بتصاعد التوتر بين تركيا وروسيا، بعد دخول الأخيرة على خط الأزمة السورية، ودعمها قوات نظام الأسد. ودخل المناخ مرحلة الشحن بين الدولتين، بعد إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلة روسية من طراز “سوخوي 24” في مطلع ديسمبر 2015، بعدما اخترقت المجال الجوي التركي لنحو خمس دقائق، وعدم تجاوبها مع تحذيرات عسكرية وصلت لأكثر من عشر مرات متواصلة.
سعي فلاديمير بوتين لتصعيد الأزمة، وعدّ العملية طعنة في ظهر روسيا، وأشار إلى تعاون بين أنقرة والتنظيمات الراديكالية التي تعبث في سوريا. كما رفض الرئيس الروسي لقاء أردوغان، على هامش قمة أعمال المناخ، ودعا المواطنين الروس إلى عدم التوجه إلى تركيا، والبحث عن مقاصد سياحية أخري، ربما تكون منها القاهرة، بعد تجاوز تداعيات طائرة شرم الشيخ التي سقطت نهاية أكتوبر الماضي.
لم تكن الإجراءات القاسية لتقف عند هذا المستوي، إذ فرضت موسكو إجراءات اقتصادية وعسكرية عقابية على تركيا، لا يستبعد أن تطول صادرات الغاز الروسية لها، مما دفع بالأتراك إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي في أذربيجان، وقطر، وإسرائيل. في المقابل، أفضي نشر منظومة صواريخ إس-400 الروسية المتطورة في سوريا إلى تبديد آمال أنقرة في إقامة المنطقة الآمنة في شمال سوريا.
المتغير الثالث يرتبط بأمن الطاقة، خاصة الغاز، الذي يمثل أحد أهم المتغيرات في معادلة العلاقات التركية – الإسرائيلية، خاصة أن إسرائيل نجحت، طوال السنوات التي خلت، في تعزيز تعاونها مع قبرص واليونان في تطوير حقول الغاز، فضلا عن اكتشافها المزيد من حقول الغاز في سواحل البحر المتوسط، الأمر الذي يعني التوسع الإسرائيلي في تصدير الغاز الفائض لديها إلى الأسواق الأوروبية، ولا يكون ذلك إلا عن طريق الأراضي التركية الأكثر آمنا، الأمر الذي يتطلب بالضرورة استعجال هذه المصالحة التي باتت ملحة للدولتين.
وقد نما استهلاك الغاز في تركيا بشكل مطرد في السنوات الأخيرة حتي بلغ 1.7 تريليون قدم مكعبة في عام 2014، وتتم تلبيته بشكل أساسي عبر الاستيراد من الخارج، وبالأخص من روسيا التي تلبي نحو 55 مليار متر مكعب من احتياجات الغاز في تركيا. ولا تقتصر علاقات الطاقة بين أنقرة وموسكو على ما سبق، فقد وقعت شركة “أتوم ستروي إيكسبورت” الروسية عام 2012 عقدا لبناء مشروع مفاعل “آك كويو” النووي في مدينة أضنة جنوب البلاد. كما تكمن صعوبة اعتماد تركيا على الغاز الروسي والإيراني بالأساس في أنها تتزامن مع فتور علاقة تركيا بالبلدين. وتزيد حساسية الموقف مع اقتراب نهاية اتفاقيات توريد غاز البلدين لتركيا بعد سبع سنوات، مما يتطلب مفاوضات جديدة وعسيرة على مستوي الحجم، والمدة، والسعر.
لذا، فإن متغير الطاقة يصبح في صلب عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل. فالأولي تسعي إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة بتنويع مصادرها. في المقابل، تعتقد إسرائيل في أن استكشافاتها الغازية الجديدة تمنحها فرصة نادرة لزيادة قوتها، واستغلال الطاقة من أجل تعميق الاستقرار في المنطقة، والدفع نحو علاقات تقوم على المصالح، وليس الحقوق، والتاريخ بين دولها.
لذلك، تحرص تل أبيب على توطيد التعاون مع أنقرة في هذا المجال. وقد صرح وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز، في 18 يناير 2015، بأن تطبيع العلاقات مع تركيا له أهمية كبيرة، سواء لتطوير حقل لوثيان للغاز، أو الإسهام في إعادة شركات الطاقة العالمية إلى إسرائيل للبحث عن حقول غاز جديدة. كما تتفاوض شركات إسرائيلية، منذ وقت طويل، مع شركات تركية على خط أنابيب لنقل الغاز من لوثيان، عبر تركيا، إلى أوروبا ودول آسيا.
ويرتبط المتغير الرابع بحالة الانفتاح الإيراني على المجتمع الدولي، عقب الاتفاق التاريخي بين إيران ومجموعة 5+1 في يوليو 2015، والذي يعد بمنزلة إقرار أمريكي ودولي بانتماء طهران إلى النادي النووي، وحقها في تخصيب اليورانيوم، مع التعهد بإنهاء النظر في نشاطاتها النووية تحت عنوان “منع انتشار الأسلحة النووية”. ودخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ بعد موافقة الكونجرس والبرلمان الإيرانيين. واستتبع هذا الاتفاق فتح الباب أمام طهران للخروج من نفق العزلة الدولية، فضلا عن رفع العقوبات المفروضة عليها، والتي شملت العديد من القطاعات الاقتصادية، والمالية، والعسكرية، وتجميد أكثر من مئة مليار من أرصدة إيران في الخارج.
في المقابل، انعكس الاتفاق النووي على مسار العلاقات الإقليمية، خاصة العلاقة مع إسرائيل، وتركيا. فمن جهة، لا يمكن توقع حدوث أي تغيير في السياسة الإيرانية تجاه إسرائيل. فدعم المقاومة الفلسطينية أمام الاحتلال مستمر، وهو يمثل إحدي الدعائم الأساسية في خطاب السياسة الإقليمية لإيران، فضلا عن أن طهران تمثل شوكة في خاصرة إسرائيل، لاسيما وأنها الداعم الأكبر لـ “حزب الله” في لبنان، وحركات المقاومة في قطاع غزة، وهو الأمر الذي يؤرق إسرائيل، ويزيدها انغماسا في همها الداخلي.
أما بالنسبة لتركيا، فرغم توثيق العلاقات التجارية بينها وبين إيران، فإنهما تتباينان في توجهاتهما السياسية، إذ تسعي إيران إلى توطيد العلاقة مع روسيا التي قلصت النفوذ التركي في الأزمة السورية.
يبقي المتغير المرتبط بمواقف تركيا عالية السقف في بعض الملفات، خاصة مشكلة اللاجئين، والصراع حول ناجورنوكارباخ، فضلا عن السياسات العدائية تجاه بعض دول الإقليم، الأمر الذي كلف تركيا خسائر غير قليلة، مثل فشلها في الحصول على مقعد في مجلس الأمن، أو إخفاقها في الفوز بتنظيم مسابقات رياضية عالمية.
والأرجح أن هذا التطور يثير قلق تركيا التي تدخل، منذ يوليو 2015، في مواجهات مفتوحة مع الأكراد جنوب شرق البلاد. وزاد هذا القلق مع استقبال روسيا، نهاية ديسمبر 2015، زعيم حزب الشعوب الديمقراطية صلاح ديمرطاش، وفتح جبهة دبلوماسية مع أكراد تركيا، وهو الأمر الذي يؤجج التوتر التركي- الروسي. وكانت روسيا قد دخلت على خط النزاع التركي – الكردي، إذ قال لافروف، وزير الخارجية الروسي، لدميرطاش “إن روسيا تدعم البرنامج السياسي لحزبه”.
في هذا السياق، يبدو التقارب بين أنقرة وتل أبيب مهما لتركيا لتوطيد علاقاتها المشحونة مع واشنطن التي تعرضت للتآكل طوال الشهور التي خلت، وبلغت ذروتها بعد انسحاب رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو من المشهد السياسي، والذي كان يعد حليفا موثوقا لواشنطن، وصوتا معتدلا داخل الحكومة، فضلا عن كونه أكثر تسامحا عن رئيسه تجاه الأكراد، وهم القوة البرية المدعومة من أمريكا لمواجهة “داعش”. ومن ثم، يمكن لتركيا استثمار النفوذ الإسرائيلي على واشنطن والغرب لجهة توقف دعم الصعود الكردي، وتحول الأكراد إلى حليف للولايات المتحدة على الأرض في سوريا والعراق.
إضافة إلى ما سبق، أخفقت سياسة “تصفير مشاكل”، حيث توترت العلاقات التركية مع كل من العراق وإيران، على خلفية الاصطفاف الحاصل إزاء الأزمة السورية. وكانت العلاقة مع العراق قد وصلت إلى الذروة بعد إرسال تركيا قوة عسكرية إلى معسكر للمقاتلين، تابع لحليفها أثيل النجيفي، محافظ نينوي السابق، نهاية العام الماضي، في بلدة بعشيقة قرب الموصل، وهو ما ترتب عليه غضب الحكومة المركزية في بغداد التي دعت أنقرة إلى سحب قواتها من شمال العراق دون قيد أو شرط، بالرغم من اتفاق نادر في ثمانينيات القرن الماضي، سمح العراق بموجبه للقوات التركية بالدخول إلى أراضيه في الشمال (إقليم كردستان) لملاحقة عناصر حزب العمال، بعد بدء تمردهم المسلح عام .1984
كما صارت العلاقة أكثر تعقيدا مع إيران، والممتدة على أرضية الصراع التاريخي بين الدولة الصفوية الشيعية، والدولة العثمانية السنية، بالرغم من وصول معدل التبادل التجاري بينهما إلى نحو 30 مليار دولار بنهاية عام .2015 كما أصبح الاحتقان السمة الأبرز في علاقات أنقرة مع ليبيا، واليونان، والقاهرة، ولبنان، وبعض العواصم الخليجية.
لم يقتصر توتر علاقات تركيا الإقليمية على ما سبق، فقد أضحت العلاقة شائكة مع الاتحاد الأوروبي بسبب التهديدات التي يطلقها الرئيس أردوغان في وجه بروكسل، والتفكير في إلغاء اتفاقية وقف الهجرة الموقعة في مارس الماضي، الأمر الذي دفع الاتحاد للتفكير في البحث عن بدائل، ووقف المساعدات المالية البالغة قيمتها ستة مليارات يورو، التي تعهد الاتحاد بمنحها إلى تركيا، خاصة بعد استقالة داود أوغلو، الذي يعد مهندس الاتفاقية.
ووصل التوتر بين أنقرة والاتحاد الأوروبي إلى الذروة في 12 مايو 2016، بعدما شن عدد كبير من النواب ورؤساء الكتل النيابية في البرلمان الأوروبي هجوما شديدا على مشروع إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة دخول “شنجن” إلى الأراضي الأوروبية، واصفين إياه بأنه “خضوع من الاتحاد الأوروبي لديكتاتور يمارس الابتزاز”، في إشارة إلى فرض أردوغان عددا من الشروط على أوروبا، مقابل تنفيذ تعهداته بمنع تدفق اللاجئين من حدود بلاده إلى شواطئ أوروبا.
ثانيا- تحديات أمام التقارب:
ثمة تحديات تقف حجر عثرة أمام التقارب التركي – الإسرائيلي، منها رفض إسرائيل رفع الحصار الكامل عن قطاع غزة، بينما لا تزال القضية الفلسطينية أحد محاور السياسية الخارجية التركية، وإحدي أدوات التعبئة والحشد لمصلحة العدالة والتنمية. وكانت تركيا قد تعهدت بدعم الرئيس الفلسطيني (محمود عباس) حتي يحصل على اعتراف الأمم المتحدة بقيام دولة فلسطينيه، الأمر الذي يوسع الرتق بين أنقرة وتل أبيب.
لذلك، ربما يكون من الصعب على القيادة التركية أن تغير موقفها في فترة قصيرة، ليس فقط لمدي تأثير ذلك في مصداقيتها في الشارع الفلسطيني، والقوي السياسية المتناغمة مع توجهاتها، ولكن أيضا أمام الرأي العام التركي الداعم للقضية الفلسطينية، وهو ما يجعل التقارب بين البلدين مشكوكا فيه، على الأقل من جانب تل أبيب.
أما التحدي الثاني، فيتمثل في صعود المعارضة الشعبية داخل تركيا لخطوات التقارب مع تل أبيب، خصوصا أن مسارات الأحداث تكشف عن سياقات سياسية مختلفة تشير إلى تراجع الدعم التركي للقضية الفلسطينية. وكان بارزا، هنا، الاتفاق على تعويضات ضحايا السفينة “مرمرة”، وإسقاط تركيا كل الدعاوي القضائية ضد إسرائيل بشأن الحادث، وإبعاد أنقرة القيادي في “حماس” صالح العاروري، تحت ضغط إسرائيل.
والأرجح احتمالات إجراء انتخابات عامة مبكرة هذا العام، بعد رحيل أوغلو عن رئاسة الوزراء، وهو ما قد يمثل اختبارا للتقارب التركي مع إسرائيل، في وقت يعمل فيه أردوغان على التعجيل بمساعيه لتعزيز عودة العلاقة مع إسرائيل. وهو يدرك أن التقارب التركي – الإسرائيلي قد يدفع نحو إعادة النظر في الرؤية التركية للقضية الفلسطينية، ولاسيما العلاقة مع “حماس.
على صعيد ذي شأن، فإن التقارب مع إسرائيل يتطلب أن تذيب تركيا مبدئيا الجليد في علاقاتها مع القاهرة، خاصة أن إسرائيل، قد لا تكون راغبة في إثارة حفيظة القاهرة التي ترتبط معها بعلاقات جيدة، وبتنسيق أمني عال فيما يخص المواجهات الأمنية ضد الجماعات الجهادية في سيناء.
خلف ما سبق، ثمة غياب إجماع داخل إسرائيل بين القوي السياسية بشأن المصالحة مع تركيا. ففي الوقت الذي يدعم فيه رئيس الوزراء نتنياهو خيار المصالحة، هناك توجهات مناوئة، أبرزها وزير الخارجية السابق ليبرمان، الذي يري في الرئيس التركي أردوغان “زعيما راديكاليا إسلاميا”. كما عبرت عضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، كسنيه سافاتلوفا، عن مخاوفها من الاتفاق مع تركيا، وقالت “صحيح أن تركيا دولة مهمة، لكنها ليست أكثر أهمية من روسيا”.
لذا، فإن التقارب التركي – الإسرائيلي سيكون موضع اختبار وبحث لدي قطاعات سياسية كبيرة في إسرائيل حول مدي جديته، والمدي الذي يمكن أن تذهب إليه أنقرة، في ظل شكوك إسرائيلية بأن يكون الأمر مجرد مناورة لتخفيف الضغط الإقليمي والدولي على تركيا، دون أن تكون هناك تطورات فعلية في العلاقات.
يرتبط العائق الرابع بالمتغير الكردي، فثمة شكوك ومخاوف تركية من علاقة تاريخية بين إسرائيل والأكراد، لاسيما وأن تل أبيب لا تخفي تأييدها لإقامة دولة كردستان الكبري. وتعود جذور العلاقات بين إسرائيل والأكراد، خاصة العراقيين، إلى الخمسينيات، عندما سعت إسرائيل إلى تعزيز العلاقات مع دول ولاعبين غير عرب من أجل الخروج من العزلة التي فرضتها عليها الدول العربية.
صحيح أن ثمة منطقا عكسيا وجه علاقات إسرائيل مع الأكراد في تركيا بالنظر إلى حساسية تركيا من المسألة الكردية، وتصنيفها والغرب “حزب العمال الكردستاني” منظمة إرهابية، إلا أنها لم تتردد في استخدام الأكراد كورقة ضغط رابحة مع تركيا في بعض المواقف الحرجة، والمرتبطة بملف حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات.
في المقابل، أسهم صعود الإسلاميين المتشددين، وعلى رأسهم “داعش”، في إحداث تغيير نوعي في موقف الولايات المتحدة، وبعض القوي الإقليمية، خاصة إسرائيل، من الأكراد الذين أصبحوا رأس حربة في مواجهة المتشددين، خاصة في ظل تفكك وتراجع الدولة المركزية في سوريا والعراق. ويبقي تحد خامس يعود إلى التسريبات الحكومية بعلاقة خاصة تربط إسرائيل وجماعة فتح الله جولن، المتهمة بتأسيس تنظيم مواز يهدف إلى إسقاط نظام الحكم.
في ضوء العوائق السابقة، تظل فرص عودة الدفء للعلاقات التركية – الإسرائيلية هي الأرجح، بالرغم من عدم حاجة تركيا إلى إسرائيل في مجال الصناعات الدفاعية، بعد أن قطعت شوطا كبيرا على صعيد إنتاج برامج وأنظمة تسليحية محلية متقدمة. لكن تظل أنقرة بحاجة إلى تل أبيب كرافعة ليس في مواجهة روسيا، وإنما لترميم علاقاتها مع الغرب التي أصبحت على المحك.
ثالثا- سيناريوات محتملة:
على الرغم من أن حصار غزة لا يزال النقطة الخلافية التي تقف شوكة في طريق عودة العلاقة بين تركيا وإسرائيل، يحرص أردوغان على إبقاء الباب مفتوحا، حتي إن عبر لنظيره الإسرائيلي، رئوفين ريفلين -في محادثة هاتفية نادرة، عشية هجوم اسطنبول في مارس الماضي، وأسفر عن مقتل ثلاثة إسرائيليين- بأن أنقرة على استعداد للعمل مع إسرائيل في محاربة الإرهاب الدولي.
وفي مارس الماضي، أكدت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية أن وزارة الدفاع التركية طلبت شراء أسلحة إسرائيلية الصنع، ومعدات طائرات، في إطار العودة إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، خاصة أن تركيا كانت سوق كبيرة ومهمة للصناعات الأمنية الإسرائيلية، التي تشمل طائرات بدون طيار، وأنظمة المخابرات، والدبابات، والعديد من الأسلحة.
على الضفة الأخري من النهر، تمثل تركيا مدخلا مهما لإسرائيل في توطيد علاقاتها مع أذربيجان، الحليف الأوثق لتركيا في القوقاز. فإسرائيل المورد الرئيسي للجيش الآذري بالسلاح النوعي المؤثر في سير المعارك مع أرمينيا بشأن إقليم ناكورنوكارباخ. وتدرك إسرائيل فاعلية الدور التركي المؤثر في قرارات أذربيجان الاستراتيجية.
في هذا السياق العام، فإن ثمة سيناريوات محتملة للعلاقة، أولها أن تسفر المفاوضات الجارية عن اتفاق يجسر الفجوة بين البلدين، ويعيد العلاقات الدبلوماسية إلى سابق عهدها. ويساعد على ذلك عدة عوامل، منها البيئة الإقليمية والدولية التي أعادت صياغة المشهد في المنطقة، وأيضا حدوت تطور نوعي في العلاقة بين تركيا وإسرائيل، ومدي استجابة الأخيرة لشروط تركيا لتعافي العلاقة، حيث اعتذرت إسرائيل رسميا عام 2013، وقبلت تركيا الاعتذار، فضلا عن استعداد إسرائيل لتقديم تعويضات لأهالي الضحايا الأتراك. الأهم أن تركيا لم يعد لديها الإصرار على رفع الحصار عن غزة، وإنما تسعي إلى تخفيفه.
على جانب آخر، فإن حجم التقدم في محاولة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، والقيود التي تُفرض على تركيا في هذا الصدد يدفعانها لئلا تذهب بعيدا في علاقتها مع حركة حماس، وألا تتمادي في القطيعة مع إسرائيل التي تحظي بدعم غربي.
لذا، ووفق هذا السيناريو، قد تقوم إسرائيل بتخفيف الحصار جزئيا عن القطاع دون مهادنة المقاومة المسلحة، وهو ما يمكن أن تسوقه أنقرة على أنه كسر، أو تخفيف للحصار، برعاية وجهد تركيين خالصين، وقد تدعم هذا التوجه عبر إرسال سفن مساعدات، أو استثمارات في إعادة الإعمار للقطاع، بالترتيب مع إسرائيل. وربما يساعدها على ذلك التحسن الجزئي في علاقة حركة حماس مع بعض الدول الغربية، إلى جانب قرار المحكمة الأوروبية بطلان قرار وضع حركة حماس على قوائم الإرهاب.
أما السيناريو الثاني، فهو احتمال فشل المفاوضات، واستمرار القطيعة، إذا ما استجابت إسرائيل لتحفظات موسكو على تقاربها مع أنقرة. لكن هذا السيناريو ليس مرجحا، في ظل حاجة إسرائيل إلى تعظيم منافع التبادل الاقتصادي مع تركيا، السوق الأهم لإسرائيل، فضلا عن التماهي الحادث في العلاقة بين موسكو وتل أبيب، خاصة مع اقتراب موسكو أكثر مما ينبغي من طهران وحلفائها، وعدّ إسرائيل انتصارات بقايا جيش الأسد، وميليشيات طهران الشيعية بمنزلة خطر محتمل، ولو شكليا، لإسرائيل التي سعت، دوما، لمنع سقوط النظام، وانتصار المعارضة، لإبقاء معركة الاستنزاف السورية مفتوحة إلى أبعد مدي زمني ممكن.
القصد أن فرص التقارب التركي – الإسرائيلي تبدو الأكثر احتمالا، في ظل حاجة كل طرف إلى الآخر. فإسرائيل قد تستفيد من عودة الصفقات التسليحية والتنسيق الأمني بجانب العلاقة التجارية مع تركيا، في ظل التعاون التاريخي بينهما في هذه المجالات، فضلا عن أن التقارب قد يعيد الرؤية التركية للقضية الفلسطينية، وفي الصدارة منها العلاقة مع حماس، وربما يفتح بابا آخر لتقارب محتمل بين أنقرة والقاهرة، بضغط من تل أبيب التي تحتفظ بعلاقات قوية مع النظام المصري.
أما تركيا، فيمكنها عبر هذا التقارب إيجاد بديل للطاقة عوضا عن موسكو، فضلا عن ضمان وجودها في السوقين الأوروبية والأمريكية، المعقدتين والمتشابكتين عبر البوابة الإسرائيلية، بعد أن أضحت علاقاتها مع الغرب على المحك.
كرم سعيد
مجلة السياسة الدولية