من أهم سمات الأزمة السورية تعارض خطابات معظم الدول المتورطة فيها مع سياساتها وممارساتها على الأرض. تـُجمع هذه الدول على أنها ترفض تقسيم سوريا، وتريد الإبقاء على وحدتها. يقول كل منها ذلك بصيغة ما، ويكرره. ولا ينتبه المسؤولون فيها حين يقولون ذلك إلى أن خطابهم ليس واقعياً. يفيد الواقع أن سوريا لم تعد موحدة، ولا معنى بالتالي للحديث عن المحافظة على وحدتها.
والحديث الواقعي في هذا المجال يكون عن إعادة توحيد سوريا المُقسَّمة فعلياً. والمفارقة أن معظم ما يُقال عن المحافظة على وحدتها يصدر عن مسؤولين في الدول التي قامت، وتقوم حتى اليوم، بالدور الأكبر في تقسيمها فعلياً، وهي إيران وتركيا وروسيا.
ولا يحتاج الأمر إلى كثير من التأمل في الخريطة السورية لملاحظة سيطرة أطراف معينة على مناطق نفوذ محددة، على نحو يُـمثّـل إرهاصات لحدود فعلية، بعد أن ثبت عجز أي منها عن الحسم العسكري النهائي. ولعل النتيجة الأكيدة للتدخل العسكري الروسي، بعد عام على بدايته، هي كشف أن هذا الحسم مستحيل، بعد ثبوت أن هدف إسقاط النظام الذي تمسكت به المعارضة لسنوات لا يقل استحالة.
ومن هنا الأهمية الخاصة لمعركة حلب، وما تتسم به من ضراوة ووحشية. تسعى عدة أطراف إلى توسيع مساحات نفوذها في مناطق مختلفة من حلب، التي تحظى بمكانة مميزة لدى النظام وحلفائه بوصفها ثاني أكبر محافظات سوريا، وعاصمتها الاقتصادية.
ولذلك تُعد استعادة قسم معتبر منها إضافة كبيرة إلى منطقة نفوذ النظام التي تمتد من السويداء ودرعا جنوباً إلى دمشق وحمص وصولاً إلى طرطوس ومعظم اللاذقية. وتستمد معركة حلب أهميتها أيضاً من أن الفصائل المسلحة التي تخوضها تسيطر على قسم كبير من ريفها. وتشمل منطقة نفوذ هذه الفصائل أيضاً محافظة أدلب وأجزاء من أرياف بضع محافظات أخرى.
وهناك منطقة ثالثة مازالت في حوزة تنظيم «داعش»، وهي تتركز في محافظتي الرقة ودير الزور، وقسم من الحسكة، وريف تدمر. وثمة منطقة نفوذ رابعة يسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وحلفاؤه وذراعه العسكرية «وحدات حماية الشعب»، وهي تتركز في ريف الحسكة والجزيرة وكوباني (عين العرب) وعفرين ومنبج في شمال شرق سوريا. وكانت خطة هذا الحزب ربط إقليمي الجزيرة وكوباني في شرق الفرات بعفرين في غربه، الأمر الذي أوقفته تركيا عبر تدخل عسكري تمددت من خلاله قواتها مع بعض فصائل «الجيش الحر»، لتقيم منطقة نفوذ جديدة خاضعة لها بين حدودها وشمال حلب.
وفضلاً عن مناطق النفوذ هذه، هناك المنطقة الممتدة من حدود الأردن إلى ريفي درعا والقنيطرة، ومن ضمنها الجولان المحتلة، حيث توجد فيها قوات تابعة لبعض كتائب «الجيش الحر» تحظى بدعم أميركي، وقوات محدودة لكل من تنظيم «داعش» وجبهة «فتح الشام» أو «النصرة»، ولكن الأردن نجحت في تأمين حالة هدوء في هذه المنطقة من خلال علاقاتها الطيبة مع روسيا، واتصالاتها مع إسرائيل، مستفيدة من التفاهم بين الطرفين على منع تنفيذ عمليات عسكرية انطلاقاً من الجولان.
وهكذا توجد في اللحظة الراهنة أربع مناطق نفوذ رئيسة على الأقل يسيطر على كل منها أحد أطراف الأزمة، بخلاف المنطقة المجاورة للحدود مع الأردن. ويصعب تصور أن تؤدي المعارك الدائرة والمتوقعة إلى تغيير جوهري في هذه الخريطة في الأمدين القصير والمتوسط على الأقل، ولكن يُتوقع حدوث تغير في مساحات بعض مناطق النفوذ الراهنة.
وإذا صح ذلك، نصبح إزاء حالة تقسيم فعلي قابلة للتحول إلى دويلات منفصلة إذا طال أمد الأزمة، ولم تتوفر مقومات حل سياسي لا يمكن في هذه الحالة إلا أن يقوم على أساس فيدرالي.
وربما يُثار هنا سؤال عما إذا كان في إمكان الدول المتورطة في الأزمة دفع الأطراف المحلية إلى حل سياسي قبل أن تزداد صعوبة إعادة توحيد سوريا. نظرياً ليس هناك ما يحول دون هذا الاحتمال، ولكن واقعياً تكثر العوائق أمامه لأن هذه الدول تسعى في الوقت نفسه إلى تثبيت مصالحها قبل كل شيء، كما أن تقاطع هذه المصالح في بعض الأحيان لا يكفي للدفع نحو حل سياسي في الوقت الراهن.
وإذا كانت الدولتان الأكبر عاجزتين عن الاتفاق على هدنة جزئية محدودة وضمانات للالتزام بها، فهل يمكنهما الدفع باتجاه حل سياسي شامل يعيد توحيد سوريا؟
وحيد عبدالمجيد
صحيفة الاتحاد