هل أصبح «الفيتو» في مجلس الأمن عائقاً حقيقياً أمام البشرية لإيقاف شلال الدم المتدفق منذ أكثر من خمس سنين في سوريا والعالم يتفرج على هدم مدن كبرى كانت مؤسسة في الحضارة الإنسانية مثل حمص وحلب؟ وهل يقبل العالم كله أن يكون مصير مئات الآلاف من المدنيين السوريين مبرماً؟ وموسكو اليوم تصعّد قصفها على حلب وإدلب والغوطة، كأنها تعلن التحدي أمام كل مَن صوّتوا للقرار الفرنسي الذي أصرت موسكو على إسقاطه؟
لقد بدا مجلس الأمن في جلسة التصويت على القرارين الفرنسي والروسي يخوض امتحانه الأصعب، وقد سقطت خياراته الإنسانية أمام حق «الفيتو» الذي بات نوعاً من التسلط المشروع على حقوق الشعوب، وانحيازاً مطلقاً إلى منطق القوة أمام منطق الحق، ولعل دول العالم كله بدأت تضيق أخلاقياً بهذا «الفيتو» الذي منح حق الاعتراض والإجهاض لأي قرار تعترض عليه إحدى الدول الخمس التي شرعت لنفسها حق قيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية! وكان هذا التشريع حلاً لتداعيات تلك الحرب وترضية لكل الأطراف، ولكن المتغيرات الدولية الكبرى خلال سبعين عاماً تقضي بأن يعيد العالم تشكيل مجلس الأمن وضم دول أصبحت كبرى وذات قوة تؤهلها للمشاركة الدائمة في عضوية المجلس مثل ألمانيا واليابان والبرازيل والأرجنتين والهند وباكستان، وأن تكون للجامعة العربية عضوية دائمة لكونها تمثل مساحة كبرى في قلب العالم. وقد انتقدت دول كثيرة في العالم بِنْية مجلس الأمن، وكانت أولاها السعودية التي رفضت قبل أعوام عضوية المجلس الدورية، وحتى فرنسا انتقدت ما يسمى حق «الفيتو»، وقد استخدمت الولايات المتحدة حق الاعتراض «الفيتو» أكثر من 80 مرة، واستخدمته روسيا نحو 140 مرة، واعترضت الولايات المتحدة على 33 قراراً لمصلحة القضية الفلسطينية! ومنذ بداية القضية السورية اعترض المندوب الروسي على كل القرارات التي حاولت فيها الأمم المتحدة وقف القتال في سوريا، وكان أول «فيتو» لروسيا عام 2011 حين اعترضت على مشروع قرار يعاقب النظام! وفي عام 2012 عطلت روسيا مشروع قرار يحمّل رأس النظام السوري مسؤولية إراقة الدماء، وفي عام 2012 أيضاً اعترضت على قرار عقوبات على النظام السوري لأنه لم يتوقف عن قتل شعبه. وفي عام 2014 عطلت مشروع قرار بإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته بارتكاب جرائم حرب. ومؤخراً في 8/10/2016 عطل «الفيتو» الروسي مشروع القرار الفرنسي الإسباني الذي يطالب بوقف إطلاق النار، وقد صوّت 11 بلداً لمصلحة القرار وامتنعت الصين عن التصويت.
وكانت روسيا قد حمت النظام السوري من المحاسبة يوم استخدامه الكيماوي، ثم دخلت قبل عام بقوى عسكرية ضخمة لتقاتل بشكل مباشر، ثم استصدرت قراراً من مجلس «الدوما» بشأن ديمومة بقائها العسكري في سوريا. وصارت سوريا ملحقة بموسكو، ومنحت إيران حق المشاركة، وأفسحت المجال للتنظيمات الإرهابية التي تفوق «داعش» في عدد الجرائم التي ارتكبتها، وفي عدد ضحاياها مثل «حزب الله» والميليشيات الطائفية العراقية والأفغانية والمرتزقة كي تشارك في قتل السوريين، وتغزو الشعب مذهبياً. ومع إصرار روسيا على استخدام القوة وحدها وتعطيلها القرار الدولي 2254 الذي وافقت عليه مضمرةً أن تفسره على طريقتها، توقفت مسيرة الحل السياسي، لتُبقي أحد خيارين أمام الشعب السوري، إما الاستسلام، وإما الموت! وهي حين تسمح للمقاتلين وللسكان المدنيين بالخروج الآمن إلى إدلب التي يتم تجميع المعارضة المسلحة فيها، فإنها تخطط لتضييق مساحة الحضور العسكري على المعارضة المسلحة بحيث يسهل عليها حصارها وإبادتها بعد أن تنتهي من حلب، ويبدو أنها لا تستهدف مناطق «داعش» لأن أعداء «داعش» منذ تأسيسها هم الجيش الحر والمعارضة المعتدلة.
ونحن في هيئة المفاوضات السورية على رغم حالة التعثر الراهن نشعر أن جلسة مجلس الأمن كانت امتحاناً آخر لصالحنا، فقد عبّر فيه أصدقاؤنا عن وفائهم للقضية السورية، وفضلاً عن مواقف الدول العربية المعلنة إلى جانب الشعب السوري مثل السعودية والإمارات وقطر والأردن وسواها من الدول الشقيقة ومواقف تركيا وألمانيا نثمّن موقف فرنسا، وتقدُّم الموقف الإسباني، والدور البارز الذي تؤديه بريطانيا في الحكومة الجديدة، وننظر بارتياح إلى تطور موقف الصين التي امتنعت عن التصويت، وهي خطوة نقدرها للخارجية الصينية ونرجو أن تراجع رؤيتها للقضية، وأن تكون نصيراً للشعب السوري في محنته، مثلما نرجو أن تراجع الولايات المتحدة مكانتها الدولية التي تنتهكها روسيا. ونجد أن العالم كله مطالَب اليوم بأن لا يستسلم للسقوط في امتحان «الفيتو» في مجلس الأمن، وقد آن له أن يعتمد مبدأ الديموقراطية التي تتغنى بها الدول الكبرى، بينما يستمر العمل في مجلس الأمن بديكتاتورية «الفيتو».
رياض نعسان الآغا
الشرق الاوسط