ما لم تحصل انتكاسة غير محسوب حسابها، فالأرجح أن الطريق بعد تحرير «دابق» يجب أن يوصل إلى استرجاع الموصل من قبضة زاعم بغير حق أنه «خليفة» المسلمين. بيد أن ما ليس خافيًا على أحد، هو ذلك السؤال الذي يقلق معظم المراقبين، باختلاف توجهاتهم وتباين مواقفهم، والذي يعكس مخاوف جمة مما يحتمل أن تشهده المدينة من مجازر حال تحريرها. ثمة تخوف أساسي يسكن أنفس كثير من الناس، يتلخص في أنه تحت ذريعة التخلص مما يتبقى من جيوب تنظيم داعش، فإن أبواب «انتقام شيعي» سوف تُفتح على مصاريعها أمام جحافل ما يسمى «الحشد الشعبي»، لتوقيع عقاب دموي بحق عوائل سُنّة الموصل وزعماء قبائلها. لئن وقع انتقام كهذا، وجرت الدماء في الأزقة والشوارع، فالأرجح أن التاريخ سوف يحمّل كل طرف يسمح بمثل ذلك الجرم، مسؤولية إذكاء نار فتنة سوف تفتح مصاريع كل الأبواب أمام أنهر دماء أهل الطوائف كافة، بلا أي استثناء.
بالطبع، ليس كل مروّج لذلك التخوف من حرب طائفية ضروس ذا نيّات صافية، بل مؤكد أن غير طرف يهمه انفجار الوضع بما يوسع دوائر هرج مشتعلة ويزيد مرج الاقتتال بالمشارق والمغارب. تلك أطراف تعمل منذ زمن بعيد لأجل مصالحها، وحجر أساس تلك المصالح تفتيت العالمين العربي والإسلامي إلى «كانتونات» ينصاع حكامها لإرادات خارجية بوسعها تنصيب أو خلع الحاكم. ما هذا بأمر جديد، سجلات تاريخ العرب والمسلمين، منذ ما بعد الفتوحات الإسلامية وصولاً إلى زوال الدولتين الأموية والعباسية، ومسلسل إنهاء الحكم الإسلامي في الأندلس، تقول بوضوح إن الوقوع في فخ الطرف الخارجي حصل من قبل، ثم إنه أدى إلى كوارث لم يزل لبعض منها تأثير حتى هذا الزمن. وبصرف النظر عن حقيقة «المؤامرة» أو شطحات تخيّلها، واضح أن «ربيع» عالم العرب إما أريد له أساسًا، أو صار يُراد منه لاحقًا، استنساخ بعض مشاهد ذلك التاريخ الضارب جذوره ليس فقط في الأرض، بل الأهم، أو الأخطر، في عقول كثيرين، وإلا ما تفسير أن يقبل أناس يُفترض أنهم ذوو صواب بسراب التصوّر أن التقسيم يمكن أن يوصل إلى الحل!
نعم، المقصود تقسيم العالم العربي. ضمن ذلك السياق تسمع من يبرر قبول «منطق» التقسيم بالقول إنه حاصل على أرض الواقع، ويُضرب المثل بالعراق أولاً قبل غيره، وسطًا وشمالاً فجنوبًا. لكن تبريرًا كهذا ينطوي على شيء من «جنون» التفكير. إنه يشبه حال من يرى عود ثقاب اشتعل بركن من حجرة داره، فيغض النظر عنه ظنًا أن لهبه سينطفئ وحده، حتى لو كانت على مقربة منه، مثلاً، ولاعة سجائره، ناهيك بأن تكون صفيحة بنزين هي الأقرب للعود المشتعل.
بين مفكرين عرب كثيرين، هناك من يرى أن شيئًا يماثل ذلك التغافل عن خطر عود الثقاب المشتعل، وقع منذ بدأت أفواج ما عُرف بالعرب الأفغان أدراج العودة إلى ديارهم بعد دحر احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان. تلك وجهة نظر تستحق التقدير. مجريات الأمور منذ خواتيم ثمانينات القرن الماضي، تشير بوضوح إلى نجاح أصحاب منهج التفكير المتطرف في استقطاب كثيرين من «العرب الأفغان» كي يشكلوا اللبنات الأولى لجماعات التكفير، التي توّج تنظيم «القاعدة» نفسه زعيمًا لها يفرض عليها أن تبايعه، ثم بدأ ينسل من عباءته من نافسوا زعاماته «جهادًا» يفسد في الأرض، حتى جاء من بزّهم توحشًا، ومن الرقة بسوريا والموصل في العراق زعم ما صار معروفًا لكل ذوي الألباب أنه محض افتراء، ولو شاء أولو الحل والربط في عواصم القرار الدولي، لما وصل الأمر إلى ما انتهى إليه قبل عامين.
شيء من التفاؤل بالخير يعزز الأمل في ألا نضطر لرؤية مشاهد انتقام على الإطلاق، سواء بالموصل أو في الرقة عندما يُكتب لها الانعتاق من ربقة الأسر الداعشي. إنما يبقى ضروريًا التساؤل عما سيعقب القضاء المبرم على تنظيم داعش، سواء بعد أشهر أو سنوات، هل سيبقى إغفال خطورة التفكير التكفيري سائدًا، وهل يظل مسموحًا للشحن الطائفي أن يستعر، بصرف النظر عما يمكن له أن يشعل من حرائق؟ مرة أخرى، التفاؤل بالخير أفضل من التشاؤم. إنما، المؤكد أن المهمة ليست سهلة، وربما من واجب عقلاء ذوي الرأي العرب، المنوط بهم التصدي لفكر التطرف، الاتفاق على التعامل بعقلانية فيما يختلفون بشأنه، فتمتد جسور التفاهم بدل أن يستشيط الغضب لمجرد اختلاف وجهات النظر. ألا يتسع فضاء حرية الاجتهاد في الرأي للجميع؟ بلى.
بكر عويضة
صحيفة الشرق الأوسط