كم علينا أن نكون أنذالاً كي نقرأ هذا العنوان، ولا يرف لنا جفن، والمثل الشعبي السوري يلتقط هذه الحالة الحزينة المروعة ليضعها في موقعها من العالم الراهن، حيث يُعلن بكل الأسى والاحتجاج ما التقطه من تاريخ البشرية وراهنها: «الناس اللي اختشوا ماتوا». لقد دخل العالم والمنظمات الدولية حالة «موت سريري»، ويكفي أن يجلس المرء أمام أحد اختراعات العلم المعاصر وهو (التلفاز)، ليكتشف ما كان مفارقة وصار عاراً، نعني هذا الاختراع وما لا يُحصى من الاختراعات الأخرى العظمى اللاحقة، في وقت وأوقات تفصح فيها منظمات كبرى وصدى ومؤسسات في حقول الإنسان وكرامته وحريته، عن ميول بشرية تجسد كل الدناءة والحقارة والوحشية والرغبة في القتل، إنها بحق تعبير عن ميل جارف للعودة إلى مرحلة أو مراحل عصر الوحشية والتوحش، وعلى هذا الصعيد ينبغي التمييز بين نمطين من التوحش (وبين قوسين) قد يتدخل القارئ لإضافة القول بضرورة التمييز بين صيغتين من التوحش، الأول تقوم على الحاجة إلى هذا الأخير من قبل الحيوان لممارسة قدرته على التوحش، ريثما يصل إلى حاجته، في حين أن الثانية تتمثل في كون التوحش حالة وجودية تلتصق بأنماط من البشر المعاصرين، كما في حالتنا الراهنة، فضلاً عن كونهم ورثوا شيئاً من ذلك من سابق عهدهم، هذه الكائنات تتجلى في مرحلتنا الراهنة بالقتلة القادمين من كل فج عميق والمتفقين على اللقاء في سوريا.
والآن يطرح السؤال التالي نفسه: ما المناسبة من لقاء أولئك بعضهم ببعض، وعبر التدقيق في سجلات مجرمي العصر، نضع يدنا على الفريق الأول منهم المتمثل في من يرغب في تجريب أسلحته على الأراضي السورية، عبر استخدامها هاهنا، مع التذكير بأن إنجاز ذلك يقتضي البقاء في سوريا «حتى وقت غير محدد»، أما الفريق الثاني فيلهث نحو سوريا لسببين (وقد أعلنهما جهاراً) هما التأسيس في الوطن العربي لأربع عواصم تصبح تابعة، وهي دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، أما شخصية هذا الفريق فهي (إيران الإسلامية وعلى رأسها الولي الفقيه)، أما السبب الثاني فيكمن في «نشر الدين الإسلامي» في العواصم السابقة، وخصوصاً ولاية الفقيه. وثمة فرقاء آخرون يأتون إلى سوريا لمساعدة شعبها على الخروج من وطنهم السوري المسالم، والذي عرّفت شعبه السوري منظمة كندية بأنه «أقرب إلى الحياة»، ولن نفصل في المجموعات العسكرية التي قدمت إلى سوريا لكثرتها وعدم أهميتها، أما السؤال الكبير الذي تتقاطع فيه كل تلك المجموعات من الضيوف غير المرحب بهم، فهو – بكل بساطة – «مشاركتهم السوريين في أعز مما يملكونه» وهو وطنهم، بمواردهم الاقتصادية الطبيعية والأخرى الاستراتيجية والثقافية والتاريخية، لكن المجموعات المذكورة، إذ عرفت من تاريخ السوريين العرب أن هؤلاء متكونون – مع إخوتهم العرب – من المحبة والكرامة والحرية وعشقهم للحياة الكريمة، إضافة إلى كبريائهم التاريخي الوطني، فإنهم، أي تلك المجموعات الغريبة الدخيلة، فاشلون وسيفشلون في اقتلاعهم من جذورهم، فقد التقوا على هدف استراتيجي واحد هو «تهجيرهم» من وطنهم إلى بقاع العالم كيفما كانت وأينما وجدت.
أما الطريف المدوي فيما نعيشه راهناً فيتمثل فيما تم تقديمه إلى سكان حلب من عرض يهتز له شرف البشرية، لقد قدم هؤلاء إلى الحلبيين عرضاً يتم بمقتضاه إخراجهم من مدينتهم على نحو آمن (وهنا تتجلى أكثر العواطف همجية)، لكن هؤلاء قدموا جوابهم على ذلك عملياً، وكذلك نظرياً: لقد خرجوا في تظاهرة تمثل تحدياً لأولئك، وهم يعلنون: إن حياتنا ومماتنا إنما هما نجمتان لا تزدهران ولا توجدان أساساً إلا في المدينة التي خلدها أمثال الشهيد يوسف العظمة وسعد الله الجابري وفارس الخوري، وأمثالهم ممن شرفوا الشعب السوري ومنحهم هذا شرف الخلود.
لقد سمعنا وعلمنا أن الباطل عمره يوم، وأن الحق والشرف عمرهما الخلود، فسوريا التي تستقوي بشعبها بكل طوائفه وإثنياته وأديانه من هنا وهناك وهنالك وفق الجهات التي يمتد فيها الوطن العربي، والآفاق البعيدة التي تتسع للبشرية الإنسانية الكونية، إن سوريا هذه تمثل أيقونة للعالم، بقدر ما تجد نفسها في هذا العالم بكرامة وشرف وحرية، وهذا ما يجعلنا نخاطب أعداء هذه المثل الكبرى، أن انتظروا، ولن نكون إلا إخوة لأبنائكم وأحفادكم نساويهم ويساووننا.
طيب تيزيني
صحيفة الاتحاد