قبل عدة أيام انطلقت معركة الموصل، والهدف كما أعلنته الحكومة العراقية، هو تحرير المدينة من سيطرة تنظيم «داعش»، آخر محطة في القضاء على هذا التنظيم، الذي تمكن في فترة وجيزة من السيطرة على أربع محافظات عراقية، هي الأنبار وصلاح الدين وديالى ونينوى. وكان تنظيم «داعش» قد استولى، قبل أكثر من سنتين وأربعة أشهر، على هذه المدينة، التي تعد الثالثة في العراق، من حيث تعداد سكانها، وأهميتها التاريخية، بعد بغداد والبصرة.
يهدف هذا الحديث إلى مناقشة المسارات السياسية لهذه المعركة وتعقيداتها، وتداعياتها على مستقبل العراق، ووحدة أراضيه. كما يناقش أسباب الصراع الإقليمي المحموم، والدائر بين الحكومة العراقية والأكراد وإيران من جهة، والحكومة التركية من جهة أخرى، ونقاط التقاطع والاختلاف بين القوتين الإقليميتين، حيال العملية العسكرية الدائرة الآن في الموصل.
من الصعب تقديم قراءة سياسية دقيقة، لما يجري الآن في أرض السواد، من غير ربطه بالاحتلال الأمريكي للعراق، وإفرازاته وتداعياته. فالمؤكد أن الاحتلال أودى بالدولة الوطنية العراقية، التي تأسست منذ مطالع العشرينات من القرن المنصرم، والتي استمرت سبعين عاما، حدث خلالها انتقال في مراكز القوى السياسية، وتحوّل من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، عام 1958. وترادف سقوط الدولة العراقية، بحل الجيش العراقي، صمام الأمان في الدفاع عن عروبة العراق وأمنه واستقراره. وتزامن ذلك مع نهب للمتاحف وحرق للجامعات، وقتل على الهوية، وتسعير للنزعات الطائفية المقيتة.
أما إفرازات الاحتلال، فكان من أهمها تمدد العمق الاستراتيجي لطهران، ليشمل أرض السواد بأسرها، ووصول حكومة موالية لإيران، وفي أقل تقدير حليفة لها. أما الإفراز الآخر، فهو العملية السياسية، التي أخرجت العراق، دستورياً، من انتمائه العربي القومي، واعتبرته بلداً يضم عرباً عراقيين، وليس بلداً عربياً، بالتاريخ والجغرافيا. وترتب على العملية السياسية هذه، قيام نظام على أسس القسمة بين الطوائف والأقليات الإثنية، والتمهيد لعزل الشمال العراقي عن المركز في بغداد، تمهيداً لفصله التام، عن العراق.
جاءت أحداث ما يدعى بالربيع العربي، لتضاعف من طبيعة الأزمة الشاملة في العراق. فقد نتج عن عسكرة الحركة الاحتجاجية في سوريا، تضاعف دور القاعدة و«داعش» وأخواتهما، وتحوّل سوريا إلى ساحة احتراب إقليمية ودولية.
وبديهي أن تستثمر التنظيمات الإرهابية، هشاشة الأوضاع في البلدين العربيين المتجاورين، سوريا والعراق، لتستبيح أراضيهما ولتدشن «داعش» مشروعها في الخلافة الإسلامية، على أجزاء واسعة، ومترابطة ومتصلة جغرافياً بالبلدين. فكان اختيار المحافظات الشرقية من سوريا، والمحافظات الغربية من العراق، لتشكل مشروع تنظيم «داعش» للدولة الإسلامية.
ولم يكن لهذا التنظيم أن يحقق مشروعه بهذه السرعة، من غير توافقه مع أجندات إقليمية واضحة، عملت على إضعاف الدولة الوطنية في العراق وسوريا معاً، لتسهيل عملية الانقضاض والهيمنة عليهما. وأيضا لأن ذلك يتماهى مع مشاريع تقسيم المنطقة العربية، المطروحة بشكل واضح وصريح من قبل الغرب، منذ أكثر من أربعة عقود.
وقد وجد الانفصاليون الأكراد، في العراق وسوريا، في هذه الفوضى، فرصة لتحقيق صبوات قومية قديمة، فعملوا جل جهدهم على استثمارها، وأيضاً على تسعير أوراها من جهة، وتوسيع حدود جغرافيا الكيان الكردي المتخيل ليشمل أراضي جديدة، لم تكن بالأصل في حسبان من رسموا وخططوا لفصلها عن الوطن الأم.
وهنا تتضح تعقيدات الحرب على الموصل. فالأكراد يدخلون في هذه الحرب، متطلعين إلى السطو على مدينتي كركوك والموصل. وهما مدينتان لم تكونا على خريطة الإقليم الكردستاني المتخيل، أثناء الصراع الملحمي، الذي استمر أكثر من ستة عقود، بين الدولة العراقية وبين المتمردين الأكراد. ولكن القضاء على الدولة الوطنية عام 2003، وحل الجيش العراقي، مكّن الانفصاليين الأكراد، من توسيع دائرة مطالبهم.
وهنا تتضح طبيعة التقاطعات بين القوتين الإقليميتين: إيران وتركيا. فكلاهما لا يرغب في قيام دولة كردية مستقلة، سواء فوق الأراضي العراقية أو السورية، لأن ذلك من شأنه أن يوسع دائرة المطالبات باستقلال الكرد، المتواجدين في إيران وتركيا، وهم بالتأكيد أكثر تعداداً بأضعاف عن الأكراد المتواجدين في العراق وسوريا.
نقطة التقاطع الأخرى، هي «داعش»، التي باتت خطراً محققاً على الأمن والاستقرار في عموم المنطقة. وفي هذا الموضوع، تبرز ازدواجية المعايير، لدى القوتين الإقليميتين. فإيران لم تكن تمانع من التنسيق والتعاون مع «داعش»، في مواجهة الأمريكيين. وتركيا لم تمانع من دعم «داعش» حين يتعلق الأمر بإضعاف الدولة السورية، ولكنهما معاً، يدركان أن «داعش» تنظيم منفلت، لا يمكن التحكم بحركته، وأنه لن يتورع عن القيام بعمليات تخريبية، داخل أراضيهما. ولذلك فهما يسعيان لضربه في مناطق والتنسيق معه في مناطق أخرى، وفقاً لمصالحهما ورؤيتهما الاستراتيجية.
وفيما يتعلق بالموصل، فإن الأتراك لا يمانعون من تحريرها، مرحلياً على الأقل، شرط أن يكون العراق موحداً. أما أن يستولي الأكراد على هذه المدينة، بما يستتبع ذلك، من استيلاء على كركوك، فإن الأمر مختلف جداً. إن ذلك سيعيد الحياة لمطالب يعتبرها الأتراك تاريخية لهم في الموصل. ومن هنا يطالبون بضرورة المشاركة في الحرب، لضمان ألا تسقط الموصل، بيد الميليشيات الكردية «البشمركة».
إيران في هذا السياق، تتخذ موقف «بين بين». فهي لا ترغب في استيلاء الأتراك أو الأكراد على الموصل، لكنها ليس في مقدورها منع ذلك. وإذا فرض عليها أن تقبل بأحد الأمرين، فإنها تفضل سيطرة الأكراد، وليس الأتراك، لحسابات تتعلق بمستوى توازنات القوة.
وتبقى معركة الموصل في مراحلها الأولى، والحديث عنها سوف يبقى مفتوحاً على مزيد من القراءة والتحليل.
يهدف هذا الحديث إلى مناقشة المسارات السياسية لهذه المعركة وتعقيداتها، وتداعياتها على مستقبل العراق، ووحدة أراضيه. كما يناقش أسباب الصراع الإقليمي المحموم، والدائر بين الحكومة العراقية والأكراد وإيران من جهة، والحكومة التركية من جهة أخرى، ونقاط التقاطع والاختلاف بين القوتين الإقليميتين، حيال العملية العسكرية الدائرة الآن في الموصل.
من الصعب تقديم قراءة سياسية دقيقة، لما يجري الآن في أرض السواد، من غير ربطه بالاحتلال الأمريكي للعراق، وإفرازاته وتداعياته. فالمؤكد أن الاحتلال أودى بالدولة الوطنية العراقية، التي تأسست منذ مطالع العشرينات من القرن المنصرم، والتي استمرت سبعين عاما، حدث خلالها انتقال في مراكز القوى السياسية، وتحوّل من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، عام 1958. وترادف سقوط الدولة العراقية، بحل الجيش العراقي، صمام الأمان في الدفاع عن عروبة العراق وأمنه واستقراره. وتزامن ذلك مع نهب للمتاحف وحرق للجامعات، وقتل على الهوية، وتسعير للنزعات الطائفية المقيتة.
أما إفرازات الاحتلال، فكان من أهمها تمدد العمق الاستراتيجي لطهران، ليشمل أرض السواد بأسرها، ووصول حكومة موالية لإيران، وفي أقل تقدير حليفة لها. أما الإفراز الآخر، فهو العملية السياسية، التي أخرجت العراق، دستورياً، من انتمائه العربي القومي، واعتبرته بلداً يضم عرباً عراقيين، وليس بلداً عربياً، بالتاريخ والجغرافيا. وترتب على العملية السياسية هذه، قيام نظام على أسس القسمة بين الطوائف والأقليات الإثنية، والتمهيد لعزل الشمال العراقي عن المركز في بغداد، تمهيداً لفصله التام، عن العراق.
جاءت أحداث ما يدعى بالربيع العربي، لتضاعف من طبيعة الأزمة الشاملة في العراق. فقد نتج عن عسكرة الحركة الاحتجاجية في سوريا، تضاعف دور القاعدة و«داعش» وأخواتهما، وتحوّل سوريا إلى ساحة احتراب إقليمية ودولية.
وبديهي أن تستثمر التنظيمات الإرهابية، هشاشة الأوضاع في البلدين العربيين المتجاورين، سوريا والعراق، لتستبيح أراضيهما ولتدشن «داعش» مشروعها في الخلافة الإسلامية، على أجزاء واسعة، ومترابطة ومتصلة جغرافياً بالبلدين. فكان اختيار المحافظات الشرقية من سوريا، والمحافظات الغربية من العراق، لتشكل مشروع تنظيم «داعش» للدولة الإسلامية.
ولم يكن لهذا التنظيم أن يحقق مشروعه بهذه السرعة، من غير توافقه مع أجندات إقليمية واضحة، عملت على إضعاف الدولة الوطنية في العراق وسوريا معاً، لتسهيل عملية الانقضاض والهيمنة عليهما. وأيضا لأن ذلك يتماهى مع مشاريع تقسيم المنطقة العربية، المطروحة بشكل واضح وصريح من قبل الغرب، منذ أكثر من أربعة عقود.
وقد وجد الانفصاليون الأكراد، في العراق وسوريا، في هذه الفوضى، فرصة لتحقيق صبوات قومية قديمة، فعملوا جل جهدهم على استثمارها، وأيضاً على تسعير أوراها من جهة، وتوسيع حدود جغرافيا الكيان الكردي المتخيل ليشمل أراضي جديدة، لم تكن بالأصل في حسبان من رسموا وخططوا لفصلها عن الوطن الأم.
وهنا تتضح تعقيدات الحرب على الموصل. فالأكراد يدخلون في هذه الحرب، متطلعين إلى السطو على مدينتي كركوك والموصل. وهما مدينتان لم تكونا على خريطة الإقليم الكردستاني المتخيل، أثناء الصراع الملحمي، الذي استمر أكثر من ستة عقود، بين الدولة العراقية وبين المتمردين الأكراد. ولكن القضاء على الدولة الوطنية عام 2003، وحل الجيش العراقي، مكّن الانفصاليين الأكراد، من توسيع دائرة مطالبهم.
وهنا تتضح طبيعة التقاطعات بين القوتين الإقليميتين: إيران وتركيا. فكلاهما لا يرغب في قيام دولة كردية مستقلة، سواء فوق الأراضي العراقية أو السورية، لأن ذلك من شأنه أن يوسع دائرة المطالبات باستقلال الكرد، المتواجدين في إيران وتركيا، وهم بالتأكيد أكثر تعداداً بأضعاف عن الأكراد المتواجدين في العراق وسوريا.
نقطة التقاطع الأخرى، هي «داعش»، التي باتت خطراً محققاً على الأمن والاستقرار في عموم المنطقة. وفي هذا الموضوع، تبرز ازدواجية المعايير، لدى القوتين الإقليميتين. فإيران لم تكن تمانع من التنسيق والتعاون مع «داعش»، في مواجهة الأمريكيين. وتركيا لم تمانع من دعم «داعش» حين يتعلق الأمر بإضعاف الدولة السورية، ولكنهما معاً، يدركان أن «داعش» تنظيم منفلت، لا يمكن التحكم بحركته، وأنه لن يتورع عن القيام بعمليات تخريبية، داخل أراضيهما. ولذلك فهما يسعيان لضربه في مناطق والتنسيق معه في مناطق أخرى، وفقاً لمصالحهما ورؤيتهما الاستراتيجية.
وفيما يتعلق بالموصل، فإن الأتراك لا يمانعون من تحريرها، مرحلياً على الأقل، شرط أن يكون العراق موحداً. أما أن يستولي الأكراد على هذه المدينة، بما يستتبع ذلك، من استيلاء على كركوك، فإن الأمر مختلف جداً. إن ذلك سيعيد الحياة لمطالب يعتبرها الأتراك تاريخية لهم في الموصل. ومن هنا يطالبون بضرورة المشاركة في الحرب، لضمان ألا تسقط الموصل، بيد الميليشيات الكردية «البشمركة».
إيران في هذا السياق، تتخذ موقف «بين بين». فهي لا ترغب في استيلاء الأتراك أو الأكراد على الموصل، لكنها ليس في مقدورها منع ذلك. وإذا فرض عليها أن تقبل بأحد الأمرين، فإنها تفضل سيطرة الأكراد، وليس الأتراك، لحسابات تتعلق بمستوى توازنات القوة.
وتبقى معركة الموصل في مراحلها الأولى، والحديث عنها سوف يبقى مفتوحاً على مزيد من القراءة والتحليل.
د.يوسف مكي
صحيفة الخليج