حاولت إدارة باراك أوباما منذ احتلال داعش لثلث أرض العراق عزل وضعه العسكري عن سوريا، رغم أنه واحد على المستوى السياسي، كما أن مؤسسة البنتاغون الأميركية ظلت دائما تتعامل مع الساحتيْن السورية والعراقية كساحة واحدة. طبعا السبب الرئيسي في هذا الفصل هو أن أوباما لا يريد التورط العسكري في سوريا بعد قراره سحب جيشه من العراق في العام 2011 رغم اعتراض قادة كبار من أعضاء الكونغرس.
كما لم يهتم الرئيس الأميركي بتلك الانتقادات التي وُجّهت إلى قراره بالتراخع عن معاقبة نظام بشار الأسد حين استخدم فعليا السلاح الكيماوي ضد شعبه واكتفى بسحب ذلك السلاح وكأن الجريمة تزول عن المجرم لمجرد سحب سلاحه، ألم يحتل سلفه بوش العراق رغم تدمير كامل أسلحة الدمار، كان الاحتلال مباشرا لثماني سنوات وجزئيا بتقاسم وتراض مع إيران إلى حد اليوم، لكن احتلال داعش الميليشياوي لكل من العراق وسوريا قابله الاحتلال الإيراني الميليشياوي لذات البلدين، وحين اكتشفت أميركا أنها وحيدة في الساحة العسكرية السورية بعد أن أخذ صراع الميليشيات مداه الفاعل بقيادة حزب الله اعتقدت إدارة أوباما أن صناعة مجموعات عرقية مسلحة تُكملُ دائرة الصراع الميليشياوي، فتخلت عن الجيش السوري الحر واعتمدت على مجموعات الاتحاد الكردي السوري. وشعرت هذه الإدارة بأن التوافق مع روسيا الجديدة، باعثة مجد الاتحاد السوفييتي، سيؤدي إلى التوازن المطلوب لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أربك إدارة أوباما ودخل طورا جديدا من الاحتلال العسكري في سوريا غير مبال بذاكرة هزيمة أفغانستان، فهو يعرف أن أميركا اليوم ليست أميركا عام 1989 ولأن منطق حروب الجيوش النظامية قد انتهت وظيفته، أصبحت وظائف وأدوات المصالح تعتمد جيوشا وفرقا طائفية وعرقية ميليشياوية تؤدي وظيفتها بمقاتلة بعضها البعض حتى تتعب وتنهار.
الروس ممتنون لما تقوم به إيران من تحريك وتوظيف عاليي الفعالية للميليشيات اللبنانية واليمنية والعراقية التي تنافس اليوم الجميع. ولهذا رضخت أميركا لمنطق “وحدة أرض النار” وتكاملها لتصبح نهايات معركة الموصل منطقة حلول لخارطة النفوذ الجديد في المنطقة.
لقد أحرج سيرجي لافروف زميله جون كيري في تعبيره عن تكامل أرض النار حين رد على قوله “نحن نقاتل داعش في الموصل”، فقال له “ونحن نقاتله في حلب”، لكن الفرق أن من يقاتل في حلب لديه ميليشيات ممتدة من سواحل البحر الأبيض المتوسط وحتى البصرة، أما أميركا فقد حاولت الاعتماد على العرب السنة عبر ممثليهم السياسيين في العراق فلعبت عليهم بأنها ظهيرهم القوي ولا يحتاجون إلى ميليشيات مسلحة، لكنها تركتهم لمصيرهم في العراق تلاحقهم في مدنهم تهمة “حواضن داعش” في حين تعرضوا إلى أبشع عمليات القتل الجماعي التي استكملت ما قامت به الميليشيات منذ عام 2003 وبمشاركة ودعم الاحتلال الأميركي، واليوم رغم مقاومتهم الباسلة داخل مدينة الموصل إلا أن مصيرهم على يد الميليشيات سيكون مخضبا بالدماء.
التصريحات الطائفية المتتالية من قادة الميليشيات ليست غريبة، حسن نصرالله قال “إننا في قتالنا بحلب ندافع عن لبنان وعن العراق وعن الأردن”، بذات اليوم الذي أطلق فيه نوري المالكي تصريحه “قادمون يا نينوى، وقادمون يا حلب، وقادمون يا رقة، وقادمون يا يمن”. وقبلها قال قائد “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي “نحن سنقيم دولة العدل الإلهي في الموصل وسيثأر وينتقم أحفاد الحسين من أحفاد يزيد”، كما أن معركة الموصل في المنطق الميليشياوي لن تكون سهلة، ويتوقع قائد منظمة بدر، هادي العامري، أن تتحول الموصل إلى حلب ثانية.
هذا الشغل الميليشياوي يخدم مباشرة المشروع الإيراني وهلال نفوذها الممتد من العراق إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا، لكي تصبح جارة لإسرائيل الهادئة بفعل عناوين المقاومة والممانعة وقادتها القوميين العرب الذين باع أغلبيتهم شعارات تحرير فلسطين بالدولارات الخضراء وأصبحت إيران بعد ريادتها للفكر الإسلامي الشيعي الذي انتهى الشغل منه داخل المؤسسات السياسية الشيعية لينتقل بهدوء وخارج كاميرات الإعلام لترويض قادة العرب السنة في العراق بعد أن تم عزلهم عن الجمهور العربي السني، ولتتقاسمهم مع تركيا، فاليوم هناك سنة تركيا وسنة إيران، ولا وجود لسنة السعودية أو قطر بعد انكشاف لعبتهم “يقبضون الثمن من تلك العواصم ويحجُّون إلى القبلة الجديدة طهران”، وإيران قبل تركيا كسبت دعاة القومية العربية المهزومة الذين أصبحوا منابر للمزايدة ولينضموا مع دعاة الماركسية البائدة إلى مشروع إيران في المنطقة.
ولهذا فمن حق إيران بعد هذا الشغل الطويل والانتصار في ضم العراق العربي إلى موالاتها واستكمال موضع قدم لوجستي لها في تلعفر وتحرير الموصل ألا تقبل بشراكة عربية أو تركية في تقاسم النفوذ غدا، ولهذا السبب هناك إصرار على أن تكون أدواتها موجودة في تلعفر خاصرة الموصل وإطلالتها على الشام، فأوعزت إلى حكومة بغداد بالتصعيد السياسي تجاه أنقرة في قصة تواجد القوات التركية في منطقة بعشيقة، وكان أداؤها السياسي مرتبكا لأن مناخ الحرب ضد تنظيم داعش هو مناخ عالمي وليست حربا وطنية محلية ولا مكان فيه لشعارات الدبلوماسية والسيادة، فالجميع داخلون طولا وعرضا في العراق، وتركت هذه الزوبعة الإعلامية من العبادي إحراجا لأصدقائه الأميركان الذين يساندونه بقوة في المعركة الحالية ولديهم- بذات الوقت- تحالف استراتيجي مع أنقرة عبر عنه أوباما قبل أيام حين وجه الشكر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمشاركته في الحرب على داعش.
أي عراق يتحدث حوله رئيس الحكومة حيدر العبادي، هل هو العراق العربي من دون جغرافية الأكراد الجديدة بعد تحرير أجزائها المكملة لتحريرها من داعش، أم هو عراق إيران أم عراق ما بعد الموصل الذي لا يعرف سياسيو بغداد ما هي خارطته المقبلة؟ وهل ستبقى الموصل موحدة أم ستتحول إلى ثماني مقاطعات وأقاليم عرقية وطائفية؟
كلام العبادي التعبوي للاستهلاك المحلي وفي إطار المنافسة بين أطراف التحالف الشيعي (حزب الدعوة ومجلس الحكيم وتيار مقتدى الصدر) ورأينا كيف وجه المالكي قبل أيام رسالة عنيفة لمسعود البارزاني يتهمه فيها بارتكازه على أميركا وإسرائيل، في الوقت الذي كان واقفا في مؤتمر صحافي بمنطقة الخازر المحررة وإلى جانبه عمار الحكيم رئيس التحالف الشيعي مرتديا البدلة العسكرية وعلى رأسه العمامة السوداء كتعبير عن تحالف الشيعة مع الأكراد، مع أن حزب الدعوة الذي يرأسه المالكي عضوا رئيسيا فيه وسط مقاطعة من أكبر فصيل شيعي هو فصيل مقتدى الصدر. أليس هذا المثال يؤكد أكذوبة “وحدة وقوة التحالف الشيعي” بعد أن ترأسه عمار الحكيم؟
الجهد الإيراني لإخضاع الموصل بعد داعش لهيمنتها صعب ومرير، وهناك خصوصية لأهل الموصل ستفاجئ الجميع في مقاومتهم اللعبة الطائفية، ومن العسير خلط الأوراق بجعلهم “داعشيين” وتساق نساؤهم سبايا ويختطف الآلاف من شبابهم، كما أن لعبة العزل الأميركي للحرب على داعش في العراق عن سوريا دحضتها المعطيات العسكرية الأخيرة على الضفتين السورية والعراقية مما أجبر قادة البنتاغون على الاعتراف بتواصل معركة الموصل بمعركة الرقة، ويتفق قادة الميليشيات العراقية مع القادة الأميركان على فتح ممرات آمنة للداعشيين للهروب من الموصل إلى سوريا والرقة المعقل النهائي لداعش حسب اعتراف هادي العامري، رئيس منظمة بدر، مع أن معلومات قد تم تسريبها تقول إن قادة داعش قد هربوا أو تم تهريبهم خارج العراق.
السيناريوهان الروسي والأميركي متنافسان على سوريا والعراق. روسيا وإيران تريدان إنجاز استسلام حلب لمحورهما وصولا إلى الرقة بعد انتهاء معركة الموصل لصالح إيران بالأدوات الميليشياوية التي أثبتت فعاليتها، والسيناريو الأميركي يسعى عبر قوات التحالف الدولي مع تركيا وبمشاركة أوروبية وعربية إلى تحرير الرقة والحفاظ على حلب بعد الموصل “النظيفة”، لكن هناك اختلافا كبيرا في موازين قوى كلا السيناريوهين. روسيا الصاعدة تقود التحالف الإيراني العراقي السوري، وأميركا المترهلة المعطلة حاليا بسبب الانتقال الإداري للسلطة الأولى في واشنطن تقود التحالف الدولي الغربي العربي المفكك.
سيناريو الضفة العراقية سيتطلب بحرا من الدماء سينزفه الموصليون ولا يتوقع استسلامهم للعبة الطائفية بعد طرد داعش حتى وإن تم إنجاز الهيمنة الطائفية على تلعفر. كما أن سيناريو الضفة السورية المرتبط بضفة العراق لن يكون تحقيقه سهلا من قبل روسيا وإيران، فمازالت حلب تقاوم حرقها وتهجير أبنائها، والرقة ليست سهلة لأنها ساحة المنازلة الأخيرة لصراع جميع الإرادات والقوى الكبرى (أميركا وروسيا وتركيا وإيران) وكذلك تنظيم داعش الذي يمكن أن يجددوا له وظيفة بعناوين جديدة ما دام الاختلال السياسي قائما ولم يحسم في كل من العراق وسوريا.
لم نسمع أحدا غير حكومة العبادي يتحدث عن إنجاز سريع لمعركة الموصل مع أن ميزان القوى يميل لصالح المهاجمين من قوى التحالف الكبيرة، فالعبادي الطامح إلى البطولة وأوباما الحالم بمكسب لحزبه يبحثان عن إنجاز سريع في الموصل، لكن أرض المعارك تقول شيئا آخر، لأن الميليشيات في لبنان وسوريا والعراق وهي تدفع هذه الدماء تبحث عن ثمن سياسي أكبر من أحجامها في المستقبل حتى وإن هدأت المدافع.