ما هو مستقبل تنظيم الدولة في أفغانستان وباكستان؟

ما هو مستقبل تنظيم الدولة في أفغانستان وباكستان؟

(الجزيرة)
ملخص
تبحث الورقة في وجود تنظيم الدولة في كل من باكستان وأفغانستان بعد مبايعة بعض القادة الميدانيين لحركة طالبان باكستان للتنظيم، وسعي التنظيم إلى الترويج له فكريًّا وإعلاميًّا وسط الباكستانيين؛ أملًا في كسب أرضية تجنيد جديدة. وتناقش الورقة صعوبة اختراق البنية الاجتماعية والدينية الأفغانية والباكستانية من قِبل هذه التنظيمات؛ نظرًا لتباين المجتمعين العربي الاستبدادي الإقصائي في الشام والعراق، مع البيئتين الباكستانية والأفغانية المفتوحتين نسبيًّا، مع تناغم علماء المدرسة الديوبنديَّة الحنفيَّة وانسجامهم مع المسلَّحين؛ فالمرجعيات الدينية ممثلة في “العلماء والمدارس الدينية” والمرجعيات الاجتماعية ممثلة في رؤساء القبائل لا يمكن تجاوزهما من الجهات الوافدة، فالدولة الحديثة لا تزال شبه غائبة عن الحيِّزيْن الديني والاجتماعي هنا، بخلاف ما هي عليه الحال في بلاد العرب.

أتى رفع الحظر عن حكم الإعدام بباكستان ليُمهِّد الطريق لقافلة من المحكوم عليهم بالشنق قد تصل -بحسب وزير الداخلية تشودري نثار علي- إلى 500 شخص معتقل من طالبان، وهو ما قد يزيد من حالة الاحتقان الشعبي، خصوصًا وأن من أُعدموا أقيمت لهم جنازات كبيرة نسبيًّا في قراهم؛ مما عكس رفض شريحة لحكم الإعدام، لكن الأخطر هو انقسام المجتمع الباكستاني عموديًّا، وخطف الأجندة الباكستانية من قِبل أطراف علمانية وليبرالية وفرض أجندتها تحت مسمى “محاربة الإرهاب”، مثل هذا قد يَنفُذ تنظيم الدولة منه ويستغله.

بعيدًا عن حالة التهويل الإعلامي عن تمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى باكستان وأفغانستان، يتكرر المشهد الذي تلا أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، ووَسْم كل إسلامي بالقاعدة وطالبان، دون حرص هذه النُّخب على بذل أي عناء لسبر المسألة والتحقق من عملية الضخ المعلوماتي التي تلوي الحقائق والوقائع لتفيد أجندات محددة بعيدًا عن الواقع، وتنحو لخلق عدو مضخّم لنيل مآرب جيوسياسية. فالخريطة الميليشاوية الإسلامية المسلحة في باكستان ليست بهذا التبسيط، ولابد للخبير أن يضع كل مجموعة بغض النظر عن المؤتلف والمختلف معها في السياق الطبيعي والتاريخي؛ فثمة مجموعات موالية لطالبان أفغانستان، وأخرى للقاعدة، وثالثة تمزقت وخرجت عن عباءة حركة طالبان التي لم يتبقَّ منها سوى مجموعة فضل الله من وادي سوات، والتي ورثت مجرد اسم حركة طالبان قبل أن يكون اسمها “تنظيم تطبيق الشريعة الإسلامية”، وعليه فقد انتهجتُ في تسميتها “ما تبقى من حركة طالبان”.

تبدو ظاهرة “تنظيم الدولة” أقرب ما يكون إلى “الموضة” التي لديها أمد، وليس بمقدورها أن تكسب أكثر؛ نظرًا لتعقيدات تاريخية وراهنية سنتحدث عنها لاحقًا، زاد من الأمر وصولها إلى حدّ الإشباع في مهدها بالعراق والشام؛ نظرًا لانتكاساتها في عين العرب “كوباني” أو في مطار دير الزور، ما دام الولاء لها منذ البداية يعود لـ”شرعية الإنجازات” وليس لشرعية أخرى.

لربما تسرّع المحللون والخبراء بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 حين حكموا بأن ما يُنعت بمركز زلزال ظاهرة الإرهاب قد انتقل من الشرق الأوسط إلى آسيا، وحفلت حينها -ولا تزال- مراكز الأبحاث بالدراسات لسبر غور ما وصفوه بالتحول الكبير، ولكن سريعًا ما أعادت الشام والعراق الأضواء مجددًا إليهما، وأرغمتا العالم على الاستدارة بزاوية قدرها مائة وثمانون درجة؛ مما فرض إعادة ترتيب الأوراق إقليميًّا ودوليًّا، والعودة بشكل كامل أو جزئي إلى الشرق الأوسط، الذي سرق رغبة أميركية وآمالًا تُداعبه بالتحول إلى آسيا وبحر الصين الجنوبي حيث المعركة الهادئة المحتدمة هناك، وكأن أميركا تبحث عن وهمٍ ينقلها من مستنقع شرق أوسطي غرقت بوحوله لعقود، أصبحت الكلفة فيه أكثر من المردود، لاسيما وأنها لم تعُدْ بحاجة كبيرة للنفط العربي بعد استعدادها عام 2015 لإنتاج الزيت الصخري مع كلفته المرتفعة نسبيًّا، لكنه سيخفف من اعتمادها على النفط العربي.

عزلة المدرسة الديوبندية

حين الحديث عن الحركات الجهادية في أفغانستان وباكستان لابد من العودة إلى المدرسة الديوبندية الحنفيَّة(1) التي فرّخت هذه الحركات، فقد استأثرت هذه المدرسة بالعمل المسلح في آسيا منذ تمرد أحمد وإسماعيل ضد البريطانيين في القرن التاسع عشر الميلادي، وتواصل هذا الإرث في القتال ضد السوفيت في أفغانستان أيام الاحتلال السوفيتي 1979- 1989، ثم حركة طالبان أفغانستان وباكستان بين 1995 وحتى الآن. لكن الواضح أن الحركات الجهادية في شبه القارة الهندية وأفغانستان يغلب عليها النزعة المحلية لا الدولية، برز ذلك بوضوح خلال حكم إمارة أفغانستان الإسلامية بزعامة حركة طالبان، حين حصرت اهتمامها بأفغانستان ولم تردّ حتى على بيعة تنظيم القاعدة أسامة بن لادن لزعيمها الملا محمد عمر، كما لم تردّ حتى على بيعة طالبان باكستان لها، وآثرت عدم الخوض في القضايا الإسلامية مهما كان حضورها وتفاعلها على المشهد العالمي.

ولمحلية المدرسة الديوبندية خلفيات تاريخية، فالمنطقة تفتقر إلى رمزية تاريخية إسلامية جامعة تجمع المنطقة مع غيرها في الضفة الإسلامية الأخرى “عربًا وتُركًا”، بخلاف ما كان عليه العرب والأتراك الذين وحّدوا العالم الإسلامي تاريخيًّا حول الخلافة “الأموية، العباسية، العثمانية”؛ إذ اقتصرت السلطنات الغورية والغزنوية والمغولية على حيزها المنطقوي وآثرت الانعزالية، ولم تمنح أي بيعة للخلافة في بغداد وإسطنبول طوال تاريخها. إرث لم تشذّ عنه حركة طالبان أفغانستان المعتمدة على نفس المدرسة الديوبندية الحنفية، فالمدرسة الديوبندية لا تمتلك امتدادًا فكريًّا في العالمين العربي والإسلامي، بخلاف المدرسة السلفية أو المدرسة الإخوانية “ممثلة في الجماعة الإسلامية بزعامة أبي الأعلى المودودي في باكستان”.

للمدرسة الجهادية -وكذلك السلطة الروحية الديوبندية في المنطقة- إرثها الطويل والثري كلّ في مجاله، وقد تعاونا ونسّقا على مدى ذلك التاريخ المديد الممتد لقرون، وكان كل واحد يدعم الآخر؛ فخلال مقاومة البريطانيين والسوفيت والتحالف الغربي الأخير، وفي أسوأ الأحوال لم يُدِن أو يتهم أو يتهجم طرف على آخر، ولعل شذوذ بعض ما تبقى من طالبان بمهاجمة مدرسة لأبناء العسكريين في بيشاور دليلٌ ناصع على ذلك، حين صمتت السلطة الروحية بكل فروع مدارسها الحنفية باستثناء موقف المفتي الأعظم تقي الدين عثماني الذي هاجم المهاجمين(2).

سعى تنظيم القاعدة إلى نشر عولمته بين الحركات الجهادية في المنطقة، مستغلًّا احتكاكه وخبرته بها بمشاركته في الجهاد الأفغاني 1979-1989، فلم يُفلح، وظلت الانعزالية الطالبانية الأفغانية هي المسيطرة، فلم يصدر عنها بيانات مؤيدة للقاعدة ولا حتى لطالبان باكستان، وحصرت جُلّ همها منذ اليوم الأول -ولا تزال- بـ”تحرير بلدها من التحالف الدولي وحكومته العميلة”، ومسألة إيواء زعيم تنظيم القاعدة لابد أن تُصنّف في خانة الكرامة الأفغانية التي تأبى عزة الأفغاني تسليم ضيفه، والدليل أن أسامة بن لادن أول من استضافه هو الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني قبل أن تقتله طالبان وتجتاح مناطقه، إضافة إلى أن العلاقة بين القاعدة وطالبان أفغانستان لم تكن أبعد من حدّ حماية ابن لادن؛ ولذا فبموته بدأت العلاقة تجفّ وتذبل، وكأن الحركة تسعى إلى التحلل من أربطة سابقة كبّلتها وكبّلت سياستها مما كلفها التضحية بإمارتها.

تبدو البيئة الأفغانية محكومة تمامًا بكبارها، من علماء أو شيوخ قبائل؛ ولذا فالأحزاب الإسلامية وحتى غير الإسلامية تجاري هذه الخلطة الأفغانية؛ مما يجعل مسألة اختراق المجتمع الأفغاني من الأغراب صعبة ومتعذرة، تجلَّى ذلك في مواجهة المجتمع الأفغاني برُمَّته للوافد الجديد ممثلًا في الأحزاب الشيوعية، ويؤكد تقرير رويترز الأخير ما ننزع إليه فيما يتعلق بـ”التشدد الإسلامي”، حيث تحدث عن وقوع أربع من قيادات طالبانية باكستانية في داخل أفغانستان محصورين بين الغارات الأميركية وانقلاب القبائل الأفغانية المحلية عليهم، فأخرجوهم من دنغام بولاية كونار الأفغانية؛ لتشددهم في الممارسات الاجتماعية اليومية، والسعي إلى فرضها على المجتمع الأفغاني(3).

الناظم لهذا المشهد المتباين عن مشهد المنطقة العربية هو أن عنصر العلماء الحقيقيين البعيدين عن السلطة في المنطقة يتناغم وينسجم مع الحركات الجهادية، وحتى في عزّ خلافهما، لم يصدر عن الجانبين أي فتوى أو تصريح يدين ويتهجم على الآخر، فقد حكم الاحترام المعادلة بين الجانبين، وطوال تلك السنوات الماضية لم تكن المدرسة الديوبندية الحنفية إلا مؤيِّدة ومساندة لطالبان أفغانستان وحتى لطالبان باكستان، وفي أسوأ الظروف تصمت المدرسة الديوبندية -التي تملك أكثر من 14 ألف مدرسة دينية بباكستان- على ممارسات طالبانية قد لا تروق لها، فتمتنع عن إدانتها، بخلاف المنطقة العربية؛ فالعلماء في الأخيرة إمّا في جيب السلطان أو لا علاقة قوية بينهم وبين الجماعات الجهادية.

مثل هذه المشهدية تجعل خروج جماعة عن السياق العام، وتوجيه التهم للعلماء بالعمالة ونحوها أمرًا مستحيلًا، كونه ليس واقعيًّا أولًا، وثانيًا لاستحالة أن يصدقها الجمهور، وإن حصل وخرجت مثل هذه المجموعة ستكون معزولة وفاقدة للحاضنة الاجتماعية، وأمر اضمحلالها وذبولها سيكون وشيكًا ومحتومًا.

يضاف إلى جملة العوامل المحصّنة لاختراق المشهد الأفغاني والباكستاني عامل آخر، فما جرى في بيشاور من استهداف للأطفال في المدرسة بحُجَّة أنهم أبناء عسكريين وردود أفعال المجتمع بكل أطيافه جاء كردٍّ واضح بأن اختراق الساحة من جماعات متشددة ليس بالسهل، فالخزّان البشري الإسلامي محجوز من قِبل حركات إسلامية معتدلة وربما متشددة، وفّرته لهما أجواء ديمقراطية نسبية بخلاف الواقع العربي الذي يحظر عمل هذه الحركات، مما لا يجد الشباب متنفسًا له للتعبير عن نفسه سوى التوجه صوب حركات متشددة.

هذه المقدمة باعتقادي مهمة جدًّا لفهم إمكانية أن يخترق تنظيم الدولة الساحتين الأفغانية والباكستانية، ومنها نستطيع أن نفهم حاله، وآفاقه في بيئة مقفلة على تنظيمات تماشت مع شعبها، ولم تتعرض لانشقاقات مع ما تعرضت له خلال السنوات الماضية كحركة طالبان أفغانستان.

هل وصل تنظيم الدولة إلى باكستان وأفغانستان؟

لأول مرة يسمع بها الباكستانيون عن تنظيم الدولة حين عرض الأخير مطلع العام الجاري استعداده الإفراج عن الرهينتين الأميركي جيمس فولي والبريطاني جون سوتولوف مقابل الإفراج عن العالمة البيولوجية الباكستانية عافية صديقي المتهمة بالعلاقة مع تنظيم القاعدة والمسجونة في أميركا، تبع هذا نشر بعض الكتابات على الجدران في مناطق القبائل وكراتشي ومدن أخرى تأييدًا للتنظيم، لينعكس على الأرض بمبايعة ستة من القادة الميدانيين الطالبانيين بمن فيهم الناطق السابق للحركة شاهد الله شاهد، وهو ما رفضته طالبان ففصلتهم. لكن ذاك الإعلان لم يعنِ شيئًا على الأرض؛ نظرًا للحالة الصعبة التي يعيشها تنظيم طالبان باكستان وتحديدًا القيادات المبايعة؛ بسبب العمليات العسكرية الباكستانية وهروب وتشتت القيادات والعناصر الطالبانية، إضافة إلى الغارات الأميركية بلا طيار التي حرمتهم من الملاذات الآمنة التي كانوا يحظون بها(4).

تقوم العقلية الباكستانية على التعاطف مع القضايا الإسلامية، لكن مع جهل أحيانًا بالمنطقة العربية والإسلامية، مما يجعل المجال مفتوحًا للمشاعر والأحاسيس، أكثر مما هو مبنيّ على المعلومات اليقينية؛ ولذا فردة فعل بعض الإسلاميين والطالبانيين المنشقين عن الحركة تجاه إعلان تنظيم الدولة للخلافة ربما يدخل في هذه الخانة، فالقيادات الطالبانية الباكستانية الهاربة من جحيم الغارات الأميركية بلا طيار، وجحيم الحملة الباكستانية التي فككت التنظيم، تترقب أي إنجاز يُخرجها من حالة الهزيمة التي تعيشها.

لا تزال باكستان رسميًّا وإعلاميًّا ترفض وجود التنظيم على أراضيها، وسعت إلى إزالة الشعارات المؤيدة له من على الجدران، واعتقلت من يُشك في تورطه بمشهدية الكتابة على الجدران(5).

غير أن التنظيم يبدو أنه معنيّ الآن بنشر أفكاره وسط الباكستانيين، حيث تسلم الصحافيون الباكستانيون كتابًا باللغة الأوردية المحلية عن نشأة التنظيم وأفكاره وأهدافه(6).

وبدت جماعة “لال مسجد” (المسجد الأحمر) مغردة خارج السرب الباكستاني والأفغاني الحنفي الديوبندي حين ظهر فيديو لسيدات من المسجد يبايعن تنظيم الدولة(7)، وقد بررت أم الحسن مديرة الجناح النسوي في الجامعة هذا التأييد بأنه نتيجة للظلم والعملية العسكرية التي تعرضن لها في 3 يوليو/تموز 2007 خلال حكم مشرف وراح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى؛ ولذا فلم تجد أم الحسن غضاضة في أن تقول: “البغدادي خليفتنا، والملا محمد عمر أميرنا”(8).

مولانا عبد العزيز إمام المسجد الأحمر دافع عن الفيديو وعن تنظيم الدولة(9)، لاسيما وأن أم الحسن هي زوجته، لكن اللافت هو الصمت الذي لاذ به عبد العزيز خلال برنامج تليفزيوني على قناة جيو الباكستانية حين سأله المذيع: هل قابلت البغدادي أو زرت العراق وسوريا قبل مبايعة البغدادي؟(10)، وحين سألتُ مسؤولًا طالبانيًّا أفغانيًّا رفيع المستوى عن هذا التصريح ردّ: “من الأفضل أن يعتني هؤلاء -وتحديدًا البنات والنساء- بالتعليم والتربية والعلم، على أن يتدخلوا بسياسة لا يدركونها ولم يُحسنوها يوم برزت أزمة المسجد الأحمر، فكيف يدركون ما يجري في الشام والعراق؟!”(11).

المسار الذي اتخذه الجيش الباكستاني ومن خلفه الحكومة في رفع الحظر عن حكم الإعدام الذي يهدِّد خمسمائة من المعتقلين الطالبانيين بالإعدام، كما قال وزير الداخلية الباكستاني تشودري نثار علي، قد يفضي إلى كسب المتشددين لحواضن اجتماعية جديدة وإن كانت بنطاق ضيق، ربما لن يتعدى مناطق البشتون والقبائل الباكستانية.

صحيح أن باكستان وأفغانستان لا تحاذيان “تنظيم الدولة”، ولكنهما بالتأكيد تشكِّلان “جيو-شرعية” تاريخية له، مستبطنين تاريخية القاعدة وجهاد الأفغان العرب الذي يشكِّل كثير منهم قوة للتنظيمات الجهادية الآن.

خلاصات: النصر الذي قد يتحول لكارثة

العمليات العسكرية الباكستانية الناجحة تكتيكيًّا في شمال وزيرستان بتفكيك تنظيم طالبان باكستان قد تعود بكارثة استراتيجيًّا، فالاقتصار الباكستاني على التعاطي مع الأزمة بشكل عسكري وأمني دون الالتفات إلى جوانبها الأخرى السياسية والإغاثية وحال أكثر من مليوني نازح بسببها، دفع -ويدفع- ما تبقى من طالبان إلى الاتكاء على هذا الوقود؛ لكسب المتعاطفين وبثّ الغضب والحقد ضد الجيش، يتجلى ذلك في كل بيان يصدرونه حيث يؤكدون على أنهم سينتقمون للأطفال والنساء والشيوخ القتلى في هذه العمليات(12).

اللافت أن الجيش الباكستاني بدا في العمليات العسكرية الأخيرة كمن يُطلق النار على رِجْليه، وهو الذي امتنع طوال 13 عامًا عن ملاحقة قيادات طالبانية باكستانية موالية له، أو في أقل الأحوال ممن يعنيها القتال في أفغانستان، ولأوَّل مرة يعلن قتله لأحد القيادات القاعدية وهو عدنان شكري الأميركي الجنسية السعودي الأصل في عملية عسكرية بجنوب وزيرستان في 6 ديسمبر/كانون الأول 2014، وقدّمه الجيش على أنه مسؤول العمليات الخارجية خلفًا لـ”خالد شيخ محمد” المعتقل في أميركا بتهمة غزوتي نيويورك وواشنطن. تبع الحادث بيومين قتل القيادي القاعدي عمر فاروق الباكستاني الأصل، وهو أول باكستاني يصل إلى مستوى قيادي بالقاعدة، حيث شغل منصب المتحدث الرسمي باسم قاعدة شبه القارة الهندية التي أعلنها زعيم القاعدة أيمن الظواهري قبل أشهر، وسبق لعمر أن سُجن بقاعدة بغرام الأفغانية وفرّ منها مع أبي يحيى الليبي وآخرين.

الظاهر أن الجيش الباكستاني قد أعلن الحرب على كل أنواع المسلحين بعد أن كان يدعم في السابق مجموعات معينة مثل شبكة حقاني ومجموعات غول بهادر المحسوبة عليه، حيث نجا بهادر بأعجوبة من محاولة لاغتياله أخيرًا، الأمر الذي عزّز فكرة التحول الاستراتيجي للجيش في حربه على كل الجماعات المسلحة، وإن كان لا تزال هناك خطوط حُمر من بينها عدم الاقتراب من جماعات مسلحة تقاتل في كشمير أو بعض المجموعات التي تقاتل في أفغانستان. وهنا يبرز التناقض في التمييز بين المجموعات المسلحة(13)، فعدم التمييز قد يُزعج الغرب، بينما يضرّ التمييز بالأمن القومي المعتمد لعقود على استراتيجية حروب الوكالة في كشمير وأفغانستان، وهي معادلة قد تكون في غاية الحساسية، وعلى إسلام آباد أن تُقرر على أي الجانبين ستميل.

وقد يجد تنظيم الدولة أرضية خصبة في اجتذاب بعض الأفراد أو المجموعات التي تهيم على وجوهها؛ بسبب العمليات العسكرية الشرسة التي قد تتطور إلى عمليات مطرقة وسندان بين أفغانستان وباكستان، لاسيما في ظل نأي طالبان أفغانستان عن توفير أية مظلة لطالبان باكستان، ويأتي اختفاء القاعدة بزعامة الظواهري ليسهِّل أكثر اختراق تنظيم الدولة للساحة، لكن لن يكون إلا اختراقًا محدودًا، فالمكان الذي كان متوفرًا سابقًا اختفى بفعل العمليات، والظهير الأفغاني الطالباني منعدم، بل سيكون عدوًّا حقيقيًّا لتنظيم الدولة ولمن يبايعه، ما دام ينظر إليه على أنه مهدّد حقيقي، وصمته الآن لا يعني الموافقة بقدر ما يدل على المهادنة؛ كون الحريق لم يبلغه بعدُ، وهو تفادٍ لشره لا أكثر ولا أقل بتعبير أحد المسؤولين الطالبانيين الأفغان للكاتب، مفضلًا حجب هويته(14).

وخلال الندوة الدولية التي عُقدت في إسلام آباد بإشراف مركز رؤية الباكستاني حذّر مسؤولون شاركوا فيها ليومين من أن تشكِّل باكستان أرضية تجنيد لتنظيم الدولة الإسلامية(15)، ولكن مثل هذه التصريحات قد تكون مُسيّسة، خصوصًا وأن باكستان استندت لدعم غربي مالي وتسليحي 1947-2001 على مخاوف الغرب من الشيوعية فكريًّا 1947-1979، ومخاوف عسكرية 1979-1992، ومنذ 2001 وحتى الآن تعيش بدعم مالي وعسكري وسياسي غربي بذريعة القاعدة وطالبان أفغانستان، ومع تلاشي خطر الاثنين الآن قد تستدعي الحاجة الترويج لتنظيم الدولة.

ويسهم في هذا أمران اثنان جديدان غزيا المشهد الباكستاني بقوّة، وهما: تحول روسيا إلى باكستان وزيارة وزير دفاعها سيرغي شويغو أخيرًا إليها وتوقيع عقود عسكرية، ولكن التحرك يستبطن رغبة روسية في انتزاع دعم باكستاني بمكافحة حركات إسلامية متشددة أوزبكية وشيشانية وطاجيكية مقيمة على أراضيها، لاسيما مع الانسحاب الغربي من أفغانستان، حيث ستهدد هذه الحركات حديقته الخلفية في آسيا الوسطى، وهو ما تتشاطره أيضًا الصين. أما الأمر الثاني فهو تحرك أحزاب علمانية عِرقية، وتحديدًا حركة المهاجرين القومية، لتصفية حساباتها مع العرقية البشتونية المتنامية في كراتشي، حيث بحَّت أصواتها بدمغها بتهمة الطالبان والتشدد، وهو ما يهدِّد بتسييس الحرب على ما يوصف بالإرهاب، كما حصل في دول عدّة استفادت منه الديكتاتوريات وتضرر منه المعتدلون فقط.

فحركة المهاجرين التي تشكِّل بيضة القبان في إقليم السند، تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية تحت اسم الإرهاب والطالبان؛ ولذا كالت الاتهامات لخصومها من الحركات الإسلامية حتى المعتدلة مثل الجماعة الإسلامية متهمة إياها بـ”داعش”(16)، وهو أمر سيحرف الحرب عن مسارها. وثبت تاريخيًّا أن الحرب على الإرهاب إنما فشلت؛ بسبب تسييسها لصالح حكومات استبدادية، أو أحزاب علمانية لمواجهة خصومهم.

انسحاب الدولة الباكستانية من مهماتها الخدماتية والأمنية يراه خبراء هو الأخطر؛ فإرهاب قطع الغاز وقطع الكهرباء عن مدن بكاملها بسبب نقص الطاقة ربما أشد خطرًا من إرهاب تنظيم الدولة المتوهم، وهو ما قد ينبئ بثورة شعبية اجتماعية حقيقية ضد النظام الحاكم بكافة أشكاله(17).

وعليه فلابد للحكومة ومعها المؤسسة العسكرية ألّا تنظر بعين واحدة التي تركز على محاربة “الإرهاب” خدمةً لأجندات خارجية أو أجندات حزبية وعرقية بعيدًا عن الهم العام؛ فإحساس الباكستانيين جميعًا أن مصلحتهم بخوض الحرب هو الكفيل بنجاح الحرب، وإلّا فإن الانهيار سيخلق بيئات مشجعة لنمو الجماعات “المتشددة”.
______________________________________
د. أحمد موفق زيدان – مدير مكتب الجزيرة في إسلام آباد.

الهوامش والمصادر
1- المدرسة الديوبندية أسسها الشيخ محمد قاسم النانوتوي عام 1298هـ، وكانوا قد درسوا في مكة المكرمة، معتمدة على تبرعات عامة المسلمين، واستقبلت الطلبة من الهند وأفغانستان وآسيا الوسطى والصين، ونشرت عقيدة أهل السنة ومذهب الإمام أبي حنيفة.
2- تقرير إخباري: مفتي عثماني يصف مهاجمي مدرسة بيشاور بـ”ظالمان”، صحيفة ذي نيوز الصادرة في إسلام آباد بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول 2014:
http://www.thenews.com.pk/article-169017-Mufti-Rafi-Usmani-terms-school-attackers-as-Zaliman
3- تقرير لوكالة رويترز على موقعها بعنوان: طالبان باكستان معصورين بين تمرد أفغاني ضدهم وغارات أميركية بلا طيار، 4 ديسمبر/كانون الأول 2014. انظر الرابط:
http://www.reuters.com/article/2014/12/04/us-pakistan-afghanistan-taliban-idUSKCN0JI0XD20141204
4- أحمد موفق زيدان: الصراع على تركة تنظيم طالبان المريض، ورقة نشرها مركز الجزيرة للدراسات بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2014. انظر الرابط:
http://studies.aljazeera.net/reports/2014/11/2014112781458702961.htm
5- تقرير إخباري: الناطقة باسم الخارجية تقول: اعتقال عدد من المشتبه بهم وراء الكتابة على الجدران تأييدًا لداعش، صحيفة الدون الباكستانية، بتاريخ 5 ديسمبر/كانون الأول 2014:
http://www.dawn.com/news/1148892/some-suspects-behind-is-graffiti-arrested-says-fo
6- وقار بتي: داعش ترسل كُتيبًا لها باللغة الأوردية إلى الباكستانيين، صحيفة ذي نيوز الصادرة في إسلام آباد، بتاريخ 30 ديسمبر/كانون الأول 2014:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-13-34981-Daesh-sends-out-book-in-Urdu-to-Pakistanis
7- عامر مير: جامعة حفصة بالعاصمة تعلن تأييدها لتنظيم الدولة الإسلامية، صحيفة ذي نيوز الباكستانية، بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2014:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-288900-Capitals-Jamia-Hafsa-declares-support-for-Islamic-State
8- عامر مير: البغدادي خليفتنا، والملا عمر أميرنا، صحيفة ذي نيوز الباكستانية الصادرة بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول 2014:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-289106-Baghdadi-our-Caliph-and-Omar-our-Ameer
9- أعظم خان: مولانا عبد العزيز يقول: لا ندم على دعمنا للدولة الإسلامية، انظر: إكسبريس تريبيون الصادرة بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول 2014:
http://tribune.com.pk/story/806711/no-regret-over-supporting-is-says-lal-masjid-cleric/
10- سليم صافي في برنامجه “جركه” على قناة جيو الباكستانية مساء يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2014، انظر الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=I1mzN4_nvZg
11– مقابلة خاصة للكاتب مع مسؤول أفغاني طالباني رفيع فضّل حجب هويته بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2014.
12- بيان الناطق باسم حركة طالبان باكستان محمد خراساني الذي تلقى الكاتب نسخة منه يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وامتنعت وسائل الإعلام الباكستانية عن نشره.
13- عائشة صديقة: باكستان 11/ 9، النيويورك تايمز الأميركية 19 ديسمبر/كانون الأول 2014، انظر الرابط:
http://newsweekpakistan.com/pakistan-plans-to-execute-500-terrorists-in-coming-weeks/
14- مقابلة للكاتب مع مسؤول طالباني أفغاني رفيع مفضلًا عدم الكشف عن هويته؛ نظرًا لحساسية الموضوع المطروح بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2014.
15- باقر سجاد سيد: مسؤولون يقولون: إن تنظيم الدولة قد يجند أشخاصًا في باكستان لتعميق الانقسام الطائفي، صحيفة الدون الباكستانية بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 2014، انظر الرابط:
http://www.dawn.com/news/1149911/is-may-recruit-locals-by-exploiting-sectarian-divide-official
16- تنوير أحمد: مخاوف وجود تنظيم الدولة يُبحث في البرلمان الباكستاني، صحيفة الديلي تايمز الباكستانية الصادرة بتاريخ 5 ديسمبر/كانون الأول 2014، انظر الرابط:
http://www.dailytimes.com.pk/national/05-Dec-2014/isis-presence-fears-voiced-in-na
17- رسول بخش ريس، انهيار النظام، صحيفة إكسبريس تريبيون الباكستانية الصادرة في 10 ديسمبر/كانون الأول 2014:
http://tribune.com.pk/story/804303/a-collapsing-system/

 المصدر: مركز الجزيرة للدراسات