مع نهاية الحرب الباردة، سعي عدد من الدول الاشتراكية إلي تبني برامج الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، بغية تأسيس نظام سياسي يقوم على قيم ومبادئ الديمقراطية بمعناها الغربي، وبلورة أنظمة قادرة على ضمان حد معين من التنمية، والأمن، واحترام حقوق الإنسان. ولكن مع تحول القوة الدولية من دول ذات تاريخ ديمقراطي (الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي) إلي دول أخري، مثل الصين وروسيا، ذات نظام سياسي يوصف بالسلطوي، أضحي النظام الليبرالي الدولي الذي يرتكز على الديمقراطية، والأمن، والتنمية على المحك.
في هذا الكتاب، يحلل تيد بيكون بشكل مفصل ومتوازن خمسة نماذج لقوي صاعدة لها دور بارز، من خلال تجاربها الناجحة والمؤثرة في تحديد السبل الجدية، والأسس الاقتصادية والسياسية اللازمة لتحقق نظم ديمقراطية، ذات شأن تنموي حقيقي يقوي من النظام الدولي الليبرالي، ويدعم أمنه ورفاهيته، وهي: الهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، وتركيا، وإندونيسيا.
صعود الديمقراطيات رغم سطوة الماضي:
تشترك النماذج، التي تناولها الكاتب بالرصد والتحليل، كدول نجحت في بناء نظام ديمقراطي، يرتكز على التنمية والأمن، في أنها تمخضت من رحم تاريخ عثر، ملئ بالمعاناة والقهر، كالاستعمار الطويل للهند، ومعاناة جنوب إفريقيا من وطأة العنصرية التي تأصلت في السياسات المتبعة منذ الاستعمار، وحتى أول عهدها في الاستقلال، وأنها استطاعت أن تنتقل من عصور القهر لعصور النهوض الحقيقي، وبلورة كيانات ذات تأثير ملموس على مستوي العالم.
ولتوضيح تزايد عدد الديمقراطيات منذ انتهاء الحرب الباردة، أشار المؤلف إلى أنه في عام 1989، كانت هناك 69 دولة (2.28 مليار نسمة) بنسبة 41٪ من دول العالم ذات نظم ديمقراطية انتخابية، لكن هذا الرقم تضاعف ليصل في عام 2014 إلى 125 دولة ( 4.18 مليار نسمة) بنسبة 63٪. كما أوضح بشكل إحصائي تزايد قوة الرأي العام والرغبة القوية للشعوب للعيش في دول ذات أنظمة ديمقراطية، تقوم على إتاحة الفرص الانتخابية، وإشراك المواطنين في تحديد شكل النظام السياسي وسياساته، بما يدعم فكرة التعددية، ويحمي الحقوق المدنية، بما يعكس إيمان الشعوب بتأثير الديمقراطية كنظام للحكم.
وفي هذا الشأن، أشار الكتاب إلى انتقال إسبانيا بنجاح قوي من قبضة حكم الإمبراطور الحديدية إلى نظام برلماني قوي، وتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية ضخمة. كما انتقلت المكسيك من سيطرة الحزب الواحد لحكم تعددي من أحزاب المعارضة، ودول الاتحاد الأوروبي تضاعفت من 12 دولة في عام 1989 لـ 28 دولة حاليا، في إطار التزام عام بمعايير الحكم الديمقراطي، وحكم القانون، وتعزيز احترام حقوق الإنسان، بل ووصف الأمر بأنه أشبه بالمد والجزر، وأن موجة الديمقراطية وصلت لأكثر من شاطئ.
ويري المؤلف أن محاولات الدول العربية لأن تصبح نظما ديمقراطية قائمة على الشفافية، والمساءلة، والديمقراطية، عقب ثورات الربيع العربي، قد تحولت لكابوس عربي يسوده الإرهاب والحروب الأهلية في سوريا، واليمن، والعراق، وليبيا. ويصفها بأنها كمن يمضي خطوتين للأمام، ويتراجع خطوة، فيبقي مكانه دون إنجاز حقيقي، بل محققا خسائر متزايدة بمرور الوقت لانعدام الرؤية المدروسة، وغياب نظم ذات إرادة حقيقية ورغبة في التغيير. ومن الجدير بالذكر أن تلك الرؤية التشاؤمية للربيع العربي أضحت سائدة في معظم الكتابات الغربية، بعد فترة من التفاؤل في بداية ثورات الربيع العربي.
أسس نماذج التحول الديمقراطي الناجح:
أجمل الكاتب السمات المشتركة بين الدول الديمقراطية الخمس (IBSATI) التي يركز عليها الكتاب، والتي يعدّها بمنزلة بوصلة التحول الديمقراطي الناجح في:
1- أنها تحولت من أنظمة حكم مغلقة سلطوية إلى أنظمة أكثر انفتاحا، مصحوبة بالشفافية والمساءلة السياسية، والاقتصادية.
2- أنها حققت تطورا باهرا في تطوير مستويات المعيشة لمواطنيها، ونجاحها كقوي ديمقراطية ملهمة للمجتمعات الأخري، ودافعة للسعي من أجل التغيير الإيجابي.
3- على الرغم من التعدد اللغوي، والديني، والعرقي داخل الدول الخمس، فإنها تتميز بتحقيق التجانس كمجتمعات مترابطة لأبعد مدي ممكن. فعلى سبيل المثال، حققت إندونيسيا تحولا هائلا على المستويين الاقتصادي والسياسي، كما تعاملت مع الإسلام كدين مؤثر مجتمعيا، لكن دون أي تدخل له في السياسات العامة، والسياسة الخارجية للدولة.
ويضيف المؤلف أن تبني الدول الخمس للمسار الديمقراطي مكنها من تحقيق نجاحات سياسية واقتصادية انعكست على الداخل بتحسين المستويات المعيشية لمواطنيها، مما جعلها نماذج يحتذي بها. ويؤكد أن تبني النهج الديمقراطي جعل تلك الدول أكثر طموحا ونشاطا للانخراط في القيادة على المستويين الإقليمي والدولي.
كيفية التحول:
عن كيفية تحول الدول الخمس من أنظمة قمعية سلطوية إلى أخري تعد من أبرز الدول الديمقراطية، من وجهة نظر أغلب الكتابات الغربية، أشار المؤلف إلى أن ذلك بدأ من تجاوب حكومات تلك الدول مع الأصوات المطالبة بفرص وأحوال معيشة أفضل، من خلال تبني مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، ودعم الاستثمار التجاري بما يوفر فرص العمل، وانتشال المواطنين من الفقر. فكانت النتيجة مضاعفة الاقتصاد بما ارتد برفع مستويات المعيشة. فعلى سبيل المثال، حقق الاقتصاد الهندي نموا بأربعة أضعاف، والاقتصاد الإندونيسي بأكثر من ثلاثة أضعاف، والاقتصاد الجنوب إفريقي تضاعف، وزاد الاقتصاد التركي بأكثر من الضعفين، وذلك إذا ما تمت مقارنة النمو الاقتصادي لتلك الدول خلال عام 2002 بعام .2013
ويشير المؤلف إلى أن حكومات الدول الخمس أدرجت في أجندة عملها التنموية برامج للنهوض بالأحوال الصحية، والتعليمية، والمجتمعية لمواطنيها. فعلى سبيل المثال، اهتم برنامج بولسا فاميليا في البرازيل بتوفير تحويلات نقدية للأسر ذات الدخل المنخفض، مقابل ترك الأطفال في المدارس للتعليم، وعدم تشغيلهم. ووضعت الهند عدة تشريعات تقر بتقديم مساعدات غذائية للأسر الفقيرة، من خلال برنامج الحبوب المدعمة، والمخطط أن يستفيد منه 70٪ من السكان.
وفي الختام، تتمثل الخلاصة الأساسية لهذا الكتاب في أن نجاح الدول الخمس في أن تكون نموذجا لبلورة أنظمة ديمقراطية ليبرالية، سياسيا واقتصاديا، يكمن في أنه بدأ من الداخل، وأهم منطلقاته توفير سبل معيشة أفضل لمواطنيها، وصولا لحكم ديمقراطي يدعم التنمية البشرية. وليس بغريب أن يكون لتلك الدول الخمس تأثير في عملية صنع القرار بالمؤسسات الدولية، وأن تحظي باهتمام واسع من قبل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، كما أن لها هيمنة كبيرة في الكيانات الاقتصادية التي تنتمي إليها، مثل مجموعة العشرين، فضلا عن أن بعضها مساهم رئيسي في تأسيس كيانات اقتصادية جديدة، كمجموعة البريكس، وتسعي لامتلاك مقعد دائم في مجلس الأمن، لأن لديها ميلا وطموحا لأن يكون لها دور موازن لدور الولايات المتحدة الأمريكية المهيمن على النظام الدولي، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتي السابق.
عرض: نانسي طلال زيدان – باحث مساعد في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
Ted Piccone,Five Rising Democracies and the Fate of the International Liberal Order, (Washington, D.C., Brookings Institution Press, 2016)
نقلا عن مجلة السياسة الدولية