ينخرط وزير الخارجية الأميركي الدؤوب المنتهية ولايته في جهد دبلوماسي محموم، إذا لم يكن لا يصدق، لإبرام اتفاق مع روسيا لإنهاء حصار حلب. وليس دافعه إلى ذلك حجم الأزمة الإنسانية في المدينة السورية فقط، وإنما احتمال أن يبرم الرئيس الأميركي القادم صفقة من نوع مختلف مع موسكو -واحدة يتخلى فيها عن المعارضة السورية ويضع الولايات المتحدة بشكل مباشر على جانب الديكتاتور بشار الأسد.
لا تقوم وزارة الخارجية الأميركية بالإعلان عن مهمة كيري الهادئة، في أعقاب الانهيار السريع لآخر اتفاق أبرمه بين الولايات المتحدة وروسيا على وقف لإطلاق النار. لكن كيري يقود، خلف الكواليس، عملية تسعى إلى وقف حملة القصف الوحشية التي يشنها نظام الأسد وشركاؤه الروس على شرق حلب، والتي تضمنت استهداف المستشفيات وفرض حصار على ربع مليون من المدنيين الجائعين.
وصف أربعة من مسؤولي الإدارة هذا الجهد لي على أنه جهد بعيد المنال في أفضل الأحوال، لكنه يظل الفرصة الوحيدة أيضاً لإقناع الحكومتين، السورية والروسية، بوقف القتل. وقال لي أحد المسؤولين: “ما نزال نعمل على الدفع بذلك بنشاط. إننا لا نستسلم في هذا الشأن. إننا نعتقد بأن علينا أن نمنح الأمور فرصة”.
وتتمثل الاستراتيجية في تضييق تركيز المفاوضات بحيث تغطي حلب وحدها، وتوسيع التنسيق ليشمل السعودية وقطر وتركيا -وإيران في بعض الأحيان. وسوف تقوم الصفقة على تحصيل موافقة من المعارضة السورية على فصل نفسها عن أعضاء جبهة فتح الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة، وأن يغادر مقاتلوها شرق حلب. وفي المقابل، ينهي نظام الأسد وروسيا الحصار ويسمحان للمساعدات بالتدفق.
كانت هناك اجتماعات عدة عقدت بين الدبلوماسيين الأميركيين والروس في جنيف لمناقشة الصفقة، وكان كيري يجري مناقشات ثنائية مع جميع اللاعبين. وهو يتحدث إلى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مرتين في الأسبوع، كما التقى به هذا الشهر في ليما، البيرو. والتقى كيري أيضاً بالحلفاء لمناقشة الخطة هذا الشهر في أبو ظبي، في دولة الإمارات العربية المتحدة.
هناك العديد من العقبات التي تعترض طريق الصفقة مسبقاً. لا تستطيع الولايات المتحدة وروسيا الاتفاق على عدد مقاتلي جبهة فتح الشام في حلب. كما أن هناك خلافاً حول ما إذا كان نظام الأسد سيقرر من يحكم حلب إذا صمد وقف إطلاق النار. وقد أخبرني أحد مسؤولي الإدارة بأن روسيا تشتري الوقت فقط، إما لتحقيق أهدافها عسكرياً، أو في انتظار أن تأتي إدارة ترامب وتعرض شروطاً أفضل.
وقال المسؤول: “يحاول الروس إجبار المدينة على الاستسلام. إنهم يحتاجون إلى 60 يوماً أخرى فقط. وسوف يحصلون عليها”.
يعترف المسؤولون الأميركيون بأن كيري المحبط لَم يُمنح السلطة بعد من البيت الأبيض لممارسة أي ضغط يعتد به على الأسد وروسيا، مما يضعه في موقف تفاوضي ضعيف. وكان احتمال فوز هيلاري كلينتون بالرئاسة قد أعطى كيري بعض القوة، لأنه كان من المتوقع أن تسعى كلينتون إلى انتهاج سياسة أكثر صقرية تجاه سورية، كما قال المسؤولون.
لكن كل ذلك الأمل اختفى تماماً عندما فاز دونالد ترامب في الانتخابات. لماذا تبرم موسكو صفقة مع كيري عندما يستطيع بوتين أن ينتظر شهرين فقط ليبرم صفقة مع ترامب، الذي خاض حملته على الوعد بالعمل مع روسيا؟ ويبدو أن ترامب يتفق مع بوتين على أن المعارضة السورية لا تمكن الثقة بها، وأن بقاء الأسد في السلطة سيكون أفضل من البديل.
ارتفعت المخاوف بشأن خطة ترامب لسورية في الأسبوع لاماضي، عندما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن دونالد ترامب التقى في تشرين الأول (أكتوبر) في باريس بعناصر من المعارضة السورية التي يوافق عليها الأسد وروسيا. وقال دونالد ترامب لصحيفة “نيويورك تايمز” الأسبوع الماضي إن لديه “بعض الأفكار القوية جداً حول سورية”. وقد تحدث مع بوتين مرتين منذ انتخابه حول التعاون في الشرق الأوسط.
تسعى موسكو والجزء الذي تدعمه من المعارضة السورية إلى إبرام اتفاق سلام يكون من شأنه تعزيز حكم الأسد في المستقبل المنظور، ووسم بقية أطراف المعارضة كإرهابيين وتدميرها. ويقول العديدون في واشنطن أن على الولايات المتحدة التوقف عن دعم الثوار السوريين وإنهاء الحرب ووقف المعاناة.
يبدو ذلك أفقاً مغوياً، لكنه قائم على منطق خاطئ. إذا أبرم ترامب صفقة مع روسيا والمعارضة الصديقة للأسد، فسوف يكون بوسعه ادعاء تحقيق النجاح حيث فشل كيري. لكن ذلك سيكون انتصاراً باهظ الكلفة في أحسن الأحوال. سوف تستمر بقية المعارضة في القتال، وسوف يستمر ملايين السوريين في مقاومة حكم الأسد الوحشي والمطالبة بالحقوق الأساسية. بل وهناك الأسوأ: سوف تكون الولايات المتحدة قد وضعت نفسها على جانب أولئك الذين يرتكبون جرائم حرب ضد الإنسانية، وسوف تنفِّر معظم السوريين على مدى جيل، وتدفعهم إلى أحضان المتطرفين، وكل ذلك من أجل سلام زائف. إن كيري محق في العمل من أجل تجنب حدوث تلك الكارثة.
جوش روجين
صحيفة الغد