عندما يتم تنصيب رئيس الولايات المنتخب، دونالد ترامب، يوم 20 كانون الثاني (يناير) 2017، فإن أكثر تحديات سياسته الخارجية تعقيداً سيكون متعلقاً بما ينبغي فعله في سورية. وكانت سياسة واشنطن السورية في عهد الرئيس أوباما قد ركزت على محاربة “داعش”. ولكن، مع ترنح “داعش” الآن، أصبح النظام السوري يكسب أرضية، في حين تصبح القوى الخارجية -مثل إيران وروسيا- أكثر انخراطاً باطراد، وبذلك لن تكون محاربة الخلافة وحدها كافية للزعيم الأميركي التالي.
من أجل تدمير “داعش” واجتثاث التطرف الذي ولدته الحرب السورية، سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى المساعدة على إضفاء الاستقرار على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من البلاد، بينما تضغط على إيران وروسيا للتحرك نحو تحقيق تسوية سياسية قابلة للحياة. وللوصول إلى هناك، على ترامب أن يكون أكثر استعداداً لممارسة الضغط على موسكو وطهران مما أظهر حتى الآن. ويعني ذلك أن عليه أن يكون مستعداً لفرض عقوبات على كلتا العاصمتين إذا لم تفيا بالتزاماتهما المعلنة.
توازن هش
اليوم، يسيطر كلّ من “داعش” ونظام الأسد على ثلث سورية تقريباً. وبفضل مساعدة روسيا والميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران، أحكمت الحكومة السورية سيطرتها على ما تسميه “سورية الأساسية”: العمود الفقري الحضري الممتد من شمال البلاد إلى جنوبها، الذي يصل بين دمشق وأكبر مدن البلاد، حلب، والذي يوشك الأسد الآن على استعادته. لكن ما سيحدث بعد ذلك إذا نجح ليس واضحاً الآن. ويزعم الأسد أنه سيعيد تأكيد سيطرته على كامل البلد، لكنه يفتقر إلى القوى العاملة اللازمة للاستيلاء على المناطق ذات الأغلبية السنية والاحتفاظ بها في الشمال الغربي وشرق وجنوب سورية. وسيستطيع أن يفعل ذلك فقط عن طريق استيراد المزيد من رجال الميليشيات الشيعة من الخارج، وهو ما قد يدفع جيران سورية إلى زيادة تدخلهم ويشعل التمرد السني المحلي.
انقسم شرق سورية في السنتين الأخيرتين بين “داعش” ووحدات حماية الشعب الكردية، وهي جزء من الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة مجموعة إرهابية. وحتى الآن، كانت قوات سورية الديمقراطية، وهي ائتلاف تدعمه الولايات المتحدة ويتكون في معظمه من قوات وحدات حماية الشعب التي يتخللها بعض العرب السنة والأقليات، كانت خيار واشنطن الوحيد لمحاربة “داعش” في المنطقة. ولكن، في أواخر آب (أغسطس)، قام الثوار العرب السنة والتركمان، مدعومين من أنقرة بدعم من الجيش التركي، بدخول شمال غرب سورية كجزء من عملية “درع الفرات” التركية. وتستولي هذه الوحدات بسرعة على المناطق التي يسيطر عليها “داعش” قرب الحدود التركية.
يشكل دخول أنقرة معترك الحرب السورية أهم تطور (وربما الأكثر إمكانية لزعزعة الاستقرار) منذ اختراق “داعش” في العام 2014. وتهدف الخطوة إلى سحق عدوَّين في آن واحد. أولاً، تريد أنقرة منع وحدات حماية الشعب الكردية -التي تراها الحكومة التركية امتداداً لحزب العمال الكردستاني الإرهابي- من توحيد المناطق الكردية في الشرق. ثانياً، يريد الأتراك أن تعمل المنطقة كأرضية انطلاق محتملة للمزيد من العمليات العسكرية ضد “داعش”. ويتكهن البعض بأن تركيا تنوي الهجوم من شمال مدينة تل الأبيض السورية الشمالية التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية، والتي تشكل البوابة الشمالية إلى عاصمة “داعش” في الرقة. ونتيجة لذلك، أطلقت كل من أنقرة وقوات سورية الديمقراطية سيلاً من التصريحات، حيث يزعم كل طرف بأنه سيكون الأول الذي سيحرر الرقة.
لعل أفضل سيناريو هو أن يتمكن أي من قوات سورية الديمقراطية أو بالقوات التركية من انتزاع الرقة من الخلافة، وتوجيه الضربة التي تمس الحاجة إليها إلى “داعش”. ويمتلك الأكراد ميزة الدعم الأميركي ووحدة الهدف، لكنهم قليلو العدد نسبياً، ولديهم القليل من الرغبة في الاستيلاء على الرقة والاحتفاظ بها، وهي التي يقطنها العرب السنة إلى حد كبير، والذين لا يثقون بالأكراد، بل وحتى يحتقرونهم. وتمتلك قوات “درع الفرات” ميزة وجود جنود مشاة من العرب السنة، ودعم جيش حلف الناتو، لكنها تلقت القليل من الدعم من أوباما. أما أسوأ سيناريو فهو أن تقاتل قوات الدفاع السورية والقوات التركية بعضها بعضاً بدلاً من ذلك، مما يترك “داعش” مسيطراً على الشرق ويسمح للأسد بتأمين الغرب.
غرب عدن
في غرب البلاد، ثمة انقسام أقليمي مماثل -هذه المرة بين نظام الأسد وبين مجموعة متنوعة من الثوار من غير “داعش”. ويسيطر الثوار على كانتون إدلب في الشمال الغربي ومناطق من محافظة حلب، وكذلك على كانتونات في محافظتي درعا والقنيطرة الجنوبيتين. ويتكون كل كانتون يسيطر عليه الثوار من مزيج من الميليشيات المحلية، والجهاديين، والسلفيين غير الجهاديين. والفصيل الأكثر بروزاً من الجماعات الجهادية -خارج “داعش”- هو جبهة فتح الشام. وبينما أصبح السوريون المناهضون للنظام يشكون في التزام واشنطن بالإطاحة بالأسد، يعمد المزيد منهم إلى الانضمام لجبهة فتح الشام.
تسبب النمو السريع لجبهة فتح الشام في الشمال الغربي بدفع الكثيرين، بمن فيهم جون كيري، إلى السعي لإبرام صفقة تتضمن توجيه ضربات جوية أميركية-روسية منسقة ضد المجموعة، والتي سيفيد تنفيذها الأسد كما يبدو. ولكن، يقدَّر الآن أن نظامه يمتلك ما بين 20 إلى 25 ألفاً من الجنود الممكن نشرهم. وهذا العدد يكفي لتطويق شرق حلب وبعض المناطق التي يحتفظ بها الثوار في ضواحي دمشق، وإنما فقط بمساعدة حزب الله ورجال الميليشيات الأخرى من أفغانستان والعراق. ولتطبيق سياسة الحصار والتجويع في أماكن أخرى من سورية، سوف يحتاج النظام إلى استيراد مزيد من المقاتلين الشيعة من الخارج.
ستكون الولايات المتحدة محظوظة إذا استطاع الثوار أن يقاوموا بطريقة ما حصار الأسد لحلب، وإذا استطاعت إدارة ترامب إقناع الروس باستئناف اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي انهار في أيلول (سبتمبر). ولكن هذا يبدو بعيد الاحتمال. والأكثر ترجيحاً هو أن يواصل نظام الأسد، مدعوماً من الروس، قصف شرق حلب، مفاقماً بذلك أزمة اللاجئين ومرسلاً خصومه أبعد في أحضان جبهة فتح الشام والمتطرفين الآخرين. وسوف يعزز مثل هذا الناتج قضية موسكو القائمة على جعل الأسد الأساس للحل في سورية. كما يمكن أن يوسع أيضاً دور روسيا في منطقة شرق المتوسط لسنوات مقبلة.
استخدام العصا الغليظة
حتى الآن، ظلت السياسة الأميركية ملتزمة بوحدة سورية وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الذي أكد “سيادة، واستقلال، ووحدة، وتكامل أراضي الجمهورية العربية السورية”. لكن سورية ما تزال منقسمة على مدى نصف عقد. وللتعامل مع ذلك، سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى اجتثاث المتطرفين وتوفير الحماية الإنسانية للأجزاء التي تكوِّن البلد. ولتحقيق ذلك، هناك خمسة خيارات تكتيكية يمكن أن يطبقها ترامب في سورية: منطقة حظر للطيران/ آمنة؛ توجيه ضربات جوية ضد النظام لفرض وقف لإطلاق النار؛ تسليح المعارضة التي تجتاز التدقيق؛ فرض العقوبات؛ والدبلوماسية. ومهما تكن التوليفة، فإن هذه التكتيكات يجب أن تُطبق لتقليل هشاشة الولايات المتحدة أمام التطرف والهجرة (الذين يحفزهما الصراع)، مع إدراك أن القيام بذلك ربما يتطلب استعداد واشنطن لتحمل المخاطر المرتبطة باستخدام القوة.
(1) إقامة مناطق محدودة لحظر الطيران/ مناطق آمنة: لقي هذا الخيار مسبقاً بعض الدعم من كل من ترامب ونائب الرئيس المنتخب مايك بنس. وسوف يرسل الإعلان عن نية الولايات المتحدة إقامة مناطق حظر للطيران/ أو مناطق آمنة، رسالة للأسد بأن الإدارة الجديدة لا تعتقد أنه يمكن أن يستعيد حقاً “كل شبر” من الأراضي السورية. وبطبيعة الحال، سوف تتطلب إقامة منطقة حظر للطيران فوق كل البلد قيام الولايات المتحدة بمهاجمة أنظمة الدفاع الجوية السورية والروسية –وهو شيء من غير المرجح أن يفعله أي رئيس، بالنظر إلى خطر نشوب حرب مع روسيا. ومع ذلك، فإن مناطق حظر الطيران المحدودة على طول الحدود السورية مع تركيا والأردن هي موجودة مسبقاً، وتشكل المنطقة الآمنة التركية شمال حلب مثالاً على كيف يمكن تأمين هذه المناطق من دون مواجهة عسكرية. وسوف تتضمن استراتيجية أميركية ذكية نشر قوات خاصة لتأمين مناطق آمنة على الأرض، واستخدام الضربات الجوية وصواريخ كروز لاستهداف طيران النظام ومدفعيته.
(2) توجيه ضربات جوية ضد النظام لفرض وقف لإطلاق النار: تستطيع الولايات المتحدة المساعدة في تعديل ميزان القوى عن طريق معاقبة النظام بصواريخ كروز، أو توجيه ضربات جوية لمطارات النظام.
(3) تسليح المعارضة المختبَرة: تستطيع الولايات المتحدة تقديم أسلحة جديدة نوعياً بكميات أكبر للمعارضة السورية التي تجتاز التدقيق –وهو شيء لم تكن إدارة أوباما راغبة في فعله. وسوف يعمل مثل هذا الدعم فقط إذا التزمت الولايات المتحدة بمحاربة نظام الأسد، وهو خيار تجنبه أوباما والذي يبدو من المرجح أن لا يتابعه ترامب أيضاً.
(4) العقوبات: يمكن أن يؤدي تعميق العقوبات إلى مساعدة الولايات المتحدة على كسب النفوذ الذي تمس الحاجة إليه في المفاوضات المستقبلية، وأن يسمح لواشنطن بزيادة العقوبات التي يواجهها الأسد وخلق حوافز له للقبول بانتقال سياسي حقيقي في سورية.
(5) الدبلوماسية: سواء كانت قسرية أم لا، ظلت الدبلوماسية الأميركية قاصرة حتى الآن عن إجبار الأسد على التنحي. كما أنها فشلت أيضاً في إعطاء الروس والإيرانيين سبباً للتخلي عن عميلهما. وسوف تقوي القوة العسكرية والعقوبات موقف المفاوِض، لكن المزيد من الدبلوماسية المستهدفة مع الحلفاء، وكذلك المفاوضات الحازمة مع الخصوم، سيوفران الوسائل التي تمس الحاجة إليها لتعزيز الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب.
فن إبرام الصفقات
بعيداً عن التداعيات الإنسانية الرهيبة، أعطى قرار واشنطن التركيز على “داعش” وليس على الأسد لروسيا وإيران الحرية في تغيير ميزان القوى في سورية. وبالنسبة لحلفائنا الإسرائيليين والعرب في المنطقة، أثار التساؤلات أيضاً حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تهتم حقاً بصراع النفوذ الجاري في المنطقة بين دول الخليج العربية وإيران، والذي اختارت فيه موسكو دعم طهران. وسوف يعزز استمرار السلبية لدى إدارة ترامب الانطباع بأن الولايات المتحدة مستعدة للإذعان لخطط روسيا وإيران في الإقليم. وطالما ظل هذا واقع الحال، فسيكون من الصعب على الولايات المتحدة إقناع شركائها السُّنة بمحاربة “داعش”، الذي يرونه تهديداً يمكن التعامل معه بسهولة أكبر بكثير من إيران الشيعية.
مع ذلك، ما تزال الولايات المتحدة تحتفظ ببعض النفوذ: فاستراتيجيتها فقط هي التي يمكن أن توحد سورية. وعن طريق قصف حلب، تأمل روسيا على الأرجح في إجبار الثوار على القبول بتقسيم للبلد بحكم الأمر الواقع، والذي يترك الأسد في السلطة. لكن مثل هذه النتيجة من غير المرجح أن تكون الأساس لوحدة وطنية. يجب جعل بوتين يفهم أن الولايات المتحدة ستشارك فقط مع وقف أصيل لإطلاق النار -واحدٍ يكون مقيداً بكافة عناصر قرار مجلس الأمن رقم 2254: رفع كل الحصارات؛ وفتح ممرات إنسانية؛ وصياغة دستور جديد؛ وموافقة الأسد على فترة انتقالية من 18 شهراً. لكن بوتين يجب أن يفهم أيضاً أنه إذا انتهك الأسد أياً من هذه المبادئ، فإن الولايات المتحدة ستكون مستعدة لتوجيه ضربات عسكرية عقابية. وسوف يشير هذا للمنطقة بأن إدارة ترامب تعني ممارسة دورها.
إذا كان ثمة شيء، فإن على ترامب إرسال رسالة واضحة: إذا استمرت روسيا في دعم الأسد، حتى بينما يخفق في الوفاء بالتزاماته وفق القرار 2254، فإن روسيا ربما تصبح عالقة في حرب تزداد كلفة باطراد والتي لن تستطيع كسبها. وبتقديم هذه الخيارات، على واشنطن تأكيد حقيقة أنه ليس هناك حل سياسي لكل البلد طالما بقي الأسد في السلطة -فقد سُفك الكثير من الدم، وارتُكبت الكثير من الجرائم، وتحملت والمعارضة وداعموها الإقليميون الكثير من الألم، بحيث لم يعد من الممكن القبول بمثل هذه النتيجة.
أندريه جيه تابلر
صحيفة الغد