الثابت والمتغير في السياسة الخارجية السعودية

الثابت والمتغير في السياسة الخارجية السعودية

201524112359841734_19

ملخص

شهد عصر الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز عددًا من الإنجازات في مجالاتٍ عدة منها السياسة الخارجية لبلاده؛ فقد أطلق شرارة الوحدة الخليجية، ونجح في ترتيب البيت الخليجي، وعاصر مرحلة جديدة يُؤمل أن يتحقَّق الاستقرار خلالها في جمهورية مصر العربية، وشهد إعلان الحرب على ما يُسَمَّى بتنظيم “الدولة الإسلامية” ضمن تحالف عسكري خارج حدود الدولة في سابقة لم تعهدها السياسة السعودية.
وقد تسلّم الملك سلمان بن عبدالعزيز زمام الأمور في المملكة في ظروف إقليمية استثنائية، حيث تشهد المنطقة عددًا من التغيرات الجيوسياسية الهامة لا سيما في دول الجوار (اليمن جنوبًا، العراق وسوريا شماًلا، ومفاوضات الجار الشرقي “إيران” مع مجموعة 5+1 بخصوص ملفه النووي).
يسعى الباحث في ورقته إلى تسليط الضوء على محددات السياسة الخارجية السعودية وأهم الخصائص التي ميزتها في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، كما يجتهد في التطرق إلى أبرز التغييرات المحتملة التي تستهدف تأثيرًا نوعيًّا في سياسة السعودية الخارجية في عهد الملك الجديد سلمان بن عبدالعزيز، كما يتطرق إلى مفهوم الردع الأمني والدفاعي في سياسة المملكة الخارجية، ويربط ذلك بضرورة ذوبان جليد العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية في هذه المرحلة التاريخية، وأخيرًا يتوقف عند استمرارية السياسة النفطية السعودية رغم انخفاض الأسعار.
يستنتج الباحث في الخاتمة بأن المملكة العربية السعودية ستحافظ في عهد الملك سلمان على منهجها الذي انتهجته على الصعيد الخارجي منذ عهد مؤسسها الراحل الملك عبد العزيز آل سعود، والقائم على سياسة الاعتدال والتوازن والحكمة وبُعد النظر؛ ولكن يُتوقع أن تُعَزِّز حضورها ضمن مسارات التقليدية. على الصعيد الدولي، يرجح الباحث أن يتمَّ الإعلان عن مبادرات للمملكة تهدف إلى دعم السلام والأمن الدوليين، وزيادة تأثير المملكة في الملفات الدولية.

مقدمة

أتى رحيل العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، في ظروفٍ استثنائية؛ حيث شهدت سياسة المملكة العربية السعودية في عهده نوعًا من إعادة التوازن، فتم إطلاق مبادرة الاتحاد الخليجي، ونجح الخليجيون في ترتيب بيتهم الداخلي بعد أزمة دبلوماسية قاسية كادت أن تصدّع أسس المنظومة الخليجية نفسها، كما أُعلن عن إعادة افتتاح سفارة المملكة في العراق بعد طول غياب، ودُشنت الحرب على ما يُسَمَّى بتنظيم “الدولة الإسلامية” ضمن تحالف عسكري دولي

الملك سلمان الذي كتب عنه الملحق العسكري الفرنسي السابق في المملكة أن له نصيبًا من اسمه “رجل سلام”؛ يُنظر إليه على أنه يملك من القدرة والتوجيه الصائب ما يمكن أن يدفع بقوة لخروج المحيط الخليجي من أزماته إلى شاطئ السلام؛ ففي الجنوب، هناك اليمن الذي ما زال يستمطر الإنقاذ من وحل الاقتتال الداخلي حول السباق على مَنْ يظفر بكرسي الرئاسة، وشمالاً تتربع الأزمة السورية الموغلة في التعقيد والتشابك على رأس الأزمات، ولم تُفلح -حتى الآن- مقاربات المملكة لإنهائها. ولا يمكن إغفال الملف القديم الجديد المتمثِّل في الحرب على التنظيمات والميليشيات “الإرهابية”؛ التي لا تزال خطرةً وأدواتها في تطور مستمرٍّ، وما زال يرفع شعارًا عنوانه: “أزمةٌ تلد الأخرى”. وآلة دمار العدو الصهيوني مستمرَّة في إراقة دماء الأبرياء الفلسطينيين.

من جهة أخرى، تبقى العلاقات التركية-السعودية تحديًا أمام العاهل الجديد تستوجب حميمية وتقاربًا يخدم مصالح الطرفين المكملين لبعضهما دينيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وجيوستراتيجيًّا. وإزالة الاختلافات وليست الخلافات العالقة مع الحليف الاستراتيجي الأميركي تبقى مطلبًا موضوعيًّا، تُوحي زيارة أوباما الأخيرة إلى المملكة بأنه قد ينقشع ضبابها. وسياسة المملكة النفطية ستكون أحد الاهتمامات الشخصية للعاهل الجديد. أمَّا لَمُّ الشمل العربي وإحياء التعاون العسكري المشترك بين دوله الفاعلة فمن المتوقَّع له أن يحظى بأهمية خاصة؛ بما يتضمنه من تسريع مشروع الوحدة الخليجي كمحرِّك لهذا المشروع العربي. وقضايا أخرى خارجية في أبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية تتطلب من المملكة أن تضع لها أولويات تُناسب مستوى عائدها على المصالح الوطنية.

محددات السياسة الخارجية السعودية

تقوم السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية على مبادئ وثوابت ومعطيات جغرافية، تاريخية، دينية، اقتصادية، أمنية، سياسية، وضمن أطر رئيسة؛ أهمها: حُسن الجوار، وعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتعزيز العلاقات مع دول الخليج والجزيرة العربية، ودعم العلاقات مع الدول العربية والإسلامية بما يخدم المصالح المشتركة لهذه الدول ويُدافع عن قضاياها، وانتهاج سياسة عدم الانحياز، وإقامة علاقات تعاون مع الدول الصديقة، وتأدية دور فاعل في إطار المنظمات الإقليمية والدولية؛ وتنشط هذه السياسة من خلال عدد من الدوائر الخليجية، العربية، الإسلامية(1)، والدولية.

كذلك فإنَّ عددًا من المحددات يكمن في تأثيرات المكونات الداخلية للمملكة على طبيعة عمل الدبلوماسية السعودية، يأتي في أول هذه المكونات التشريع الإسلامي والهوية العربية الإسلامية؛ التي وإن كان تأثيرها الأكبر على السياسة الداخلية؛ فإن لها بصماتها على السلوك الخارجي للمملكة؛ وذلك من خلال استشعار المملكة لدورها التاريخي والرمزي كمهبط الوحي، وكحامية المقدسات، ومنطلق العروبة؛ كذلك يأتي البعد الاقتصادي والمالي المتمثل في امتلاك السعودية أضخم احتياطي نفطي عالمي، ومسؤوليتها الخارجية الإقليمية والدولية المترتبة على ذلك؛ كما يعتبر العقد الاجتماعي بمكوناته القبلية والبرجوازية والدينية (السيسيو بوليتيك) الذي يُنَظِّم علاقة القوة الشعبية بالأسرة الحاكمة أحد المحددات المهمَّة.

من المحددات الجديدة كذلك ما أضافه الباحث السعودي منصور المرزوقي وأطلق عليه: “توازن هرم السلطة”، مشيرًا إلى أنه “يأتي في قمة هرم السلطة القوى الأمنية، ووزارات الداخلية والدفاع والحرس الوطني (التي تمتلك القوة الصلبة، متمثِّلة في القوة العسكرية والموارد المالية الضخمة)، ثم يأتي في وسط الهرم هيئة البيعة؛ التي تمتلك حقَّ انتخاب الملك وولي عهده، ثم تأتي بعد ذلك عملية انتقال الحكم، وتشكِّل القوى الأمنية البيئة الحاضنة لهيئة البيعة؛ مما يُعطيها نفوذًا بارزًا على عملية انتقال الحكم، كل هذا يمثل تغيُّرًا في بنية السلطة”(2).

أهم ملامح السياسة الخارجية السعودية في عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز

أقامت الأمم المتحدة الاثنين 2 من فبراير/شباط 2015 حفل تأبين لوفاة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وقال الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون” في كلمة له: إن العاهل السعودي الراحل “قاد تطوير المملكة العربية السعودية، وأفني حياته من أجل مواجهة تحديات السلام والأمن ومكافحة الإرهاب… والجوع، وكرَّس جلَّ طاقته لتحقيق المصالحة والتفاهم بين الناس من مختلف الثقافات… والحوار بين الأديان في العالم”.

عربيًّا وإسلاميًّا؛ كان في مقدمة القضايا التي عني بها الراحل القضية الفلسطينية، وفي هذا الإطار قدَّم الراحل عندما كان وليًّا للعهد تصورًا للتسوية الشاملة العادلة للقضية الفلسطينية من ثمانية مبادئ عُرف باسم: “مشروع الأمير عبد الله بن عبد العزيز”، قُدِّمت هذه المبادرة إلى مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، ولاقت المقترحات التي تضمنتها قبولاً عربيًّا ودوليًّا وتبنتها القمة، وأكدتها القمم العربية اللاحقة، وأضحت مبادرة سلام عربية، إلاَّ أن غطرسة الكيان الإسرائيلي كانت سببًا في تجميد هذه المبادرة وعدم تفعيلها حتى الآن.

قبل ذلك، اقترح الملك الراحل في المؤتمر العربي الذي عُقد في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، إنشاء صندوق يحمل اسم انتفاضة القدس، برأسمال قدره مليارا دولار، ويُخَصَّص للإنفاق على أسر الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا في الانتفاضة، وإنشاء صندوق آخر يحمل اسم صندوق الأقصى، يُخَصَّص له 800 مليون دولار لتمويل مشاريع تحافظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس، والحيلولة دون طمسها، وأعلن عن إسهام المملكة العربية السعودية بربع المبلغ المخصص لهذين الصندوقين(3).

وجاءت زيارات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله للعديد من الدول الآسيوية والغربية وللدول العربية، وكذلك للدول الإسلامية والصديقة الأخرى؛ لتُشَكِّل رافدًا آخر من روافد اتزان السياسة الخارجية للمملكة، وحرصها على مسيرة التضامن العربي والسلام والأمن الدوليين.

أما في الساحة الدولية، فكان للمملكة إسهاماتها الواضحة والملموسة عبر الدفاع عن مبادئ الأمن والسلام والعدل، وصيانة حقوق الإنسان، ونبذ العنف والتمييز العنصري، وعملها الدؤوب لمكافحة الإرهاب والجريمة؛ طبقًا لما جاء به الدين الإسلامي, وهو منهج المملكة العربية السعودية في سياساتها الداخلية والخارجية بالإضافة إلى مجهوداتها في تعزيز دور المنظمات العالمية والدعوة إلى تحقيق التعاون الدولي في سبيل النهوض بالمجتمعات النامية ومساعدتها على الحصول على متطلباتها الأساسية لتحقيق نمائها واستقرارها(4).
فعلى سبيل المثال؛ اقترح الملك عبد الله -رحمه الله- خلال المنتدى الدولي السابع للطاقة الذي عُقد في الرياض في عام 2000 إنشاء أمانة عامة للمنتدى الدولي للطاقة؛ يكون مقرُّها مدينة الرياض، وتم إقرار المقترح بالإجماع، وفي 17 من شوال 1426هـ رعى الراحل افتتاح مبنى الأمانة العامة لمنتدى الطاقة الدولي بالرياض.

كما اقترح الراحل إقامة مركز دولي لمكافحة الإرهاب، وذلك خلال المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب؛ الذي عُقد في مدينة الرياض في شهر فبراير/شباط 2005 برعايته شخصيًّا، وبمشاركة أكثر من 50 دولة عربية وإسلامية وأجنبية إلى جانب عدد من المنظمات الدولية والإقليمية والعربية.

ومن هنا يمكن القول: إن المملكة سجَّلت في الأعوام التي تولَّى فيها الملك عبد الله مقاليد السلطة في البلاد امتيازات لافتة، وحضورًا فاعلاً على المستويين الإقليمي والدولي؛ مما جعله أحد أبرز دعاة السلام والحوار والتضامن وتنقية الأجواء، ومنحه ذلك جوائز متعدِّدة من المنظمات العالمية والإقليمية والمحلية، تاركًا تركة جيدة من النجاحات يُتَوَقَّع أن تستمرَّ في عهد العاهل الجديد.

تغييرات تفصيلية تستهدف تأثيرًا نوعيًّا في السياسة الخارجية السعودية

ليس هناك من عاهل سعودي بدأ عهده بما بدأه الملك سلمان بن عبد العزيز؛ بهذا الكم الكبير من الأزمات المعقدة، والمتغيرات الخطيرة الإقليمية والدولية؛ لهذا يُدرك الملك سلمان أن المراوحة في المكان لبعض ملفات السياسة الخارجية يستدعي تدخُّله الشخصي، وعدم تركها للأجهزة البيروقراطية.

من المعلوم أن الملك الجديد وبحكم آليات اتخاذ القرار في بيت الحكم السعودي هو جزء من صناعة القرار منذ زمن؛ وذلك بحكم مرافقته اللصيقة للملوك السابقين؛ “ليس بصفته الوظيفية كأمير سابق لمنطقة الرياض لمدة تزيد عن الأربعين عامًا فحسب؛ ولكن لكونه ركنًا من أركان الحكم والاستشارة منذ ستينات القرن الماضي؛ وعليه كان له مقعد دائم في اللجان العليا التي تُعِدُّ القرارات الرئيسة في الدولة حتى الخارجية منها، وكان على معرفة بتفاصيل الملفات المختلفة ومبررات تبنِّي قراراتها”(5).

من المتوقَّع أن تطرأ تغييرات في سياسة المملكة الخارجية في عهد الملك سلمان عما كانت عليه في عهد سلفه الراحل الملك عبد الله؛ ولكنها بكل تأكيد لن تكون تغييرات جذرية؛ لأن المألوف أن السياسة السعودية ثابتة؛ لأنها نابعة من عقيدة سياسية متينة، ومن قيم وطنية وبنى داخلية تلامس ظروف نشأة الدولة وارتباطاتها العربية والإسلامية، وتحالفاتها الاستراتيجية الخارجية شبه الثابتة، وبالتالي فليست في الغالب مرتبطة بأشخاص يأتون ويرحلون.

تُوصف تقاليد اتخاذ القرار في المملكة من قِبَل بعض المحللين الغربيين بأنها بطيئة في الاستجابة واتخاذ القرار، وأنها تعمل وفقًا لردَّات الفعل وليس بالفعل. ولكن القرارات المتزنة إلى حدٍّ بعيد؛ التي اتخذتها المملكة في الأحداث والمتغيرات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأربع الأخيرة؛ خاصة ما له صلة بما بات يُعرف بثورات الربيع العربي جعلت البعض من هؤلاء يتحدَّث عن “سياسة النَّفَس الطويل للمملكة”. مع ذلك فالعالم كله من حول المملكة يتغيَّر، والحوادث أصبحت من السرعة والتعقيد ما يجعلها عصية على الإدراك والإحاطة، وتتطلَّب قرارات مؤسساتية سريعة وفاعلة.

يتميَّز العاهل السعودي الجديد سلمان بن عبد العزيز، كما يقول عنه مرافقيه، بسرعة البديهة؛ وهو مارس صناعة القرار فترة طويلة من الزمن، وشارك في إدارة أزمات عديدة مرَّت بها الدولة، ويُدرك أهمية عامل الوقت، والتدخُّل السريع في مناطق الأزمات الحالية؛ لذلك فمن المرجَّح أن تكون هناك تغييرات فرعية تفصيلية يعول عليها إضفاء قيم مضافة على النشاط الخارجي، وتنشيط بعض الملفات الخارجية الحرجة.

تحتاج المملكة حاليًّا إلى شيء من التطوير في مفاصل صناعة وهندسة القرار الخارجي؛ بحيث تكون قادرة على صناعة مخرجات قرار محرَّرة ومقيَّمة وموضوعية تتوافق ومعايير مدارس صناعة السياسات الخارجية الدولية، كما تحتاج إلى آليات متابعة ميدنة القرار الخارجي وتفاعله مع قرارات اللاعبين الآخرين، وقياس مدى قدرته على الوصول إلى الغاية النهائية المطلوبة، وتحقيق مصالح البلاد؛ وذلك في بيئات يغلب عليها الضبابية والفوضى وعدم اليقين.

سياسة خارجية براغماتية محافظة

منذ تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932 على يد الملك عبد العزيز آل سعود وحتى وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- والمملكة تُسَيِّر سياستها الخارجية وفق ثوابت دينية عروبية ومصالحية تهدف داخليًّا إلى خلق الاستقرار والتعايش بين أطياف المجتمع ضمن سياسة دمج واندماج ترقَّتْ ونضجت مع الوقت، وخارجيًّا إلى الإبقاء على محيط مسالم صديق غير مهدِّد لأمن المملكة ومصالحها.

لوازم المرحلة وطبيعة الأحداث خلال فترة حكم الملك عبد الله (2005-2015) فرضت على السياسة الخارجية للمملكة تبنِّي مقاربات أكثر براغماتية من خط المدرسة المثالية “السلفية”؛ التي سَيَّرَتها خلال العقود السابقة، هذا المسار الخارجي الجديد في عهد الملك عبد الله يُعْزَى في الغالب إلى محاولة تجنُّب الإرباك الذي أحدثته تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وما تبعه من حرب على الإرهاب؛ تخللها إلصاق بعض التهم طالت التمويل والتعليم السعودي والثقافة الداخلية.

يبقى التساؤل المطروح في هذا الصدد: هل سيسير العاهل السعودي الجديد الذي طغت نشأته المحافظة عليه في المسار نفسه؟ المتتبع لقرارات وسيرة الملك سلمان يلمس أنه ليس شخصية تقليدية محافظة صرفة؛ وإنما يمكن وصفها بالمحافظة التنويرية؛ وذلك من خلال التقاء مجموعة عوامل؛ كنشأته الدينية، وحُبِّه للعمل الخيري، وقربه الكبير من القوة الدينية؛ خاصة التقليدية، وفي الوقت نفسه بصماته في التحديث الإعلامي وقربه من الإعلاميين؛ مما مكنه من تأدية دور المحكم بين التيارات الفكرية الداخلية والمحتوي لها، ومن المعاصرين والمشرفين على سجال الهوية والنهضة؛ الذي ميَّز النسق الثقافي الوطني منذ ثمانينات القرن الماضي.

وبذلك فمن المتوقَّع أن تكون سياسته الخارجية مزيجًا من مدرسة الأمير نايف بن عبد العزيز السلفية المحافظة، ومدرسة الملك فهد الانفتاحية المرنة، وهذا يُعَدُّ مؤشرًا معقولاً إضافة إلى مؤشرات أخرى ستقود إلى عودة القوة المرنة المتمثلة في الخطاب الديني المعتدل بوجه عصري، والعمل الدعوي والخيري الخارجي المقنن كأحد أدوات الخطاب السياسي الخارجي في العهد القادم؛ بما سيقود إلى مزيد من التأثير الجيوثقافي الخارجي.

ذوبان جليد العلاقات السعودية-الأميركية بحكم ضرورات المرحلة

علاقة الرياض بواشنطن تاريخية واستراتيجية، وهي الأهم في السياسة الخارجية للمملكة على مستويات مختلفة؛ وهنت الشراكة الاستراتيجية بين البلدين منذ الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وما تطلَّبه ذلك الاحتلال من تفاهمات بين طهران وواشنطن، وهو ما قَيَّمته بعض دول الخليج بأنه تفضيل استراتيجي للمكوِّن الشيعي على حساب الغالبية السنية؛ فقد فهمت دول مجلس التعاون الخليجي أنَّ واشنطن أرادت مكافأة طهران على تعاونها الاستخباري وتعبئتها الطائفية ضد معظم المكوِّن السني المقاوم للاحتلال في العراق.

لكن مهما كان السلوك الأميركي تجاه إيران والأزمة السورية؛ فإن العلاقة مع السعودية لا يمكن أن تستمرَّ بهذا الغموض والتردد؛ حيث يبدو أن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وصلت إلى نقطة تمايز نوايا؛ إمَّا إبقاء بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد تكون الأولى هي المفضَّلة في مثل هذا الوقت الحرج للطرفين، إضافة إلى ما يبدو أنه رغبة من العاهل الجديد في أن يفتتح عهده برمي حجر في مياه هذه العلاقة الراكدة؛ بما يُحَقِّق مصالح المملكة في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها دول الجوار، التي تعتبر أميركا نفسها طرفًا أساسًا في معادلة القوة فيها.

العديد من الدلالات والضرورات تُشير إلى الميل إلى أنه سيتمُّ تطوير هذه الشراكة بعد إعادة هيكلتها وفق مقاربات جديدة ضمن علاقة ندية تكافؤية، بعيدة عن سياسة الإملاءات؛ ولكن هذا التعديل قد يتأخَّر حتى وصول الجمهوريين.
الدلالة الأولى لاحتمالات تطوير هذه الشراكة، هي القمة الاستثنائية، التي كانت على هامش زيارة الرئيس الأميركي الأخيرة للرياض لتقديم العزاء في وفاة الملك عبد الله. تعديل الرئيس أوباما لجدول مواعيد زيارته للهند لكي يلتقي بالملك سلمان واصطحابه لوفد عالي التمثيل من الجمهوريين والديمقراطيين؛ هي بادرة غير مسبوقة وتمثيل استثنائي.

شهد اللقاء الذي جمع الملك سلمان بالرئيس أوباما مناقشة محورين بارزين إضافة إلى آخرين ضمنيين! ملفَّا اليمن والإرهاب؛ المجالان اللذان يكون من الموضوعي أن يحظيا بتعاون جادٍّ وواضح في المرحلة القادمة؛ أما الجانبان الضمنيان في الزيارة فهو ما يمكن استنتاجه من أغلب التعليقات والتحليلات الإعلامية خاصة الأميركية حول الزيارة، وأهمها تصريح لوزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر للوفد الصحفي الأميركي المرافق؛ قائلاً: “هذا وقت حرج وحساس للغاية في الشرق الأوسط، وفي الوقت الذي يبدو فيه أن كل شيء سينهار، فإن المملكة تبدو واحة للاستقرار”. هذا التصريح وغيره يُحيلنا إلى القلق الأميركي الذي لم تتوقَّف مراكز الدراسات الأميركية أن تغذي به الحكومة الأميركية حول خشية وقوع خلاف حادٍّ حول مستقبل الحكم وترتيب البيت السعودي في مسألة الخلافة فيما بعد الملك عبد الله، وما قد ينتج عنه من اضطراب سياسي واجتماعي سيؤثِّر حتمًا على أحد روافد السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط؛ لذلك فالزيارة ربما حملت في طياتها تهنئة للذات أولاً وللحليف المقابل ثانيًا، بأنه: “حمدًا لله أنه لم يقع ما نخشاه، وأن هبوط الطائرة لم يكن اضطراريًّا وإنما بسلام”. كذلك فالأمر الآخر الضمني الذي يمكن استنتاجه من هذا التصريح اعتراف أميركا بأن المملكة غدت مهيأة لتأدية دور حيوي في ترتيب الفوضى في المنطقة.

الدلالة الثانية تكمن في تحوُّل إيران تدريجيًّا من دور المسهِّل للحضور الأميركي في الشرق الأوسط إلى معرقل للمصالح الأميركية؛ وذلك بعد زيادة المد الإيراني بالقوة من خلال خلاياها الدينية والاستخبارية والاقتصادية في الخليج؛ كالبحرين والكويت، وفي اليمن عبر تنظيم الحوثي (أنصار الله)؛ إضافة إلى الحضور العسكري المباشر وغير المباشر في العراق وسوريا ولبنان.

وبالتالي؛ فالمملكة العربية السعودية وأميركا تكتشفان تدريجيًّا أنه لا يمكن تحقيق مصالح البلدين في ظل البرود الذي تعيشه هذه العلاقة، دون الجلوس على طاولة المفاوضات والتوصل إلى مقاربات شاملة؛ خاصة في مجال الإرهاب المتزايد بأدوات جديدة في جنوب وشمال شبه الجزيرة العربية، والحاجة الأميركية لقدرة وخبرة وزارة الداخلية السعودية في هذا المجال. وكذلك الحاجة الأميركية للمملكة كمرجِّح لأسواق النفط العالمية في ظل الهبوط الحاد للأسعار، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد الأميركي، وجدير بالذكر هنا أنه لا مؤشر على صحة ما يُتَدَاول حول تراجع أهمية سياسة النفط في القرار السياسي الأميركي؛ لأنه وإن غدت أميركا مكتفية ذاتيًّا؛ فإن أهمية الطاقة ستبقى في حال استفحل الصراع الأميركي مع الصين أو روسيا واحتاجت أميركا أن تلعب بورقة النفط للتأثير على التنمية وميزانية الدفاع في كلا البلدين. لكن التجاوب السعودي في هذه الضرورات الأميركية قد يكون مرهونًا بوقف أو تهدئة الانفتاح الأميركي على إيران ضمن مصالحة إنهاء الملف النووي، وألا يكون على حساب مصالح دول الخليج العربي.

بروز مفهوم الردع الأمني والدفاعي في سياسة المملكة الخارجية

التعيينات الأخيرة للمناصب الأمنية في المملكة تُظهر الدور المحوري للأبعاد الأمنية والدفاعية التي ستكوِّن السياسة الخارجية للمملكة في العهد القادم؛ فتعيين الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية كَوَلِيٍّ لِوَلِيِّ العهد، والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وتعيين أحد رجالات وزارة الداخلية الفريق خالد الحمدان رئيسًا لجهاز الاستخبارات العامة، وكذلك صدور الأمر الملكي بتعيين سعد الجبري وزير دولة وعضوًا بمجلس الوزراء، والأمر الملكي بتعيينه عضوًا بمجلس الشؤون السياسية والأمنية(6)؛ أضف إلى ذلك وجود شخصية شابة ومحورية كالأمير محمد بن سلمان وزيرًا للدفاع، وهو في الوقت ذاته رئيس للديوان الملكي، ومستشارًا لأبيه الملك سلمان، ورئيسًا للمجلس الاقتصادي، كل ذلك يعطي مؤشرًا قويًّا أن بُعد القوة الصلبة سيكون طاغيًا في السياسة الخارجية القادمة، وأن الأمير محمد بن نايف سيكون عرَّاب استراتيجية الأمن الوطني الجديدة من خلال ترأُّسه لمجلس السياسة والأمن الذي سيؤدي الدور المفترض لمجلس الأمن الوطني السابق.

لم يكن هذا الاهتمام بالبعد الأمني والدفاعي مستغربًا في ظل التهديدات والمخاطر التقليدية وغير التقليدية التي تكتسح الجوار الخليجي وتحيط به من جهاته الأربع؛ هذا الاستفحال للبيئة المحيطة المتأزِّمة تتطلب من المملكة ودول المجلس بشكل عامٍّ بناء الاستراتيجيات الوقائية، للتعامل مع تداعيات التنظيمات الإرهابية القاعدية والداعشية والحوثية، وكذلك تصميم استراتيجية الردع وما فوق الكلاسيكي للتعامل مع التهديد العسكري وغير التقليدي الإيراني، وكذلك استراتيجية خاصة بحرب الفضاء الإلكتروني (السيبراني)؛ هذه الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية ستتطلب ميزانيات ضخمة بكل تأكيد؛ ولكن تستوجب تأهيلاً عاليًا للأجهزة المختصة، وتهيئة المجتمع، وبناء وعيه الأمني للتعامل مع هكذا انعكاسات؛ وذلك ضمن نسق وطني ووحدة وطنية، حتى يتشكل عقل جمعي طارد لكل ما هو غريب ونشاز وضار بمألوفات وثوابت ومكتسبات المملكة ودول المجلس.

استمرارية السياسة النفطية السعودية رغم انخفاض الأسعار

من المرجح أن تستمرَّ السياسة النفطية للمملكة العربية السعودية بالوتيرة نفسها التي كانت عليه في عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، بمعنى تركها كي تتصحَّح تلقائيًّا من خلال تفاعلات سوق الطاقة، على الأقل في المدى القصير؛ وذلك ما لم يكن هناك انخفاض حادٌّ قد يُؤَثِّر على مشاريع التنمية ومستوى المعيشة للمواطنين. ومدلول ذلك تصريح الملك سلمان فور تولِّيه الحكم باستمراره على النهج السابق، وكذلك عدم إصدار مرسوم بإعفاء أي من وزيري البترول والمالية اللذان يؤديان دورًا كبيرًا في السياسة النفطية بحكم موقعيهما الوظيفي، وتمتعهما بعضوية مجلس إدارة شركة أرامكو السعودية.

والحقيقة أن المملكة قد أدركت منذ أزمة الثمانينات، عندما هبطت أسعار البترول إلى مستويات حادة بسبب تبني سياسة الدفاع عن الأسعار من خلال تخفيض الإنتاج؛ التي فقدت المملكة بسببها جزءًا كبيرًا من حصتها السوقية، وهبطت الأسعار في وقت واحد، أن سياسة البترول يجب أن تكون سياسة تكنوقراطية بحتة؛ لذلك قد تبقي المملكة في المدى القريب على سياسة تجنُّب التفريط في الحصة السوقية(7). أما الحديث عن وجود تفاهم سري سعودي-أميركي يستهدف الإبقاء على الأسعار منخفضة للحدِّ من نزعة الهيمنة الإيرانية والروسية وتدخلاتهما المختلفة في الأزمة السورية وفي الستاتوكو الإقليمي، وكذلك بأن المملكة تستبطن مواجهة النفط الصخري، فلا يُعتقد أن تكون أسبابًا رئيسة؛ وإنما قد تكون ثانوية.

الخلاصة

أخيرًا لا آخرًا؛ يمكن القول: إن المملكة في عهد الملك سلمان ستحافظ على منهجها الذي انتهجته على الصعيد الخارجي منذ عهد مؤسسها الراحل الملك عبد العزيز آل سعود؛ القائم على سياسة الاعتدال والاتزان والحكمة وبُعد النظر على الصعد كافة؛ ولكنها قد تُعَزِّز حضورها ضمن المسارات التقليدية؛ حيث من المرجَّح أن يستمر الملك سلمان بزخم أكبر في مدِّ يد العون والدعم للعديد من الدول العربية والإسلامية؛ خاصة المتأثِّرة بتداعيات الانتفاضات والثورات العربية.

أما في المسار الدولي فمن المرجَّح أن يتمَّ الإعلان قريبًا عن مبادرات للمملكة تهدف إلى دعم السلام والأمن الدوليين، وزيادة تأثير المملكة في الشرعية الدولية؛ وفي المسار الخيري قد يستثمر العاهل السعودي حاجة المجتمع الدولي لمعالجة حالة الفقر والمجاعة والكوارث الطبيعية لتأسيس صناديق خيرية للعمل الإنساني.

وأخيرًا في ظلِّ الإسلاموفوبيا التي اجتاحت أوروبا بعد اعتداءات “شارلي إبدو” في فرنسا بداية العام الجاري 2015، فإنه سيُنتظر من المملكة إعادة إنعاش الحوار بين الثقافات، وتصميم خطاب إسلامي دعوي جديد، منطلق من القاعدة الأساس وهي العقيدة الإسلامية الصحيحة، للحدِّ من ظواهر العنف الدينية التي تجتاح العالم اليوم، في ظل نظرة متوازنة مع مقتضيات العصر وظروف المجتمع الدولي وأسس العلاقات الدولية المرعية والمعمول بها بين دول العالم كافة.
______________________________________________
*د. أحمد الأزدي، باحث في الشؤون الاستراتيجية والأمنية

المصدر مركز الجزيرة للدراسات 

الهوامش والمصادر:
(1) انظر، موقع وزارة الخارجية السعودية: http://www.mofa.gov.sa/aboutkingdom/kingdomforeignpolicy/Pages/ForeignPolicy24605.aspx
(2) منصور المرزوقي، انتقال السلطة في بيت الحكم السعودي:
http://studies.aljazeera.net/reports/2015/01/2015125113951906273.htm
(3) الراحل الملك عبد الله.. زعامة رائدة بـ«كاريزما» خاصة، جريدة الشرق الأوسط، الأحد 11 من ربيع الثاني=1 من فبراير/شباط 2015 – رقم العدد (13214).
(4) انظر، موقع وزارة الخارجية السعودية، مرجع سابق. http://www.mofa.gov.sa/aboutkingdom/kingdomforeignpolicy/Pages/ForeignPolicy24605.aspx
(5) انظر، عبد الرحمن الراشد، جريدة الشرق الأوسط، الخميس 29 من يناير/كانون الثاني 2015 عدد (13211) (بتصرف).
(6) انظر، جريدة الموند الفرنسية، محمد بن نايف، الرجل القوي الجديد في المملكة (Mohamed Ben Nayef, nouvel homme fort en Arabie saoudite)
http://www.lemonde.fr/proche -orient/article/2015/01/24/
(7) انظر، تصريح للمدير الإقليمي لشركة “آشمور” لإدارة الأصول في جريدة الشرق الأوسط، د. جون إسفاكيانكيس، الخميس 29 من يناير/كانون الثاني 2015، العدد رقم (13211).