محدودباً ومصفد اليدين في غرفة إسمنتية قاتمة الإنارة، القائد السني السابق لخلية من “داعش” يعترف باستهداف المدنيين في القتال ضد بغداد. والآن يشعر بالندم.
* * *
بغداد – السجين رجل محطم
أيامه كقائد فيما يدعى “الدولة الإسلامية”؛ أيامه مع تفجيرات السيارات والاغتيالات، كل ذلك انتهى الآن. وقد اعتقلت المخابرات العراقية فصيله المكون من 40 شخصاً من ناشطي “داعش” في جنوب بغداد في العام الماضي.
محدودب الظهر في وضع خضوع كامل، مكبل اليدين ومرتدياً بذلة رياضية جديدة بنية اللون ما تزال متجعدة، يشكل مالك خميس موضوع دراسة للهزيمة -ودليلاً على الكيفية التي تحقق بها قوات الأمن العراقية بهدوء مكاسب ضد “داعش” في غير ميادين المعركة في الموصل.
جالساً في كرسي بلاستيكي أخضر مستهلك جداً -حيث أجرى صحفي معه المقابلة في مرفق اعتقال في بغداد مؤخراً- وبتواجد سبعة من حراس السجن والمحققين، يستعيد السيد حبيب القصة التي كان قد رواها لهم مراراً منذ إلقاء القبض عليه في كانون الثاني (ديسمبر) من العام 2015. والقصة تتعقب صعود وسقوط معنويات “داعش” والحصيلة الكبيرة في الأفراد التي نجمت عن القتال.
من غير الواضح ما الذي يحرك مشاعر الندم عند حبيب اليوم، وكيف تغير بعد عام في السجن من مؤمن حقيقي بقضية “الدولة الإسلامية” إلى مواطن عراقي يشعر بوخز الضمير، معتذراً عن القتل الذي يقول إنه ارتكبه. وقد يكون أحد المفاتيح هو الشعور الكثيف والحاد بالذنب بسبب الدمار الذي جلبه على عائلته التي لم تعرف أي شيء عن التزامه مع “داعش” قبل أسره.
وبالإضافة إلى ذلك، توفر رواية حبيب نافذة تطل على داخل عمليات “داعش” في العراق يوماً بيوم، وحيث يقول محللون إن أكثر من 5000 عضو في “داعش” ومتعاطف معه قد اعتقلوا منذ أن اجتاح الجهاديون الحدود من سورية في حزيران (يونيو) من العام 2014.
في الأثناء، يحرز الجيش العراقي تقدماً في الموصل لاجتثاث “داعش” من آخر معقل له في البلد -مع توقعات باعتقال آلاف آخرين من التنظيم. لكن تفكيك خلايا العمليات، مثل خلية حبيب، التي نثرت بذور الرعب في مساحات شاسعة من الأراضي التي لا يحتلها الجهاديون في الحقيقة، هو الذي سيكون مفتاحاً لسحق “داعش” هنا.
يقول حبيب، الرجل السني نحيل البنية، المتعلم والبالغ من العمر 45 عاماً وذو العينين الحادتين والبشرة الداكنة المليئة ببقع سوداء خشنة: “الآن، أعتقد أن القوات الأمنية والمخابرات قادران تماماً على ضبط الأوضاع”.
ويضيف: “لم أكن أعتقد بأن لديهم القدرة على اعتقال الناس ووقف هذه الجرائم. لقد انتهى مستقبلنا كتنظيم الدولة الإسلامية -انتهى الأمر- لأنهم اعتقلوا معظم مجموعات الدولة الإسلامية وتم تحرير معظم المناطق”.
وكان آخر عضو في خلية حبيب قد اعتقل في وقت مبكر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، باستخدام معلومات من معتقلين تم إلقاء القبض عليهم وأرقام موجودة على الهواتف النقالة، من بين بيانات أخرى. ويقول مسؤولون في هذا المرفق المحصن الذي لم تتغير متاهته من الجدران الإسمنتية المقاومة للتفجير وبواباته وبوابات زنازينه المعدنية منذ أن استخدمته القوات الأميركية لغاية مشابهة، إن عمليات القتل والهجمات ضد المدنيين والجنود العراقيين على حد سواء قد توقفت كلية في منطقة المدائن في جنوب شرق بغداد، حيث كان حبيب يدير عملياته.
يقول هشام الهاشمي، المحلل الأمني في بغداد، والذي يقدم المشورة للحكومة العراقية عن المجموعات السنية المتشددة، إن حقيقة تحقيق الحكومة العراقية لمكاسب ضد متشددي “داعش” تعكس الكيفية التي تحسن من خلالها أداء جهازها المخابراتي ضد التنظيم.
ويضيف السيد الهاشمي: “لقد أصبحت قدراتهم وإمكانياتهم أقوى وأكثر تطوراً” منذ أن صدم الجهاديون القوات الأمنية والمخابراتية العراقية بهجومهم الخاطف في حزيران (يونيو) 2014. ويقول أيضاً: “لقد كسروا ظهر الداعمين لـ‘داعش’ في الشمال والجنوب والشرق من بغداد”.
ويضيف الهاشمي، مشيراً إلى أن 40 من متشددي “داعش” كانوا ليحسبوا على حوالي ثماني مجموعات هجومية منفصلة، أن إلقاء القبض على كل عضو من خلية حبيب الضخمة يعتبر “صدمة كبيرة لداعش. إنه نصر كبير. معظمهم ليسوا من بغداد وإنما من المناطق المحررة. هذه أهم عملية تتم ضد داعمي داعش. وهي ضربة فائقة الجودة ضدهم”.
مجندون للقضية
يصل حبيب في الليل إلى غرفة ضخمة إسمنتية مضاءة بشكل بائس، خالية من النوافذ. وثمة قطعة قماش سوداء تغطي عينيه كعصابة، ويتم إدخاله بسرعة إلى الغرفة قبل أن يتم إجلاسه في منتصفها. وهناك مكتب فارغ لا يجلس عليه أحد، ومجموعة من الحرس بالزي الرسمي ومحققون في ملابس مدنية، وقد جلس بعضهم على المقاعد أو كانوا يجيئون ويذهبون مستخدمين هواتفهم النقالة أو أجهزة اللاسلكي خاصتهم.
ولا يظهر حبيب أي علامات واضحة عن تعذيب تعرض له أو أي علامات أخرى على سوء المعاملة -وهي ممارسات كانت مألوفة في السجون العراقية لانتزاع الاعترافات منذ الغزو الأميركي في العام 2003، والتي استخدمت لعقود عدة سابقاً في ظل حكم صدام حسين.
يتعقب انخراط حبيب في النشاطات العنيفة تطور التطرف السني في العراق، من تحالف مفكك مع تنظيم القاعدة إلى إعلان الولاء لخليفتها الأيديولوجي، تنظيم “الدولة الإسلامية”.
من المفارقات أن حبيب كان مدرجاً في سجل الرواتب الحكومية لأعوام عدة، وكان يعمل مع وزارة الصناعة في مصنع للزيت النباتي. ولكن، في وقت متأخر من العام 2011، أقنعه أعضاء من قبيلته السنية من الذين كانوا قد قاتلوا في السابق مع القاعدة في العراق وكانوا يخوضون معارك مع أول حكومة شيعية في العراق برئاسة رئيس الوزراء في حينه نوري المالكي، أقنعوه بالانضمام إلى كفاحهم الطائفي المعادي للنظام.
كانت عمليتهم الأولى -في العام 2012- هي زرع جهاز تفجير بدائي استهدف قوات عراقية -الضربة الأولى مما يقول حبيب إنه سيكون في نهاية المطاف عملية شاملة يشنها “داعش” والمسؤولة عن هجمات بأجهزة التفجير البدائية، وسيارتين مفخختين وضعتا في سوقين مزدحمين، ونصف دزينة من عمليات القتل المستهدفة.
ويقول حبيب إنه تشجع عندما اجتاح “داعش” داخل العراق في حزيران (يونيو) من العام 2014 واستولى على الموصل، وتقدم جنوباً ليهدد بغداد، وأعلن عن قيام الخلافة الإسلامية لأول مرة في قرون.
ويضيف حبيب، الذي توقع أنهم سيأتون في نهاية المطاف إلى المزارع التي تحف بها أشجار النخيل في منطقته جنوب العاصمة: “في ذلك الحين، شعرت بأنني جندي في الدولة الإسلامية، وكنت سعيداً وظننت أنني سأقاتل معهم لإسقاط الحكومة ومن أجل إقامة الدولة الإسلامية”.
“استهدفنا مدنيين”
بحلول ذلك الوقت، كان حبيب يتقاضى راتباً من “داعش” فوق راتب عمله الحكومي. وعندما يتحدث عن الهجمات التي شارك فيها، فإنه يهتز وترتعش يداه المصفدتان معاً.
كانت أول سيارة مفخخة تولت خليته مسؤولية تفجيرها قد وُضعت بالقرب من نقطة تفتيش وسوق في الزعفرانية يوم التاسع من تموز (يوليو) من العام 2015. وذكرت وسائل الإعلام حينها أن التفجير تسبب في مقتل شخص، وإصابة 15 آخرين بجروح بليغة. وفي الشهر التالي تم اعتقال أول عضو في خلية حبيب.
انفجرت السيارة المفخخة الثانية بالقرب من مخبز في الوردية يوم 25 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2015، وأسفر الانفجار عن مقتل شخصين وجرح ثمانية أشخاص.
ويقول حبيب: “استهدفنا المدنيين”، مضيفاً أنه كان مطلوباً من كل خلية تنفيذ الأوامر أو مواجهة العقاب. ويقول حبيب وهو يلوي يديه، إنه ليس لديه أي فكرة لماذا أمر بقتل مدنيين.
كانت الأهداف العسكرية مشروعة “لأنهم كانوا هم الأعداء -ومعظمهم شيعة” كما يقول حبيب، الذي يضيف أن قادة “داعش” قالوا لهم إن قتل الشيعة الكفار يعني “أنكم ستذهبون إلى الجنة 1000 مرة”.
لكن حبيب يقول إنه قتل أيضاً ستة أو سبعة من السنة لتعاونهم مع قوات الأمن. ويشير إلى أنه كان يتلقى مكالمة هاتفية من رئيسه في “داعش”، والتي يحدد له خلالها شخصاً لقتله.
ويقول حبيب إنه كان يقال له: “أنت المسؤول هناك، وعليك أن تتولى أمر هذا الشخص”. وكان يجيب ليؤكد: “سنذهب لنقول له: مرحباً”. ويضيف أن المجموعات الصغيرة استطاعت أيضاً أن تقرر مَن تقتل باسم “داعش”.
كان الدافع سياسياً، وليس دينياً
حدثت أول عملية اغتيال في وقت مبكر من خريف العام 2015، واستهدفت صاحب حانوت سني يعتقد “داعش” أنه مخبر حكومي. وزاره حبيب ومجموعته في الليل.
ويقول حبيب: “قرعنا الباب وأطلقنا النار عليه من دون استخدام كاتم للصوت”. وكان الهدف الثاني سائق جرافة كان ينظف قنوات المياه من الأعشاب الطويلة التي أراد “داعش” استخدامها كغطاء مستقبلي محتمل للهجمات.
ويقول حبيب إن هذا السائق وسائقاً آخر قتلا بفعل قنبلتين زرعتا في جرافتيهما. ومع أنه مؤمن بالله، فإنه لم يكن مدفوعاً بدافع الجهاد المتطرف على غرار إيديولوجية “داعش” والطريقة السلفية، وإنما كان الدافع هو اهتمامه بالإطاحة بـ”العدو” من حكم بغداد. ويقول حبيب: “اعتقدنا هذه الحكومة أخذت حقوقنا. شعرت بالنجاح، بأنني أستطيع في المستقبل تدمير هذه الحكومة. وأعطانا سقوط الموصل المزيد من الدافع”.
ولكن، عندما بدأ الجيش العراقي والأجهزة الأمنية في إعادة بناء نفسها والرد في القتال، ولاستعادة تكريت في ربيع العام 2015 ثم بداية القتال الطويل في ذلك الصيف لاستعادة الرمادي، أوقفت وحدة حبيب عملياتها لفترة من الوقت: “شعرنا وكأن الهواء قد أفرغ من البالون”.
ذهب القائد المحلي إلى الموصل للقتال، تاركاً حبيب مسؤولاً. لكن عضواً آخر من مجموعة حبيب اعتقل في ذلك الوقت. وكان لديه الكثير من المعلومات عن خليتهم، وكان قد اجتمع مع حبيب مرات عدة شخصياً في سوق مزدحمة، ولذلك استطاع أن يصفه.
“لقد دمرتنا”
لم يمض وقت طويل قبل أن يأتي عملاء المخابرات العراقية إلى حبيب الذي كان مسجلاً على قائمة هاتفه النقال 25 رقما هاتفياً، حتى على الرغم من أنه ومعظم أعضاء الخلية الآخرين عرفوا بعضهم بعضا بالأسماء الحركية وحسب. كان اسمه أبو طه. واستمرت الاعتقالات في خليته لحوالي العام تقريباً.
ويقول حبيب: “أشعر بالندم على ما فعلته، وأعتذر لكل الآخرين الذين تسببت لهم بالمتاعب”. وكان قد أدلى باعتراف تلفزيوني قال فيه إنه كان “مقاتلاً في سبيل الله”، وأضاف أنه يعتقد بأن ذلك كان “خطأً كبيراً: لقد دمرت العديد من الناس”.
لكن بالنسبة لحبيب، كان الأسوأ سيأتي: الخزي والعار أمام زوجته وأبنائه الخمسة الذين لم تكن لديهم فكرة بأن والدهم ناشط مع “داعش”. ويقول إن جاراً جاء إلى زوجته وقال: “زوجك كان في مقابلة تلفزيونية. إنه إرهابي”.
يتوتر كل جسد حبيب عندما يستحضر رد فعل زوجته عندما جاءت لزيارته في مركز الاعتقال. وتبيض يداه المتشابكتان حول الأصفاد المعدنية.
يتذكر ما قالته له وهي تصرخ: “لماذا فعلت هذا بنفسك وبنا؟ لقد دمرتنا!”. ويقول: “لم أستطع أن أتكلم. صمتُّ وحسب”. قالت: “لقد دمرتنا”.
سكوت بيترسون
صحيفة الغد