يحتفي العراقيون بحملة استعادة الموصل ، بكونها رمزاً للوحدة الوطنية وتجسيداً لها. فهذا الهجوم لمّ شمل الجيش العراقي مع قوات البيشمركة الكردية، ومجموعات عسكرية غير نظامية بينها قوات الحشد الشعبي، ومقاتلو القبائل السنّية، ما عزّز التوقعات بإحراز نصر عسكري سريع.
وهكذا، أعلن كل من رئيس الوزراء حيدر العبادي ورئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، إثر بدء الهجوم على المدينة، أن الجيش العراقي والبيشمركة يتعاونان عسكرياً للمرة الأولى في تاريخ العراق. قال العبادي: “كل الناس هنا للقتال إلى جانبنا، الكرد مع العرب، والشيعة مع السنّة، وكل الأقليات هنا معنا- المسيحيون والإيزيديون والتركمان، لنقاتل يداً بيد”. وتردّدت أصداء إعلانه هذا في بيان يان كوبيش، المبعوث الأممي الخاص إلى العراق، أمام مجلس الأمن، والذي قال فيه: “نشهد ولادة عراق جديد مع قواته الأمنية التي يستقبلها المدنيون استقبال المُحررين”.
لكن، على رغم هذا التفاؤل، وحتى لو هزمت الدولة الإسلامية كما بات مرجّحاً، يواجه العراق تحديات جمّة، منها: أزمة الثقة بين الدولة والمواطنين، وأزمة الثقة بين العراقيين، والنزاع على الزعامة السياسية داخل أبرز الجماعات العرقية والمذهبية، والخلاف حول تمويل إعادة الإعمار، ومستقبل الأراضي العراقية المتنازع عليها.
الهوة بين الدولة والطوائف العراقية
أزمة الثقة بين الدولة والعراقيين ناجمة عن عقود من سياسات إقصائية وقمع عنيف، واستهداف السلطات المركزية جماعات عرقية ومذهبية محدّدة. ثم جاء القمع الشرس للسنّة في عهد رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، ليساهم بقوة في انتقال احتجاج المحافظات ذات الغالبية السنّية من العمل السلمي الذي اتّسمت به في فترة 2012-2013، إلى التمرّد الجهادي العنيف. وفاقمت سرعة وقوع مساحات شاسعة من الأراضي العراقية في قبضة ما يسمى الدولة الإسلامية في حزيران/يونيو 2014، وانسحاب الجيش العراقي من مناطق أساسية، هوة الشقاق القائمة أصلاً بين العراقيين ودولتهم.
وبالتالي، يقتضي الحؤول دون عودة تنظيم الدولة الإسلامية النزول على مطالب السنّة الرئيسة، بما في ذلك وقف الإقصاء السياسي، وإصلاح قانون مكافحة الإرهاب، والعفو عن عشرات آلاف السنّة الذين سُجنوا بموجب القانون من غير محاكمة عادلة في الغالب. ثم أن تعاون الحكومة مع السنّة، وتحديداً القبائل السنّية، سيكون كذلك عاملاً بارزاً في طمأنة هذه الطائفة.
بيد أن التحدي الأبرز في عراق ما بعد الدولة الإسلامية هو التغيّرات في هيكلية السلطة التي تحكم علاقات بغداد بالمحافظات والجماعات العرقية والمذهبية. واليوم، تتعايش ثلاثة كيانات منفصلة داخل الحدود العراقية: مناطق تسيطر عليها الدولة العراقية حيث تُهيمن أساساً الفصائل الشيعية؛ وحكومة إقليم كردستان؛ والأراضي التي تهيمن عليها الدولة الإسلامية. وكل من هذه المناطق طوّر أشكالاً خاصة من الحوكمة، على وقع تفاقم التنافس الإقليمي على النفوذ، والتدخلات الخارجية من طرف إيران من جهة، والائتلاف الدولي بقيادة الغرب من جهة أخرى.
في هذا السياق، تُعتبر العلاقة بين بغداد ومختلف المناطق جوهر المناقشات حول مرحلة ما بعد الموصل. وفي حين يستسيغ كل من الأكراد والسنّة الحدّ من سلطة الحكومة المركزية في الموصل وغيرها من المحافظات المحررة، تسعى القيادة التي يهيمن عليها الشيعة إلى الحفاظ عليها. لكن انتهاج عملية سياسية إقصائية في مرحلة ما بعد الدولة الإسلامية ورفض لامركزية السلطة في المحافظات كما هو مكرّس في الدستور، يؤجّجان، على الأغلب، لهيب العنف الطائفي.
ثم أن مرابطة قوات الحشد الشعبي في مناطق يغلب عليها السنّة، سترفع وتائر تأييد الدولة الإسلامية (وغيرها من الجماعات المتطرفة) التي سيبقى إرثها في المجتمع العراقي بعد زوالها.
الأزمة بين العراقيين
لا توجد أزمة ثقة بين العراقيين ودولتهم وحسب، بل كذلك بين الطوائف العراقية نفسها. ففي العامين الأخيرين، تعاظمت في العراق عسكرة الجماعات العرقية والمذهبية، في خضم سعيها إلى توفير الحماية الذاتية. وإثر تمدّد تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014، ارتفع عديد قوات الحشد الشعبي، التي يهيمن عليها الشيعة، إلى حوالى 150 ألف مقاتل موزّعين على نحو 50 فصيلاً. وهذا وجه من وجوه العسكرة التي تطال كذلك ميليشيات مؤلفة من أقليات، منها المسيحيون والإزيديون الذين ينضوون تحت لواء الحشد الشعبي أو البيشمركة الكردية.
على رغم أن كثيراً من السنّة لم يؤيدوا تنظيم الدولة الإسلامية، وأن هذه الطائفة نفسها عانت من هذا الأخير، شعر العراقيون من طوائف أخرى أن بعض جيرانهم العرب السنّة خانوهم حين ساوموا التنظيم. قالت والدة إيزيدية نجحت في الفرار مع عائلتها: “نحن لا نبكي أنفسنا وحسب، بل كل الإزيديين. فنحن تعرضنا إلى التعذيب وانتُهك شرفنا وديننا. ولقد عشنا مع جيرانا المسلمين العرب في الحرب الإيرانية العراقية و[خلال] حرب الخليج الأولى. وحمينا بعضنا البعض. لكنهم اليوم، صاروا أعداءنا”.
وأبلغني ناشط في مخيم اللاجئين في دهوك، في شباط/فبراير المنصرم أن: “الإزيديين يرفضون العودة إلى المناطق المحررة من [تنظيم الدولة الإسلامية] قبل أن يطّلعوا على شكل الحكم الذي ينتظرهم. فهم يريدون أن تعود إليهم إدارة شؤونهم وأن تكون لهم كلمة فيها”.
وفي المقابل، أفضت جرائم تنظيم الدولة الإسلامية، وتبادل الاتهامات المذهبية، وفقدان الثقة، إلى عمليات قتل انتقامية ضدّ عرب سنّة ارتكبتها ميليشيات شيعية، اتُهمت، شأنها شأن ميليشيات إيزيدية، بقتل سنّة من غير رادع أو جزاء. وفي مناطق أخرى، أُلقيت لائمة ارتكاب مجازر وتهجير العرب السنّة بذريعة التعاون مع الدولة الإسلامية، على الميليشيات الكردية. والحال أن هدف الأكراد ليس إنزال القصاص بهؤلاء وحسب، بل السعي كذلك إلى إحكام القبضة على المناطق المتنازع عليها بين الدولة العراقية وحكومة إقليم كردستان. وبالطبع، تفاقم مثل هذه الأعمال الشقاق في المجتمع العراقي وتدقّ الأسافين بين مكوناته. لكل ذلك، ستكون فرص السلام في مرحلة ما بعد الدولة الإسلامية في العراق موضع شك، من دون مراجعة شاملة للعلاقات بين الطوائف عبر تبنّي سياسات اكثر إدماجاً للجميع.
مخاطر النزاع داخل المذهب الواحد
بيد أن التوتر الطائفي ليس قصراً على التنافس بين الكرد والشيعة والسنّة. فثمة مؤشرات مُقلقة إلى تفاقم الصراعات في صفوف المذهب الواحد، وتحديداً في صفوف الشيعة والأكراد. فقد تفاقم التنافس بين الشيعة، وبرزت الصراعات داخل حزب الدعوة، وهو أكبر حزب عراقي أدار دفة البلاد منذ العام 2005 بنجاح، وانقسم إلى معسكرين.
صحيحٌ أن الشقاق السياسي والانقسامات الداخلية ليست أمراً طارئاً على حزب “الدعوة”، إلا أن إقالة رئيس الوزراء نوري المالكي في العام 2014، وحلول حيدر العبادي، وهو مسؤول آخر في هذا الحزب، محله، أجّج الانقسام وفاقم الشقاق. وتظهر عملية الموصل العبادي في صورة الزعيم الوطني القوي، فيما يمسك المالكي بمقاليد بعض قوات الحشد الشعبي، ويبسط نفوذاً ميدانياً يرجح كفته، ويوفّر له رافعة لتحدي خصومه السياسيين بوسائل لم يحزها من قبل. فهو يتوسّل الجماعات التابعة له لتقويض العبادي وتعزيز موقعه، قبل انتخابات مجالس المحافظات في 2017 والانتخابات التشريعية في 2018.
سيرسم هذا النزاع الشيعي ملامح القوة الصاعدة للحشد الشعبي. فإقرار البرلمان العراقي مؤخراً قانوناً يعتبر رسمياً قوات الحشد جزءاً من القوات العراقية المسلحة، يرمي إلى عدد من الأهداف. إذ هو لا يعترف وحسب بفضل قوات الحشد الشعبي في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، بل يرمي أيضاً إلى وضعها تحت راية الدولة العراقية مباشرة وإجهاض طموحات بعض قادتها. لكن قادة الحشد الشعبي وثيقو الصلة بأحزاب سياسية، والأرجح ألا يسارعوا إلى إلقاء السلاح بهدوء. فهم صاروا أمراء حرب نافذين، وتأتمر بقيادتهم أعداد كبيرة من الجنود، وفي متناولهم مواردُ يعتّد بها، ويتمتعون بنفوذ سياسي واسع. وفي وقت تتعاظم طموحات هؤلاء القادة، لا يُستبعد أن تحتدم بينهم منافسة تنتهي إلى نزاعات في صفوف بعض القوات المسلحة في الحشد الشعبي.
نأتي الآن إلى المناطق الكردية التي لا تبدو هي الأخرى في حال أفضل. فولاية مسعود بارزاني، كرئيس لكردستان، التي كان مددها البرلمان الكردي لعامين، انتهت في آب/أغسطس 2015. والبرلمان مذ ذاك لايحرك ساكناً والحكومة عاجزة. ثمّ أن النزاع التاريخي يتفاقم بين سلالتي الحزبين الكرديين الرئيسيين – الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، الذي يسيطر على مدينة أربيل، والاتحاد الوطني الكردستاني الذي يرأسه طالباني ومقرّه في السليمانية – وهذا الصراع يتصاعد على وقع احتدام العداء داخل العائلتين الحاكمتين في منطقتي نفوذهما، من جهة، وبين العائلتين ومسؤولين أكراد آخرين، من جهة أخرى. ومثل هذه التوترات الحزبية منخفضة الوتيرة قد تشعل النزاع مجدداً بين هذين الحزبين الكرديين البارزين.
يُذكر أن رواتب الموظفين الحكوميين الأكراد لم تُدفع منذ أشهر، وهذا التأخّر كان وراء اندلاع سلسلة تظاهرات في مدن عدة نظمّها الموظفون ورجال الشرطة في إقليم كردستان، ماقد يعزّز ميل الأكراد إلى البقاء في الدولة العراقية التي يرون أن في مقدورها، على الأقل، ضمان دفع رواتبهم.
إعادة الإعمار والأقاليم المتنازع عليها
تضع معركة الموصل الحكومة العراقية أمام تحدٍ ثالث: إعادة إعمار المدن والبلدات المُحررة من تنظيم الدولة الإسلامية، فيما خزانة الدولة فارغة.
وقد كشفت موازنة 2017، التي أقرها البرلمان مؤخراً، عن عجز يوازي 18 بليون دولار. وفي نيسان/أبريل توقّع البنك الدولي أن يشكل العجز حوالى 14.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العراقي. علاوةً على ذلك، تساهم عمليات الاقتراض أو المساعدات المالية في تمويل 22 في المئة من الإنفاق العام. كما تُخصّص 25 في المئة تقريباً من النفقات للأنشطة العسكرية، منها تمويل قوات الحشد الشعبي. كما تدور خلافات بين السياسيين السنّة والشيعة والأكراد حول حصة كل مجموعة مسلّحة من هذه الأموال.
يطرح عجز الموازنة أسئلة حول قدرة الحكومة على تنفيذ عمليات إعادة إعمار تقدّر كلفتها بين 14 و25 بليون دولار. وحتى اليوم، تنتظر مناطق سبق أن حُررت من قبضة الدولة الإسلامية برامج الإعمار واستئناف العمل في الخدمات. وتطيل وتيرة إعادة الإعمار البطيئة معاناة النازحين العراقيين هرباً من الدولة الإسلامية. فيتعذّر عليهم بناء حياتهم من جديد وكسب رزقهم. وبالتالي قد يؤدي الغضب الشعبي من غياب الخدمات، مع الوقت، إلى تمرد جديد.
التحدي الرابع يتناول مصير الأراضي المحررة من الدولة الإسلامية والتي تتنازع عليها الدولة العراقية والأكراد. وعلى رغم أن حيدر العبادي أكّد إبرام اتفاق لانسحاب البيشمركة من مثل هذه المناطق حال هزيمة الدولة الإسلامية، إلا أن مسعود بارزاني وغيره من المسؤولين الأكراد ألمحوا إلى أنهم لن يلتزموا به ولن ينفذوه. ومثل هذا الوضع المتوتر قد ينزلق إلى نزاع مفتوح بين الأكراد وبغداد، على عكس التفاؤل في بداية حملة الموصل. وكل هذا سيعقّد عملية إعادة الإعمار وبلورة مستقبل أي حل سياسي في نظام الحكم ما بعد الدولة الإسلامية في العراق.
فرصة لرؤية شاملة للعراق
في خضم التحديات الكثيرة التي تواجهها الدولة العراقية، تتوافر الفرصة أمام ناشطي المجتمع المدني (الذين نظمّوا، خلال السنة ونصف السنة الأخيرة، احتجاجات في المدن العراقية والمحافظات، ومنها بغداد والبصرة والنجف وأربيل والسليمانية) لاقتراح رؤية شاملة حول مستقبل العراق. وإذ هم يرصون الصفوف ويرفعون لواء مطالب إصلاح آليات الحكم ومكافحة الفساد، من جملة مسائل أخرى، بإمكانهم التعويل على انتخابات المحافظات والانتخابات البرلمانية لدفع عجلة التغيير والحؤول دون سياسات الإقصاء.
قد يبدو التغيير عسيراً في ضوء الوقائع العراقية السياسية والعسكرية الحادة، لكنه ضروري بفعل وجود حاجة ماسّة لإرساء أطر مصالحة وطنية بين طوائف البلد المتنوعة.
وحريٌّ بناشطي المجتمع المدني هجر الانقسامات العرقية والمذهبية التي شقت صفوفهم حتى اليوم، والمساهمة في صوغ رؤية تنزل على مقتضيات كثيرة ومنها الاعتراف بأن النقاشات حول إعادة توزيع الموارد هو أمر حيوي وأساسي لجسر التباين واللامساواة في السلطة بين المذاهب والاتنيات، ولمدّ جسور الثقة بين العراقيين، ودمل الجروح التي أثخن تنظيم الدولة الإسلامية بها العراقيين.
وتشمل عملية التعافي هذه آلية للعمل مع مئات آلاف الأطفال العراقيين بعد أن تلاعبت بهم الدولة الإسلامية واستمالتهم إليها، بحسب المفوضية العليا لحقوق الإنسان العراقية. ويقتضي جبه تحدي إعادة دمج النساء اللواتي اغتصبهن مقاتلو الدولة الإسلامية، وكذلك أولادهم، في المجتمع العراقي المحافظ، وتشريع الآفاق أمام آلية العدالة الانتقالية. وإذا ما تُركت الأمور على غاربها الحالي، قد تنتهي إلى انبعاث شكل جديد من الدولة الإسلامية.
ربما يكون تنظيم الدولة الإسلامية قد أيقظ العراقيين على ضرورة رصّ الصفوف، لكنه لم يدفعهم إلى الإجماع على مستقبل العراق. وكما قال العالم الشيعي الكبير، السيد جمال الخوئي: “العراق ليس واحداً، وثمة عراق للسنّة وآخر للشيعة وثالث للأكراد ورابع للأقليات المضطهدة مثل الإيزيديين والصابئة المندائيين”. والفرصة سانحة لقيام مجموعات المجتمع المدني ومن نذروا أنفسهم من أجل العراق، بصوغ رؤية أشمل لمستقبل البلاد.
مهى يحيَ
مركز كارينجي للشرق الاوسط