ما حدث من احتجاجات شعبية ضد زيارة نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي لمحافظات البصرة والناصرية والعمارة الأسبوع الماضي ليس حدثا شكليا طارئا، بل هو حدث ذو دلالات سياسية مهمة تتعلق بالصراعات بين أحزاب “المذهب الواحد” بحسب التوصيف الدارج وبين حزبين مهمّين هما حزب الدعوة والتيار الصدري.
هذا الصراع الذي يخبو تارة ويتأجج تارة أخرى له أبعاد عميقة تشمل المجلس الأعلى برئاسة عمار الحكيم، ويمتد إلى جذور الحوزة ومرجعياتها في كل من النجف وقم.
ولكن ما يظهر هذه الأيام هو الصراع السياسي المباشر حول قيادة وزعامة السلطة في العراق بعد شعور هذه الأحزاب بـ“أن الحكم لن يخرج من يدها إلى أطراف سياسية أخرى، طالما أن فكرة الأغلبية الطائفية الشيعية هي المتحكمة اليوم”.
الصراع المتمثل الآن يتمحور بين شخصيتي زعيمي الدعوة نوري المالكي، والتيار الصدري مقتدى الصدر، فيما يؤجل صراع الحكيم والصدر لأسباب تتعلق بشخصية عمار الحكيم الذي لا يريد خسارة المعركة ضد الصدر الذي يمتلك شعبية واسعة بين المهمّشين والمحرومين من فقراء الشعب العراقي، مع أن كل الظروف والمعطيات التاريخية تؤشر على خلافات تاريخية عميقة بين عمّه الراحل محمد باقر الحكيم والراحل محمد صادق الصدر حول تبعية المرجعية الحوزوية، وما سمّي بـ“الحوزة الناطقة والحوزة الصامتة” كما تقول الوقائع والأحداث المعروفة.
كما لم تمر مناسبة أو ظرف سياسي بعد العام 2003 إلا وظهر الخلاف السياسي بين عمار الحكيم والصدر الذي اختط منهجا اعتراضيا على مسيرة العملية السياسية خـلال فتـرة الاحتـلال العسكـري الأميـركي ومـا بعدها. فقد كان للصدر جناح عسكري، هو جيش المهدي، وكتائب مقاومة ضد الاحتلال من بينها تلك الكتائب التي انشقت عنه في ما بعـد وأهمهـا عصائب أهـل الحق التـي تزعمهـا بعـد الطباطبائي قيس الخزعلي.
لقد ميّز الصدر نفسه عن غيره من الزعماء السياسيين الشيعة بأنه قاوم الاحتلال ودخل المعتقلات الأميركية مع عدد من قادة حركته وتياره، بينهم هادي الدراجي وقيس الخزعلي الذي تمت مقايضة خروجه من السجن بالرهينة البريطاني بيترو مور عام 2007. ولهذا ظل الصدر يشعر بأحقيته للزعامة “الشيعية” عن غيره خصوصا مقابل حزب الدعوة، أما مع عمار الحكيم فلم يكن الصراع حادا مع أنه وريث الخلافات، كما انتزعت من الحكيم القوة المسلحة التاريخية المتمثلة بفيلق بدر الذي تزعمه في وقت مبكر هادي العامري الذي استقل وشكل قوة سياسية دانت بالولاء لنوري المالكي في الانتخابات السابقة، واختط له طريقا متميزا في ما بعد احتلال داعش للعراق (يونيو 2014) إلى جانب الفصائل المنشقة عن الصدر (العصائب) وغيرها، وشكلت أخيرا الحشد الشعبي بانتظار الموسم الانتخابي الذي يبدو أنه مبكر جدا لانتخابات العام 2018 والتي تروج احتمالات تأجيلها بحسب معطيات الحراك السياسي الشيعي.
المثال الأقرب لخلافات الصدر مع الحكيم ما حصل في أوائل يونيو من هذا العام من خلاف حاد بينهما في اجتماع كربلاء حول حكومة التكنوقراط التي تبناها الصدر كمشروع للإصلاح في ظل تظاهرات الجمهور الشيعي ضد الفساد الحكومي والحزبي. وظهر موقف عمار الحكيم المعارض للهياج الشعبي الذي قاده الصدر واقتحم مع جمهوره المنطقة الخضراء وباحة البرلمان نهاية أبريل الماضي. لكن الخلاف السياسي الكبير هو بين المالكي والصدر. فلماذا يتأجج هذا الصراع اليوم؟
القصة ببساطة هي التنافس على زعامة الشارع الشيعي، بين المالكي والصدر، وهذا التنافس لا يحدث داخل البيت الشيعي الذي قاد الانتخابات البرلمانية خلال العشر سنوات الماضية، ولا يحصل بين حركات وأحزاب في المعارضة لا يتأثر بها الواقع السياسي. إنه يحصل بين أحزاب يجمعها الحكم وقيادة العراق في أقسى ظرف يمر به بعد مسلسل الفشل والفساد الذي أدى إلى إفلاس خزينة الحكومة، وإلى تعرض البلد لاحتلال عصابة متطرفة، داعش، أصبحت لها سمعة عالمية بخطورتها الإقليمية والدولية بعد احتلالها للعراق.
فأمام كل المعطيات التي يطرح الصدر نفسه من خلالها لهذه الزعامة، يجد نوري المالكي أنه الأقدر والأكفأ لصالح الشيعة لشعاراته ومشروعه السياسي على الرغم من الإخفاقات الهائلة التي حصلت خلال فترة حكمه والتي يلعب عليها الصدر في صراعه معه واتهاماته للمالكي بأنه “باع العراق وأنه مسؤول عن مجزرة سبايكر”.. إلخ.
يشعر المالكي بأنه يقود حزبا شيعيا لكنه براغماتي لديه المرونة للتعامل مع وقائع العراق محليا وإقليميا، وقادر على اللعب في العلاقة ما بين طهران الأيديولوجية وأميركا المحتلة وما بعد المحتلة.
كما يجد المالكي أنه قادر على تكوين تحالفات سياسية ينشئها هو من بين العرب السنة والأكراد. ففي الوقت الذي يضرب بقوة على زعامات سنية مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي وحتى أثيل النجيفي، فإنه يسوّق لشخصيات من الخط الثاني سميت “سنة المالكي” خلال ترؤسه للوزارة الماضية وحاليا، وفي الوقت الذي يضع مسعود البارزاني في خانة الخصوم، فإنه يقيم علاقات وثيقة مع الاتحاد الوطني الذي تتقاسم زعامته اليوم زوجة جلال الطالباني من جهة وبرهم صالح وتكتله الانشقاقي عنها من جهة أخرى. بل إنه لا يرتاح لتحركات عمار الحكيم مع البارزاني ونشاطه ببناء تحـالفات معـه ومع إياد علاوي.
المالكي يعتقد أنه قادر على بناء ترتيب جـديد لا يخرج عن ثوابت المحاصصة الطائفية ولكن بطريقة “التسيّد” وفق “الأغلبية السياسية” التي تجمع فريقا من المكونات العربية السنية والكردية والتركمانية بقيادته كرئيس لحزب الدعوة، والتعامل المرن مع قوى الحشد الشعبي الجديدة حيث يعتقد أن هو وراء ولادته، أي إعادة إنتاج قيادة الحكم.
ولهذا فهو لا يميـل إلى ما تسمى “التسوية التاريخية” التي يسوّقها عمار الحكيم. المالكي يعتقد أن لديه أدوات مسلحة تعـوّضه عن الميليشيـات المسلحـة التي يمتلكها كل من الصدر وعمار الحكيم. ولهذا فإن نشاط نوري المالكي على مستوى الجمهور الشيعي قد يكون سابقا لأوانه في ذهابه إلى محافظات الناصرية والعمارة والبصرة بعد الحلـة وبلـدته طويريج، في وقت يعتقد الصدر أن تلك المحافظات هي له، وسبق أن حدثت مصادمات في البصرة بين جماهير الحكيم والصدر في العام الماضي.
ولهذا وفي سياق خارج عن السياسة في صدام الشارع حصل ما حصل في تلك المحافظات بالتصدي لفعاليات المالكي الجماهيرية قبل أيام. مما دفع في ذات السياق إلى إصدار حزب الدعوة لبيانه الهجومي وتوعده بـ“صولة فرسان ثانية” تذكيرا بصولة الفرسان العسكرية التي قادها المالكي ضد أتباع الصدر من جيش المهدي في مارس من العام 2008، مما فتح الأبواق الإعلامية لكلا الزعيمين لملاسنات لا علاقة للجمهور العراقي بها.
هذا الجمهور الذي ينتظر الانتصار على داعش، للتفرغ إلى حملة إعمار المدن المهدّمة، واستحقاقات عودة النازحين إلى ديارهم، وإلى الكثير من المطالبات التي ستواجه حكومة حيدر العبادي الحالية، والحكومة المقبلة في العام 2018 في وقت يُرغم فيه الموظفون على الإجازات الإجبارية لأربع سنوات، تخلصا من الاستقطاعات الحالية، وإلى عودة الأمن للبلاد وفي خضم هذا المشهد التعبوي المحتدم بين المالكي والصدر، لا يقدم مشروع “التسوية التاريخية” لعمار الحكيم أي حلول جدية لأزمة العراق السياسية.
هو مشروع فاشل للإذعان الطائفي لم يحصل على توافق تام داخل البيت الشيعي نفسه، الذي يضعه المشروع في مكانته التقليدية لقيادة الحكم في العراق. وطرح الحكيم لهذا المشروع هو محاولة منه لتأكيد وسطيته في ظل استقطابات التطرف واللعب على الشارع الشيعي. الحكيم يحاول النأي بنفسه عن المعركة الحالية المحتدمة بين المالكي الذي يجد نفسه يمتلك الكثير من الأسلحة السياسية والميدانية، وبين مقتدى الصدر الذي يعتقد أن جمهوره هو أكثر من الرافعين للواء محاربة الفساد والفاسدين.
نوري المالكي سيستمر في شوطه ولن ينزع أسلحته لصالح الصدر. من يتزعم الشارع الشيعي بعد انتهاء معادلة الشراكة داخل أحزاب السلطة جميعها، وبينها وبين سياسيي العرب السنة الذين يتوالدون الانقسامات في كل يوم، أحداث ما بعد داعش ستجيبنا.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية