تردد صدى عبارة «ليس مرة أخرى» الجوفاء في الفراغ العالمي، مع سقوط مدينة حلب السورية في أيدي القوات الحكومية الموالية لرئيس النظام بشار الأسد. بلغ الحصار الوحشي، الذي استمر لسنوات، منتهاه مع النهاية الدموية التي أشرف عليها: القوات الجوية الروسية، وقوات الصدمة الإيرانية، ومقاتلو الميليشيات الإقليمية المتنوعة. ومع الرثاء الذي نعده لقتلى وضحايا حلب، علينا الاعتراف بتواطؤ الولايات المتحدة الأميركية في هذه المأساة. يتحدث الرئيس باراك أوباما عن الحاجة إلى «الإشهاد» على الظلم والعدوان. غير أنه لم يفعل الكثير من أجل حلب. على أي شيء ينبغي أن نشهد؟ على استخدام القنابل الذكية في قصف النساء والأطفال، والمستشفيات، والمخابز، ومراكز المساعدات، والقوافل الإنسانية. أم على تطوير وتعميم استخدام البراميل المتفجرة، وهي براميل النفط الفارغة والمعبأة بالشظايا والمتفجرات الشديدة، والملقاة بصورة عشوائية من الطائرات لتقتل وتشوه الكثير والكثير من المدنيين بقدر الإمكان؟ أم على تكتيك متابعة الضربات الجوية المستهدفة لاغتيال عمال الإغاثة، مثل أصحاب الخوذات البيضاء، الذين ينطلقون إلى مكان الحادثة لإنقاذ الأبرياء؟ والآن، إلى الآلاف من اللاجئين الذين يملأون الحافلات متدفقين فرارًا من حلب، وعشرات الآلاف الذين بقوا هناك تحت رحمة نظام الأسد وحلفائه من الروس والإيرانيين؟ لقد كان أوباما شاهدًا على كل ذلك، والمزيد، ولم يفعل شيئًا لوقفه. كما كان الحال مع الفظائع السابقة، أثار دمار حلب كثيرًا من المناقشات الراقية ووهم العمل! الاجتماعات اللامتناهية في قصور جنيف وفيينا المذهبة وغيرها من الأماكن الفاخرة. الخطوط الحمراء التي تُفرض ثم تنتهك من دون عواقب أو عقوبات. وبيانات وتصريحات من شاكلة: «هل ينبغي علينا حقًا قبول فكرة أن العالم عاجز في مواجهة رواندا، أو سربرنيتسا؟» كما سأل الرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2013. وتابع قائلا: «إن كان هذا هو العالم الذي يريد الناس العيش فيه، فيجب عليهم أن يقولوا ذلك، وليهدأ روعهم بمشاهد المقابر الجماعية الباردة في كل مكان». هذا التقدير أصبح بين أيدينا الآن. والمقابر الجماعية ماثلة أمام أعيننا، ولسوف يتردد اسم حلب عبر التاريخ، مثلما يتردد صدى رواندا وسربرنيتسا، كشاهد على فشلنا الأخلاقي والعار الأبدي الذي لحق بنا. حتى في الصراع الذي خلف نصف مليون قتيل، وخلق أسوأ أزمة للاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية وخلق الجيش الإرهابي لتنظيم داعش… حتى في خضم كل هذا الرعب والفساد، تقف حلب صامدة. ربما تكون حلب قد سقطت، ولكن الحرب في سوريا أبعد ما تكون عن النهاية. ومن المرجح أن تزداد سوءًا إثر اشتداد القتال بين الأطراف المتصارعة – نظام بشار الأسد، وإيران، وروسيا، وتركيا، والأكراد، والمجموعات المسلحة، وغيرهم – حول ما تبقى من جثة سوريا المهلهلة. ولا يزال هناك خيار أمام الولايات المتحدة الأميركية. فكلما طال أمد الانتظار للمساعدة في إنهاء الحرب، ازدادت خياراتنا المتاحة سوءًا. ولكن لا ينبغي لأحد أن يصدق أنه ليس لدينا خيار آخر. يجب أن نعترف بأن لدينا سهمًا لما يجري في سوريا. ولا يتعلق الأمر فقط بمعاناة الآخرين، كما تبدو الصورة الآن. بل إن الأمر يتعلق باعتبارات الأمن القومي للولايات المتحدة: إن إعادة إحياء تنظيم القاعدة في سوريا يؤثر علينا. وصعود أكثر التنظيمات الإرهابية تطورًا في العالم يؤثر علينا، كما رأينا في باريس وفي سان برناردينو بولاية كاليفورنيا. وأزمة اللاجئين التي تزعزع استقرار حلفائنا مثل إسرائيل والأردن، وتهدد أسس الديمقراطيات الغربية، تؤثر كذلك علينا. كما يجب علينا الاعتراف بأن بشار الأسد، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، لن يكونوا أبدًا من شركاء مكافحة الإرهاب الذين يمكن الاعتماد عليهم. بل في حقيقة الأمر، العكس هو الصحيح. النظام السوري، وروسيا، وإيران لا يحاربون تنظيم داعش في سوريا. بل إن عمليات الذبح العشوائية بحق المدنيين السوريين هي التي خلقت الظروف الملائمة لظهور تنظيم داعش. والحصار الدموي لحلب سوف يكون مكسبًا غير متوقع للتطرف والتجنيد الإرهابي. والاعتقاد بأننا يمكننا تدمير تنظيم داعش بالدفع بقواتنا إلى جانب أولئك الذين يعززون من مواطئ قدم التنظيم في كل يوم هناك، لهو من الأوهام الخطيرة للغاية. وأخيرًا، علينا الاعتراف بأن إنهاء الصراع في سوريا لن يكون ممكنًا حتى يدرك بشار الأسد ومؤيدوه الأجانب أنهم لن يمكنهم تحقيق النجاح عسكريًا. ومن دون الوقوع في أخطاء: إن النجاح العسكري هو ما يحاولون فعلاً تحقيقه. إن سقوط حلب سوف يدفعهم لتوجيه أسلحتهم إلى أهداف مقبلة في سوريا. علينا تذكر حكمة وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز: «الدبلوماسية التي لا تدعمها القوة، لن تكون ذات أثر فعال في أحسن الأحوال، وهي دبلوماسية شديدة الخطورة في أسوأ الأحوال». ولأن الولايات المتحدة لن يمكنها القضاء على كل مأساة في العالم، لا يعفينا ذلك من مسؤولية استخدام قوتنا العظمى في إنهاء أسوأ حالات الظلم والعدوان، حيث يمكننا ذلك، ولا سيما أن فعل ذلك من شأنه أن يفيد مصالحنا، ويجعل أمن الولايات المتحدة وأمن شركائنا أكثر رسوخًا ومتانة. لا يتحتم علينا أن نتحول إلى شرطي عالمي من أجل الدفاع عن مصالحنا. ولكن ليس بوسعنا حجب أنفسنا بعيدًا عن الفوضى التي تعم عالمنا الخطير. وإذا ما حاولنا، فإن عدم الاستقرار، والإرهاب، والدمار الماثل في قلب تلك الفوضى سوف يجد في نهاية المطاف طريقه إلى شواطئنا وأراضينا.
جون ماكين
صحيفة الشرق الأوسط