كما كان البعدُ الأمنيُّ هو الأكثر سطوةً من بين سائر الأبعاد، وَفْق ما جاء في نشراتٍ سرِّية خاصة بحزب البعث، نشرها نيقولاوس فان دام، في كتابه “الصراع على السلطة في سوريا”، وتحدثت عن وصاية الجيش على الحزب، ظاهرةٌ اتضحت منذ البدايات، ولم تفلح آلياتُ الحزب في كبح سيطرة المؤسسة الأمنية، ولعلَّ أكبر شاهدٍ على ذلك طريقةُ المعالجة الدموية للمطالبات الشعبية بالإصلاح؛ الأمر الذي عسكَر الثورة، ورفع سقف المطالب إلى إسقاط النظام، ببنيته الأمنية.
هذا البعد الأمني سيكتسب بعداً وطنيا وقوميا، بتكريس خطابٍ رساليٍّ، قائم على مركزية دمشق في الأمة العربية، قلب العروبة النابض، ولم يكن ذلك من دون ركائز فعلية، الاهتمام الجِدّي باللغة العربية والتاريخ العربي، في السياسة التعليمية، وفي الخطاب الثقافي والإعلامي.
وأخيراً، اعترف بشار الأسد بـ “فشل أخلاقي واجتماعي، وفشل على المستوى الوطني”، كشفت عنه الثورة، وهو فشلٌ يُظهِر محدودية تأثير حزب البعث، برسالته وأفكاره في المجتمع السوري، على الرغم من أنه مضى على تأسيسه أكثرُ من 70 عاما، (تأسَّس عام 1940) ومضى على استحواذه على السلطة والمجتمع أكثرُ من 50 عاماً (وصل إلى السلطة عام 1963) لم يتمكَّن من صَهْر الشعب السوري في بوتقته، بقدر ما جمَّد تطوُّر المجتمع، بالخوف، حين الصمت لم يكن علامةً للرضا.
بين الصورة والواقع
لا تطابُق بين بنية النظام وشعاراته، ولا بين خطابه الفكري وهيكليَّته الحقيقية، ولعل مِن أوضح الأمثلة على ذلك أنْ يُفصَّل الدستور على مقاس بشار الأسد؛ (حين عدَّله مجلسُ الشعب
السوري، بإجماع أعضائه؛ لخفض الحدّ الأدنى لعمر الرئيس من 40 عاماً؛ ليصبح 34 عاماً، عمر بشار آنذاك) ليَخْلُف والده، بعد أن خذل الموتُ حافظا في ولده المُعَدّ للحكم، وهو باسل، عام 1994، وقبل ذلك أنْ يُصار إلى التوريث، في أول دولة عربية نظام الحكم فيها جمهوري.
وبما أنَّ بين الأهداف والوسائل علاقة متبادلة ومتفاعلة، فالهدف يتطلَّب وسيلته، وأرضيةً تناسبه، صلابةً، وديمومةً، والوسيلة تتأثَّر سلباً أو إيجاباً، ضعفاً أو قوَّة، بحسب الاقتراب من الهدف، أو الأثمان والأعباء التي قد تعمل على تآكُل الوسيلة، أو تعطيلها، ما الدور الذي أناطه مؤسِّسُ هذه السلطة الأسدية بنظامه؟
داخلياً واقتصادياً، رفع شعارات اشتراكية، مع أنَّ مآله كان مزيداً من تركُّز الثروة في أيدي مقرَّبين من الأسد. وفي المقابل، تمكَّن من إنجازات اقتصادية، لعلَّ مِن أبرزها سياسةً أقرب إلى الاكتفائية، والاستغناء في بعض السلع الحيوية، أو “الاستراتيجية”، منها القمح والقطن. وأما التصنيع فقد ظلَّ يغلب عليه التعثُّر والفشل.
وانعكس هذا التكوين المُلفَّق في ارتجاليَّة القرارات، كما أفضى ذلك، أو تعايَش مع الفساد والرشى التي أضحت أمراً اعتياديا، أو امتيازاتٍ يتمتَّع به كلُّ المتنفذين، ومَن حازوا مراكز تمكِّنهم من ابتزاز المواطنين. مع أن مشروعات عُدّتْ عظيمة، على صعيد الإنتاج الزراعي والطَّاقَوي، وفي مقدمها سدُّ الفرات الذي شكّل “بحيرة الأسد” (ولا تعدم التسمية دلالات متعالية فردانيَّة) لم تخلُ من آثار سلبية، ليست هيِّنة، ولم ترتقِ بسورية إلى إنتاجيةٍ منتظمة، غير مُعرَّضة للتذبذب المتأثِّر بعوامل المناخ والطبيعة. وعلى الصعيد التعليمي، كانت مجانية التعليم إيجابيةً، لا يمكن نكرانُها، لكن التعليم ومُخرجاته تحتاج إلى تضافر سائر العوامل التكوينية للنهوض.
وعلى المستوى الفكري، كان النظام البعثي يرفع شعارات الاشتراكية والعلمانية، مع أن الطائفية السياسية كانت تسري في عصب الدولة والجيش، ومع أن الدستور نَصّ (2012) على أن “الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسيٌّ للتشريع”؛ لنرى عمق التناقض بين النصِّ والمواقف، والتلفيق في خطاب “الدولة”.
والهدف الذي كان النظام يعلن اشتباكه به، هو دعم “المقاومة” جزءاً من الإطار الأوسع، وهو “الممانعة”، وتحديدا بعد اعتماد حزب الله، (بعد أن تنازع وحركة أمل) الذي اختزل المقاومة في نفسه، وترقّى في العُدَّة والعتاد والتدريبات إلى مستوىً طاغ، مكَّنه من إحراز نتائج فارقة ومفصلية، كما في تحرير الجنوب اللبناني عام 2000.
مع أن النظام نفسه كان، عقوداً، موضع تساؤلاتٍ، وأحيانا سخريةً، من تلك الشعارات التي
حفظها العرب، عن الردِّ المناسب في الوقت المناسب، والعمل على “التوازن الإستراتيجي” مع العدوِّ الصهيوني، ومع أن فتكه بالفلسطينيين في لبنان لم يكن يصبُّ في تصليب قوى المقاومة، ولا سيما في الفلسطينيين، أهل القضية الأوائل، وهم الذين يمثلون رمزيةً مهمةً في استبقاء القضية الفلسطينية، والنضال الفلسطيني، مع فاعليةٍ مقابلة، وهي معاملة الفلسطينيين في سورية معاملةً أفضل من نظرائهم في لبنان، مثلا، من حيث منحهم حقوقا أكبر.
ولم تكن تغيب عن الأسد الأب، روحُ الواقعية، والدهاء والمناورة، والحفاظ على المسافات؛ استلهاما لـ “شعرة معاوية” التي أجاد تفعيلها داخليا، وضمنتْ له البقاء في بلد غالبيَّتُه من غير طائفته. كما أنه كان في السياسة الفعلية يتعاون جدياً مع السياسة الأميركية، كما في لبنان، وكما في حرب الخليج الثانية التي سُمِّيت عاصفة الصحراء (1990-1991)، لتحرير الكويت، وأفضت إلى إضعاف نظام صدام حسين في العراق، ندّه اللدود في البعثية والعروبة. كما أنه لم يرَ غضاضةً في الرضوخ للتهديدات التركية عام 1998، بإخراج زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، من سورية، تحت ضغوطٍ وتهديداتٍ تركية، هذه ملامح طبعت شخصية حافظ الأسد الذي حكم دمشق، قرابة 30 عاماً، وسط ظروف إقليمية بالغة الخطر، كان فيها رقماً صعباً.
وعوداً إلى مسألة الهدف والوسيلة، إنَّ الهدف (الممانعة والمقاومة، وهما مندمجان؛ كونهما يَصِلان بين أميركا وإسرائيل) لم يكن محدوداً، وإنْ بدا كذلك، في وقت من الأوقات؛ ذلك أنَّ استشراف آفاقه البعيدة ستجعله هدفاً إستراتيجياً، ومكلفاً، وخطيراً خطراً وجودياً، حين يحين الوقت دولياً، أو أميركياً، لتصفية القضية الفلسطينية، أو لحلولٍ تصفويَّة، فهل هذا الهدف، أو الدور، سيبقى لصيقاً وعميقاً بالدولة السورية، أم أنها ستفي به، بمقدارٍ لا يتعارض مع بقائها. وهنا، قد تُجحِف الظروفُ؛ حتى يكون بقاءُ النظام السوري معادلاً لاستبقاء الدعم، أو المعاداة، ولو المحدودة، للتطلُّعات الصهيونية، بتثبيت كيانهم في فلسطين كلها، من دون التراجع إلى حدود 1967، أو الانسحاب من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
والسؤال الجوهري، هنا، إلى أيِّ مدىً يستطيع أن يمضي مثلُ هذا النظام، بتلك النشأة المُخَلْخَلة، والخطاب المُلفَّق، والحالة الاجتماعية والاقتصادية غير الصُّلْبة، في اتجاه الممانعة والمقاومة؟ ولا سيما حين لا يكون هذا المُضيُّ ضارًّا بإسرائيل، ولكن يَلْقى معارضة جِديَّة، لا يحظى بموافقة من دول عظمى، وفي مقدمتها أميركا، وحتى روسيا.
الأرجح رجحاناً كبيرا أنّ النظام السوري، ولا سيَّما بعد الخضَّة العمودية والأفقية الواسعة التي تعرَّض لها، في الثورة التي لا تزال غير خامدة، لن يكون في وسعه المُضيُّ بعيدا، وفعليا، في اتجاه المقاومة والممانعة.
4 أسباب
من أبرزها أربعةٌ رئيسة، أوَّلُها الاختلالُ العميق في علاقة نظام بشار بشعبه: كانت الدولة في سورية، قبل الثورة، ضعيفةَ التمثيل، لمجموع مُكوِّنات الشعب السوري، ولكن خنادق البغضاء والثأريَّة لم تتعمَّق هذا التعمُّق بينه وبين غالبيةٍ من شعبه، من السُّنة، ومن غيرهم، ممَّن شعروا بتهميشٍ، أو تحجيمٍ، سياسي، وحتى اقتصادي، قبل الثورة، ولكنهم تجرَّعوا هذا الكمّ من العداوة التي كان يكنّها لهم النظام، تجرُّعاً، بعد الثورة. وأدرك النظام هذا، بعد أن مارس عمليات تطهير عرقي واسعة، بدأت في القُصير وحمص، وريف دمشق وغوطتها، ولا يبدو أن نهايتها في حلب. وفي خضمِّ هذا الاستبقاء المستميت تشرذمت سلطتُه، وانسحبت مساحاتٌ غير قليلة من بُسُطها من تحت قدميه؛ لتدوسَها أقدامُ الدبُّ الروسي، ولتفرش فوقها طهران سجَّادَها العجمي؛ فكيف يصلح هذا الشعب أن يكون قاعدةً للعمل الخارجي؟ وكيف يكون قوياً في الخارج، إذا لم يكن قوياً في الداخل؟ بل إذا كان خاويا هذا الخواء من الداخل؟
والسبب الثاني خضوعه الأكبر للتحوُّلات في السياسة الأميركية: في خلفية علاقة نظام الأسد
مع واشنطن توافقاتٌ وتعارضات، ولعلَّ مِن أهمِّ مرتكزات التوافق جنوحُ الأسد إلى البراغماتية، بقدر ما توخَّى الحفاظ على بقائه، هذه السِّمة التي سمحت باعتماده أميركياً في لبنان، ودفعت النظام إلى الدخول في التحالف الأميركي، إبَّان عاصفة الصحراء، كما جعلت واشنطن، ممثَّلة في مسؤولين استخباريين، تثني على دور بشار الأسد في ضبط الحدود مع العراق، عقب اشتعال المقاومة ضدها هناك، ومحاولات جهاديين التسلُّل عبر الحدود السورية؛ ما صبَّ في إنجاح السيطرة الأميركية على العراق.
وأما التعارضات فلعلَّ في صُلبها الموقف من إسرائيل، المتوازي مع دعمها حزب الله الذي كان مشتبكاً مع إسرائيل عسكرياً، مع أن دمشق سارت في خطواتٍ جِديَّة، عبر مفاوضاتٍ غير مباشرة تُوِّجت بما عُرفت بوديعة رابين (1994) الذي أدَّى مقتله (1995)، مع تطوُّرات أخرى، إلى وقف مفاعيلها. بيد أن المعارضة الصُّلْبة كانت في الكونغرس، وتمثَّلت في التصويت، بأغلبية 398 عضواً ومعارضة خمسة، في أكتوبر/ تشرين الأول 2003، في وقتٍ كانت الهيمنة فيه للجمهوريين، على ما عُرف “قانون محاسبة سورية”، ونصَّ على فرض عقوباتٍ على دمشق؛ بسبب دعمها الجماعات “الإرهابية” من لبنانية وفلسطينية، وطالب بتخفيض التمثيل الديبلوماسي لواشنطن في دمشق، كما دعا إلى خروج السوريين من لبنان، وهو ما تحقّق في مطلع 2005، بصورةٍ تنمُّ عن ضعف اعترى مكانة نظام الأسد، إقليمياً وعربياً.
إلا أن واشنطن، وقبل أن تنطلق شرارةُ الثورة، كانت تسير حثيثاً في تحسين العلاقة مع نظام الأسد، وأرسلت إدارة باراك أوباما سفيرها، روبرت فورد، إلى دمشق، عام 2010؛ تتويجاً لتعاونٍ علني جدي. وكان موقف إدارة أوباما، في بدايات الثورة، لا يدعو إلى رحيل الأسد، بل عدّته، وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، رجلَ إصلاح، مستندةً في ذلك إلى رأي الكونغرس، نافيةً التفكير في اللجوء إلى التدخُّل العسكري، على غرار ليبيا.
وإذا تبلورت سياسة أميركية في عهد الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، أقلَّ اقتراباً من إيران، على أقل تقدير، من دون الإضرار بعلاقات واشنطن بموسكو، فذلك سيصبّ في نزوع أكبر للأسد نحو إعادة تأهيل علاقته بأميركا، ولا سيما أن ترامب يعلن أنَّ أولوياته في المنطقة، وفي سورية، ستكون محاربة الإرهاب. في مقابل ذلك، أو ثمناً لذلك، لن يكون في مقدور الأسد أن يستمرَّ في سياسة عدائية لإسرائيل، ولو بدعم جزئيٍّ، ووظيفيٍّ لحزب الله في لبنان، ذلك أن ترامب يسلك سياسةً أكثر انكشافاً وحماسة، إلى جانب إسرائيل، وهي تتجه، حثيثاً، نحو يمينية دينية متطرِّفة، ولن يكون استهدافُها، من أيّ طرف، عملاً بعيداً عن وصف الإرهاب.
وهنا، يحاول الأسد استباق أيّ تحوّلٍ يُحدثه ترامب بالتأسيس على الفكرة المحورية التي أسَّس الرئيس الأميركي العتيد عليها رؤيته للمنطقة العربية، وأزماتها، مختزلةً في محاربة الإرهاب، يحاول الأسد ذلك بأن يجد له موقعاً في هذه الحرب، الأمر الذي يعني له مصلحة وجودية.
فإذا أراد الأسد، بعد كلِّ هذه الخسارات، أن يستعيد بعض بريقه، دولياً، فهو يدرك أنه لا بد له من واشنطن، لا سيما أن ترامب يصرّح بعزمه على تحسين علاقات بلاده بموسكو، وهو يعيِّن في فريق عمله شخصياتٍ أكثر توافقا مع موسكو وبوتين، كما يُفهَم، مثلاً، لا حصرا، من إعلانه عن ترشيح ريكس تيلرسون (تجمعه صداقة قوية مع بوتين) على رأس الدبلوماسية الأميركية، وزيرا للخارجية.
وممَّا يدفع الأسد إلى هذا التقرُّب من واشنطن ترامب، أنَّ الأخير أيضاً بدرت منه إشاراتٌ
مهمة إلى تقليص الدور الإيراني في المنطقة والإقليم، وَفق مَن يعيِّنهم في مناصب حسّاسة أيضا، وهم ممّن آمنوا بضرورة تحجيم الدور الإيراني، من أمثال الجنرال جيمس ماتيس الذي يرى في إيران أكبر تهديدٍ أمنيٍّ في المنطقة. وقد صرّح الأسد بأن ترامب “يمكنه أن يصبح حليفاً طبيعياً لدمشق، إذا كان صادقاً بشأن محاربة الإرهاب”، وذلك شرطه، إذا صحَّ له أن يشترط: أنْ ينخرط ترامب في محاربة جدية للإرهاب. ولا يهمُّ بعد ذلك، إن كال ترامب كلَّ الدعم لإسرائيل، واختار، كأوَّل الرقص، سفيراً إليها، ديفيد فريدمان الذي يرى المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، خلافا للموقف الأميركي التاريخي، قانونية، ويؤيِّد، كما عتاةُ اليمين الإسرائيلي المتديِّن، ضمَّ الضفة الغربية لإسرائيل، كما يدعو إلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ويؤيد أن تكون القدس عاصمة موحَّدة لإسرائيل.
ويجد الأسد توافقا وجوديا مع ترامب هذا، كما وجد توافقا، مِن قبله، مع بوتين الذي تطوَّرت علاقات بلاده بإسرائيل، وتكثف تنسيقُه مع نتنياهو، كما لم يكن من قبل.
ويتمثل السبب الثالث الذي يعوق نظام الأسد عن الذهاب في الممانعة إلى آمادها المحتملة، الحرب مع إسرائيل، في التغلغل الروسي في مفاصل الدولة، والتموضع العسكري الذي فاق تقييدات والده، حافظ الأسد، بعد التفاهم التسليحيِّ الروسيِّ السوريِّ الذي تبلور خلال عامي 1982و1983، إذ كان من نتائجه، كما كتب باتريك سيل، في كتابه “الصراع على الشرق الأوسط”، “وهكذا كان على الأسد أن يتخلَّى عن بعض حريته في العمل؛ كي يؤمّن الأسلحة والحماية التي يحتاج لها. فبينما احتفظ بسيطرته على القضايا التكتيكية والعملياتية، فقَدَ سيطرته على الإستراتيجية النهائية. فلقد أصبح تطلُّعه إلى التوازن مع إسرائيل هبةً من السوفيات الذين يمنعون ويمنحون”.
واليوم تفوَّق الولدُ على الأب، في هذا (السماح) الكبير لموسكو، بمكانةٍ فريدةٍ، لا تستبعد الاتفاق الروسي السوري السِّري الذي كشفت تفاصيله صحيفة واشنطن بوست الأميركية، (المُوقَّع في 26 أغسطس/ آب 2015)، نقلا عن موقع حكومي روسي، ويفتح باب الأراضي السورية على مصراعيه، أمام جنود القوات الجوية الروسية وأسلحتها، ويُحصِّن قواتِ الاتحاد الروسي من أيِّ متابعة، أو مساءلة قانونية، أو قضائية، كانت سورية، أم من أطراف ثالثة.
وبهذا، استطاعت موسكو أن تنتقص من السيادة السورية، بصورةٍ طردية، تناسبت مع حجم تدخلها، أو استنقاذها سلطة الأسد التي بدت قلقةً، وغير قادرة على الوقوف في وجه الجماعات المعارضة المُسلَّحة، كما لم تستطع ذلك، على نحو كاف، حتى بمساعدة حليفتها إيران والمليشيات الطائفية التي استقطبتها من الأقربين والأبعدين.
حصل ذلك التغلغل والانتقاص من السيادة السورية، بالتوازي مع تحسُّن مضطَّرد في علاقات روسيا مع إسرائيل، واتصالات حثيثة بينهما، وتنسيق متواصل، ومعلن مع رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو.
السبب الرابع ارتباك حزب الله. مَن تابع خطابات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، التي
كانت تتزايد وتتواتر مع احتدام القتال في سورية، أمكنه أن يلاحظ، بوضوح، كمْ تقلَّص حجمُ الحديث عن إسرائيل، لصالح خطاب يحاول مواكبة التحدّي الأكبر له، ميدانياً، في سورية، وفي قواعده، في لبنان، بعد أن أحدث تحوُّلا عمليا كبيرا في أولوياته، وتورَّط في الحرب الطائفية السياسية في المنطقة، والإقليم التي لا تبدو لها نهايةٌ قريبة، أو إشارات على انحسارها، بل تشير القرائن إلى تمدُّدها، وبعد أن لم يعد يتستَّر على تقديم ولائه الخارجي على استحقاقات الوطنية اللبنانية.
وفي الختام، إذا كان حافظ الأسد، الأب، استطاع الاحتفاظ بتلك المكانة، بفضل الخطاب القومي العروبي الرِّسالي، وبفضل الظروف العربية، والشعبية التي لم تكن ناضجةً لمثل هذا الزخم التغييري، بهذا الاحتشاد، والاستمرارية، وبفضل قدراته السياسية الخاصة، وبعض منجزاته الداخلية، فإن الأسد الابن، وهو الذي أُسقطت على كاهله حصاد عقود والده من الكبت السياسي، والقبضة الأمنية، من دون أن تتبلور شخصيته القيادية، أو العسكرية، في سيرورةٍ تسمح له بالسيطرة على مفاصل الدولة ومؤسستها الأمنية الصلبة، إن هذا الابن، بعد هذا المخاض التدميري الذي خاضه، أو خِيض، باسمه، لا يقوى، ولا تقوى الدولة المهشَّمة التي استبقاها، بلونٍ طائفيٍّ طاغٍ على اللون القوميِّ الذائب، على غير المقايضة في مناطق لم يكن دورُه السابق يسمح له بالمقايضة فيه. وإذا كان نظام الأسد يستطيع أن يَظهر ممسكاً بسلطة مطلقة، تمكِّنه من التفرُّد في أهمِّ القرارات، فإنه لم يعد، بعد الدخول الفعلي والسافر لروسيا، قادراً أن يفعل. وبعد هذا الفشل الذي أدخل الأسد فيه سورية، بإصراره على مقايضة استقلال بلاده وسيادتها، بحكمه، لن يكون في مقدوره أن يلعب أدوارا، ولا سيما ممانِعةً ومقاوِمةً، كالتي كان (يلعب) من قبل، هذا إذا لم يجد نفسه ملزماً على نزع ورقة التوت تماماً.
أسامة عثمان
صحيفة العربي الجديد