بدأ عمر الجبوري حياته المهنية كصحفي في النهاية العميقة للبركة مرة واحدة -تغطية القصة الأكثر خطورة في العالم على الإطلاق. كان مواطن مدينة الموصل البالغ من العمر 27 عاماً يعمل في العمل الاجتماعي مع النساء والأطفال، وشاهد في حالة من الصدمة مجموعة “داعش” الإرهابية وهي تستولي على مدينته في صيف العام 2014. وسرعان ما بدأ يشرع في العمل، وعمل متخفياً في الموصل لبناء شبكة من المصادر التي وفرت له معلومات عن حكم “الدولة الإسلامية” الوحشي في مدينته ومسقط رأسه.
كان الصحفيون مثل الجبوري هم مصدر العالم الوحيد للحصول على المعلومات عن الحياة في الموصل خلال العامين ونصف العام الماضية. وكشفت المواقع الإلكترونية مجهولة المؤلف، مثل “عين الموصل” لمحات من مدينة يطبق عليها “داعش” بقبضة من حديد، وأصبحت هذه المواقع تصف في الفترة الأخيرة القيود الجديدة التي فرضتها الجماعة الجهادية التي تكبح حركة المدنيين لمنعهم من الفرار إلى المناطق المحررة. وترسم روايات هذه المواقع صورة لمدينة يحكمها نظام استبدادي -واحد يمتلك مخيفة من عملاء المخابرات والشرطة، الذين يهدفون إلى السيطرة على كل جانب من جوانب حياة المواطنين، من الملابس التي يرتدونها إلى المعلومات التي يتلقونها.
خلال ثلاث مقابلات هاتفية، وصف الجبوري لمجلة “فورين بوليسي) وقائع عمله في الموصل التي تحتلها “الدولة الإسلامية”، وكيف أنه كاد يكلفه حياته تقريباً. كان يعمل أولاً مع الصحيفة العربية القومية “القدس العربي”، في نقل الجرائم اليومية التي يرتكبها نظام “داعش”. وبعد ذلك بدأ ببيع عمله لمحطة “بي بي سي نيوز”. بل إن “بي بي سي” أجرت معه مقابلة ذات مرة عن استخدام المجموعة للتعذيب وكيف حولت المناهج في المدارس لتشجيع العنف. وكان يتقاضى ما بين 200 و500 دولار عن المشاهد التي يقوم بتصويرها في الموصل، كما قال، و50 دولاراً عن كل تقرير مكتوب. وقال لمجلة “فورين أفيرز” أنه لم يكن يعمل من أجل تحقيق مكاسب مادية: “أنا في حاجة إلى المال لإعاشة نفسي.”
رسم الجبوري صورة لسكان يُضربون ويُكرهون على الإذعان من قبل “الدولة الإسلامية”، التي يشير إليها بالاختصار العربي سلبي الإيحاء: “داعش”.
وقال: “على الرغم من أن هناك نوعاً من المقاومة، فإنها ضعيفة جداً. كانوا يقتلون الأطفال والنساء وكبار السن… أي شخص يتحدث (بشكل سلبي) عن داعش، سوف يُقتل هو وعائلته.. لا أحد يجرؤ على الحديث عنهم”.
وضع عمل الجبوري صاحبه في مرمى نار “الدولة الاسلامية”. وفي العام 2015، أطلقت المجموعة حملة ضد الصحفيين في الموصل، وأصبح الجبوري أحد المطلوبين.
بدأ ضباط مخابرات “داعش” في إلقاء القبض على مصادره، كما قال، وبدأ الخناق يضيق ببطء من حوله. وأصبح الجبوري هارباً منذ ذلك الحين، منتقلاً من حي إلى آخر لتجنب القبض عليه. وفي 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، وبينما كان في جنوب مدينة الموصل، يتنقل من دون أي تحديد للوجهة، عندما أشار أحد السكان المحليين المتعاطفين مع “داعش” وأرشد رجال المجموعة إليه. وألقي القبض عليه بتهمة العمل مع “القنوات الأجنبية الكافرة”، وتم وضعه في سجن مؤقت في بلدة حمام العليل.
كان ذلك عندما بدأ التعذيب. وقال الجبوري إن جلاديه استخدموا الكابلات الكهربائية لصدمه. وفي بعض الأحيان، كما قال، كانوا يعلقونه مقلوباً رأساً على عقب من ساق واحدة ويجلدونه بالسياط، بينما يحاولون انتزاع اعترافات بأنه يعمل جاسوساً.
احتجز “داعش” الجبوري في منزل مكون من طابقين –وهو موقع لا يميزه شيء، فيما يفترض أنه لتجنب اكتشافه من قبل الطائرات من دون طيار والطائرات الحربية التابعة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. كانت النوافذ والأبواب موصدة، وتراوح زملاؤه السجناء بين الفتيان المراهقين ورجال مسنين بعمر 70 عاماً. وقد احتجز في زنزانة مع رجل واحد، متهم بالاتصال بالقوات الأميركية والعراقية لتزويدها بمعلومات عن “داعش”. وكان زميله في الزنزانة ضعيفاً جداً من التعذيب، حتى أنه ترتب على الجبوري أن يساعده في تناول الطعام وشرب الماء.
بعد 10 أيام، أرسل الجبوري للمثول أمام قاضي “الدولة الإسلامية”. ولم تكن هناك محاكمة، وإنما مجرد إصدار الحكم: حُكم على الجبوري بالإعدام.
مع ذلك، وحتى بعد توقيع مذكرة إعدامه، استمر آسروا الجبوري في تعذيبه. وفي إحدى المرات، كما قال، ألبسوه بذلة للسجن ونصبوا كاميرا كما لو أنها تُعد لتصوير عملية إعدامه. ثم وضعوا سكيناً على رقبته -فقط ليتوقفوا في اللحظة الأخيرة. ويتذكر قول أحد الجلادين: “كلا، سوف نؤجل هذا”. وأضاف الجلاد: “سوف نأتي غداً لنقتلك”. وفي مرة أخرى، كما يقول، أطلقوا النار من بندقية بالقرب من رأسي.
ويقول الجبوري: “إنهم ساديون ويتمتعون بعملية التعذيب. إنهم يحبون أن يجعلوا الضحية هادئاً ساكناً قبل أن يقتلوه.”
عندما شرع “داعش” في فقدان الأرض حول الموصل، بدأت الجماعة الجهادية بتفريغ سجن الجبوري عن طريق إعدام زملائه السجناء. وتشهد تقارير مستقلة عن القتل الجماعي على صحة هذه الرواية: فعندما حررت القوات العراقية بلدة حمام العليل في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر)، اكتشف الصحفيون مقابر جماعية تحتوي على جثث 100 شخص على الأقل.
كان الهروب هو أمل جبوري الوحيد. كان يعرف أن عدد الحراس في السجن قد خُفض إلى ثلاثة أو أربعة ليلاً، حيث كانوا يخشون أن تستهدفهم الغارات الجوية. وكان يعلم أيضاً أن الحمام في الطابق الأرضي فيه فتحة مصفاة للهواء –والتي تشكل ممراً ممكناً إلى العالم الخارجي. وعندما نقلوه إلى الطابق الأرضي بعد أن تم إعدام عدد من السجناء الآخرين، اغتنم فرصته.
قال: “شعرت: هذه هي؛ لا بد لي من الهرب. إذا بقيت، سوف أموت بكل تأكيد. لذلك سألت أحد حراس “داعش” عما إذا كان يمكنني استخدام الحمام، وعندما رأيت أن الفتحة مناسبة لهروبي … تمكنت من الخروج”.
مع ذلك، لم تكن محنة الجبوري قد انتهت عند ذلك الحد. كان القتال يستعر في الجنوب، مما جعل من المستحيل عليه مغادرة المناطق التي يسيطر عليها “داعش” من ذلك الاتجاه. وبدلاً من ذلك، عبر نهر دجلة عائداً مرة أخرى إلى مدينة الموصل، وعاش لمدة ثلاثة أسابيع في بيوت الأصدقاء لتجنب القبض عليه. ثم اشترى سروالاً قصيراً، وقميصاً طويلاً، وغطاء الرأس العربي التقليدي -الزي الذي يرتديه مقاتلو “داعش” في جميع أنحاء المدينة. ومتخفياً بملابسه على هذا النحو، تمكن من عبور الخطوط الأمامية جنوب شرق الموصل والوصول إلى الأراضي التي تسيطر عليها القوات العراقية.
يعرف الجبوري أنه محظوظ للغاية لأنه بقي على قيد الحياة. وقد سجنت “الدولة الإسلامية” العشرات من أصدقائه وزملائه، كما يقول. وفي كثير من الحالات، لا يعرف ما إذا كانوا قد لقوا حتفهم أو أنهم ما يزالون يقبعون في السجن.
على الرغم من أنه نجا، يعتقد الجبوري أن القصة الأولى التي غطاها كصحفي ربما تكون الأخيرة بالنسبة له أيضاً. وقد توقف عن إرسال التقارير، وهو خائف من العودة إلى الموصل. وحتى لو تم طرد “داعش” من مدينته، كما يقول، فإن من المرجح أن يتشبث العنف بالمدينة لسنوات، وهو مسكون بالقلق من التعرض للاضطهاد على أيدي الميليشيات الشيعية. ويحلم الجبوري بمغادرة العراق، لكنه وجد كل سبل الخروج مغلقة أمامه حتى الآن.
ويقول الجبوري: “بسبب هذا العمل، أصبحت حياتي في خطر كبير. لذلك، على الرغم من أن لدي شغفاً به، لا أعتقد أنني أريد أن أستمر”.
ديفيد كينر
صحيفة الغد