يعود الصراع التركي الإيراني لفرض النفوذ والهيمنة على سوريا إلى مراحل تاريخية قديمة، ولم يقتصر على السنوات الماضية، حيث نجحت إيران عسكريا في السيطرة على كل المناطق التي بيد النظام السوري، إلا أن التفاهم الروسي التركي حول إيجاد مخرج للأزمة السورية جعل تركيا في وضع أقوى رغم استمرار إيران في التأكيد على أن ميليشياتها لن تغادر سوريا.
ويرى محللون أن التنافس الحالي بين تركيا وإيران هو أحدث نسخة لصراع قديم تمثل في معركة بدأها سلفهما الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية من أجل التحكم في بلاد ما بين الرافدين، سوريا والعراق حاليا. في حين استمر التنافس إلى ما بعد تحولهما من إمبراطوريتين إلى دولتين وطنيتين، تمكنتا من حفظ السلام بينهما على مدى قرابة 200 عام.
وتسير تركيا وإيران في مسار تصادمي يعود في معظمه إلى تورطهما في الصراعات الطائفية المتفاقمة في المنطقة بوصفهما القوتين السنية والشيعية الكبريين في المنطقة، كما أن فشلهما في التعايش مع بعضهما البعض يمكن أن يقوض أو يحل الروابط المتينة التي نشأت بينهما في العقدين الماضيين حتى أن اقتصاديهما أصبحا متشابكين أكثر فأكثر.
ويبرز كيفية اختيار البلدين لاستخدام قوتيهما ومدى قدرتهما على تجاوز خلافاتهما أمران بالغا الأهمية لتحديد مستقبل الشرق الأوسط. إذا تركت الديناميات الحالية دون كابح، فهي ستسير نحو المزيد من سفك الدماء وتفاقم حالة عدم الاستقرار والمزيد من مخاطر حدوث مواجهة عسكرية مباشرة، وإن كانت غير متعمدة.
التدخل التركي في سوريا
يعد تدخل تركيا العسكري في سوريا والعراق، جزئيا، ردة فعل على التصور بأن إيران ما انفكت تنتهك مجال نفوذها التاريخي وخاصة في ساحة المعارك بحلب والموصل وحولهما بالقرب من حدودها الجنوبية.
كما يبرز هذا التدخل أيضا المحاولة الساعية لمنع حزب الوحدة الديمقراطي الكردي السوري، المنضوي تحت حزب العمال الكردستاني العدو اللدود لتركيا، من كسب المزيد من الأراضي.
ويتقدم المقاتلون السوريون المدعومون من الجيش التركي حاليا في اتجاه الجنوب بعد أن أزاحوا ما يسمّى بتنظيم الدولة الإسلامية من مدن جرابلس والراعي ودابق بالقرب من الحدود التركية باتجاه مدينة الباب.
ورغم أن هذه المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، فإنها تظل محل أطماع آخرين: حزب الوحدة الديمقراطية الكردي المدعوم من الولايات المتحدة يتقدم من الشرق، والجيش السوري والقوات المتحالفة مع إيران من الجنوب.
وادعى بعض المسؤولين بأن طائرة من دون طيار من صنع إيراني تورطت في قتل أربعة جنود أتراك في غارة جوية بالقرب من مدينة الباب في 24 نوفمبر، حيث بدا الخلاف بين البلدين ووكلائهما يزداد بشكل منذر بالخطر في وقت وصلت الثقة بينهما إلى أدنى مستوى.
وتؤوّل طهران سياسة تركيا بخصوص سوريا أساسا كنتيجة لمطامع عثمانية جديدة لاستعادة النفوذ وتقوية السنة الموالين للأتراك.
وفسر موقع إخباري إيراني التعاون التركي الروسي المتصاعد في سوريا بالسعي لنقل إيران إلى موقع المتفرج على مجريات الأحداث في هذا البلد العربي، وذلك وفق تحليل نشره موقع “تابناك” التابع لأمين عام مجلس مصلحة تشخيص النظام الإيراني، محسن رضائي.
ورأى التحليل أن دور تركيا يزداد بشكل مطرد في المحور الإيراني- التركي- الروسي، حيث “تحولت إيران إلى متفرج على المدرجات بعد الاجتماع الثلاثي لوزراء الخارجية (تركيا- إيران- روسيا) في موسكو”.
ولفت التحليل في هذا الصدد إلى أن التقارب التركي الروسي يمثل قلقا بالغا لدى حلف شمال الأطلسي “ناتو”، بحكم أن أنقرة من الأعضاء الدائمين فيه وخصوصا الولايات المتحدة.
وتابع “بتعبير آخر، الناتو يسعى إلى الحيلولة دون دخول تركيا في المحور الروسي، وفي ظل هذه الظروف يمكن لروسيا أن تعطي امتيازات أكبر للأتراك، وهذا يجعل تركيا أكثر قوة من إيران على طاولة المفاوضات”.
ولفت إلى أنه “في حال استمرار الوضع بسوريا على ما هو عليه، فإن إيران قد لا تستطيع حماية مصالحها في هذا البلد بعد كفاح 5 سنوات”.
التقارب الروسي التركي
يقول الباحث السياسي التركي فائق بولوط لـ”العرب” إن تركيا تحاول أن تنافس إيران ولكنها تتصرف في الملف السوري ضمن إطار التفاهمات مع روسيا، ولا تستطيع تجاوز هذه النقطة.
فأنقرة حريصة على عدم إزعاج موسكو. ويبدو أن تركيا وروسيا تسيران معا للتنسيق بينهما من أجل إيجاد حل شامل في سوريا بصفتهما ضامنتين لأطراف الصراع.
وأشار الباحث السياسي الإيراني سوران خدري في حديث “العرب” إلى أن تصاعد التصريحات السياسية من كلا الطرفين، التركي والإيراني، حول الوضع الراهن في سوريا وخاصة حول الهدنة، هو دليل على حدوث تغييرات داخلية في الساحة السورية بالنسبة إلى الدول الثلاث روسيا وإيران وتركيا.
ولا يعتقد فائق بولوط أن تركيا في نهاية المطاف تستطيع سحب كل النفوذ الإيراني من سوريا، هذا إن استطاعت إضعاف الدور الإيراني وتحجيمه فعلا.
ولفت إلى أن إيران محسوبة على الراعي الروسي بقوله “رغم ذلك نشاهد أن موسكو فتحت المجال للأتراك للتصرف لحد معين بخصوص إيران في سوريا، ولكن قد تتدخل روسيا لضبط التصريحات المتبادلة في حال تجاوزت السقف المقبول”.
بينما يرى الباحث الإيراني أن الوصول إلى رؤية واضحة حول مستقبل الدور الإيراني في سوريا في سياق التحالف الثلاثي، يتطلب الانتظار حتى تسلم دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بقوله “في اعتقادي سياسات الإدارة الجديدة في واشنطن بالاتجاه إيران تحدد مسار الدور الإيراني في سوريا”.
ويعتبر خدري أن سوريا تمثل منطقة نفوذ سياسية تاريخية لكل من روسيا وإيران وقد حدث تنافس بينهما على هذه البلاد منذ سنوات في فترة الاتحاد السوفييتي، إلا أنهما تعاونتا معا في السنوات الأخيرة ضد المعارضة السورية عسكريا.
ويضيف “لا نستطيع الجزم بأن الروس يفضلون الدور التركي في سوريا على الدور الإيراني، لأنه كما نعلم، فإن الأحداث في سوريا تتغير بسرعة هائلة وأحيانا غير متوقعة، فخلال المعارك العسكرية كانت إيران هي الحليف الأول لروسيا ولكن مع بدء المعركة السياسية أضحت تركيا هي الحليف الأول”.
وفي المقابل يؤكد الباحث التركي أن التنافس التركي الإيراني في سوريا لا يشير إلى تغلب طرف على آخر في المدى المنظور.
ويقول الباحث في الشأن الإيراني، والمحلل في مجموعة الأزمات الدولية علي فائز “إن مسؤولا إيرانيا في الأمن الوطني أخبره بأن الشيء الذي تغير في سوريا بعد بداية الحرب الأهلية ليس طبيعة الحكومة ولا علاقات طهران بها، بل المطامح التركية.
زيادة على ذلك تلوم إيران تركيا على عدم وقف تدفق الجهاديين المتوجهين إلى سوريا عبر الأراضي التركية وعلى منحهم الدعم اللوجيستي والمالي”.
توترات طائفية
اتهم مسؤولون في أنقرة إيران بمساعيها الرامية إلى إعادة إحياء النسخة الشيعية من الإمبراطورية الفارسية القديمة. ففي مارس من العام 2015 اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إيران بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق فقط لتحل محلها.
كما تقول تركيا إن تجنيد إيران للميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وأفغانستان لحماية حكم طائفة العلويين الأقلية على غالبية سنية في سوريا، زاد في التوترات الطائفية ومنح المتطرفين السنة أداة تجنيد قوية.
وفي معرض تبادل للاتهامات، كان كل جانب ينتقد رفض الجانب الآخر الاعتراف بنظرته للواقع، وفي الوقت ذاته يتجاهل حقيقة أن كلا منهما يتصرف بطرق يعيبها على الآخر، بما في ذلك استخدام قوات عسكرية في حروب خارج حدودهما ومساندة ميليشيات تهدف إلى السيطرة على ما يبرز على أنقاض الفوضى الحالية في سوريا والعراق.
وفي هذا الخصوص يلفت الباحث علي فائز في دراسة نشرتها مجموعة الأزمات الدولية إلى أن تركيا وإيران تحاولان البناء على المصالح المشتركة (هزم تنظيم الدولة الإسلامية أو على الأقل تهميشه وتعطيل صعود الأكراد السوريين الساعين إلى الحكم الذاتي)، لكن الشكوك العميقة في مطامح الطرف الآخر للاستفادة من الفوضى منعتهما من التوصل إلى ترتيبات يمكن أن تحد من التوترات.
صحيفة العرب اللندنية