ينطوي الجدل الجاري هذه الأيام بين واشنطن وموسكو على أبعاد متعددة لا تطال علاقة الولايات المتحدة بروسيا فحسب، بل تمسّ وجعا داخليا أميركا تتفاقم أورامه منذ صدمة انتخاب دونالد ترامب رئيسا في نوفمبر الماضي.
وفيما أفرج الشارع الأميركي غداة الانتخابات الرئاسية عن غضب حيال فوز المرشح الجمهوري على نحو لم تتوقعه مؤسسات استطلاعات الرأي، بدا أن الحزب الديمقراطي الذي كان غافلا عن مفاجأة صناديق الاقتراع ومستسلما لبلادة الاستطلاعات، لم يظهر ردّ فعل انفعاليا دفاعيا ولم يكشف عن علّة داخلية يعاني منها الحزب في آليات عمله وفي مضمون خطابه الذي ترك للمرشحة هيلاري كلينتون التعبير عنه.
تآمر الديمقراطيون لإبعاد بيرني ساندرز، منافس كلينتون لتمثيل الحزب، وقلقت النخبة الديمقراطية من خطاب ساندرز اليساري، والذي جسد من خلال أطروحاته الجديدة لعدالة اجتماعية في الفضاء الداخلي ولسياسة عدل وإنسانية في الفضاء الخارجي، حيث أثار قلق الحزب العريق من خطاب خارج التقليد الأميركي، وبالتالي خارج ذائقة الناخبين.
وفيما اعتمد الحزب الديمقراطي على المرشحة هيلاري كلينتون ابنة المؤسسات الأميركية وزوجة رئيس أميركي ديمقراطي سابق وزعيمة دبلوماسية واشنطن في ولاية أوباما الأولى، خرجت صناديق الاقتراع برئيس للولايات المتحدة يطل من خارج أي مؤسسات سياسية أو حزبية أميركية متسلّحا بخطاب جاف صادم لا يقيم حسابا لأصول وقواعد وقيم لطالما تبناها كافة المرشحين بكسل وبلادة.
لم يستفق الحزب الديمقراطي، لكن الرئيس الديمقراطي الحالي، باراك أوباما، لم ينم على هذه الهزيمة، وهو يسعى قبل أيام من رحيله إلى تنشيط مواسم لطم تفسّر الواقعة وتبرر الهزيمة.
ومنذ الصبيحة التي أعلن فيها انقلاب الأرقام لصالح دونالد ترامب معلنة فوزه بعقد البيت الأبيض للأربع سنوات المقبلة، توالت التصريحات وخُطّت المقالات وتراكمت الدراسات وراج الجدل والنقاش حول ما تكشفه النتائج من تبدل في الوعي العام الأميركي، وما تفرج عنه الواقعة من قيح كان يخفيه سلوك، بدا لافتا، لإدارتي الرئيس أوباما خلال 8 سنوات.
الطرف الثالث
في مضامين الجدل الأميركي الأميركي لم يتطرق أحد، ولم تتجرأ أطروحة، على اتهام العامل الخارجي بأنه وراء تحوّل الصناديق باتجاه ترامب.
ويندر أن تجد في ما كُتب وما قيل، حتى حدود الأسابيع السابقة، أي إشارة إلى هذا الدور المزعوم لروسيا في التأثير على مسار الانتخابات الأميركية الرئاسية.
ومع ذلك فإن سلاح الرئيس أوباما الوحيد لتفسير فوز من وعد بتفريغ قانون “أوباما كير” الصحي وبمنع المسلمين من دخول البلاد وببناء جدار مع المكسيك وبعهد تعاون مقبل مع روسيا وبصدام مع الصين، هو اتهام روسيا بشنّ هجمات إلكترونية شوّهت سمعة كلينتون وقوّضت من حظوظها بالفوز.
تعيب واشنطن على موسكو قيامها بأنشطة تجسس ضد الولايات المتحدة. ليس في الأمر أي جديد لافت، فروسيا والولايات المتحدة دولتان متخاصمتان ترثان عداوة أجهزة المخابرات منذ عهد الاتحاد السوفييتي وعصر الحرب الباردة.
ثم إن الولايات المتحدة نفسها لا تتجسس على الخصوم فقط، بل على الحلفاء دون خجل، في ما أفرجت عنه فضيحة التنصت الأميركي على هاتفي الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل. لكن الأمر في السياق الأميركي يتجاوز اختراقا أمنيا تقنيا تقليديا، فلـ “أميركا” حسابات أخرى من هذا الحصاد.
ليس أوباما من ينتفض ضد “انقلاب” الانتخابات الرئاسية. بدا أن كافة المؤسسات الأمنية التي أبدى دونالد ترامب استخفافا بها وتشكيكا في مصداقية تقاريرها أثناء حملته الانتخابية، تستنفر مفاعيلها لتدلي بدلو اتهامي مباشر لموسكو باقترافها محظورا معيبا، وهي في نفس الوقت تبلغ الرئيس الأميركي المقبل أن للأصوات التي أتت به إلى البيت الأبيض روائح عفن تنفخها رياح بثتها روسيا بأوامر مباشرة من زعيم الكرملين فلاديمير بوتين.
يتكتم تقرير المؤسسات الأمنية على المصادر وطرق الحصول على المعلومات، وهو الأمر الذي لن يؤدي إلى إقناع المشككين بنتائجه، لكنه ولأول مرة يعلن التقرير بوضوح أن الكرملين اتخذ موقفا منحازا وإن كان لا يسعى إلى إثبات أن بوتين غيّر نتيجة الانتخابات.
ولفت التقرير إلى أنه “من المرجح جدا أن يكون بوتين أراد تشويه سمعة كلينتون لأنه يتهمها علنا منذ العام 2011 بأنها حرضت على خروج تظاهرات ضخمة ضد نظامه في أواخر 2011 وبداية 2012” عندما كانت وزيرة للخارجية الأميركية. في الأمر ترجيح يشبه الاجتهاد بظاهرة ما زالت عصيّة على الفهم.
لرسائل أوباما ومؤسسات الأمن عدة أهداف:
* الأول، رسالة سياسية وأمنية تقليدية تفيد بأن روسيا خصم تقليدي يشن هجمات هدفها إيذاء الولايات المتحدة، وأن هذه الهجمات ترقى إلى مستوى الحرب، ولو أنها تتخذ شكلا إلكترونيا.
* الثاني، وهو ما عبّر عنه تقرير وكالة الأمن القومي أن روسيا لا تمسّ هذه المرة أهدافا روتينية عسكرية وأمنية واقتصادية، بل تعبث بالبنى التحتية للعملية الانتخابية المسؤولة عن إنتاج النظام السياسي برمته، وهنا مكن الخطر.
* الثالث، أن إجماع مؤسسات الأمن على أن هدف الاختراق الإلكتروني الروسي للنظام المعلوماتي للحزب الديمقراطي وحسابات المرشحة كلينتون الإلكترونية، كانت غايته دعم المرشح دونالد ترامب، من خلال كشف معلومات وملفات ورسائل إلكترونية تفقد المرشحة الديمقراطية شعبية، ما يقوي من حظوظ المرشح المنافس في الاستفادة من تحوّل أصوات المتأثرين بالحملة الروسية باتجاه من فاز بهذه الانتخابات.
يحذر تقرير واشنطن من أن موسكو “ستطبق الدروس التي تعلمتها” من الحملة التي أمر بها بوتين خلال الانتخابات الأميركية، من أجل التأثير على الانتخابات في بلدان أخرى وبينها بلدان حليفة للولايات المتحدة.
يشير التقرير إلى أن الحملة التي قادتها موسكو للتأثير على الانتخابات الأميركية جاءت في إطار “إستراتيجية اتصال” مستوحاة من الأساليب السوفييتية، من بينها “العمليات السرية، ووسائل الإعلام الرسمية، واللجوء إلى طرف ثالث ومستخدمين للشبكات الاجتماعية (…)”.
تنذر واشنطن العالم بأن الخطر الروسي على إنتاج السلطة ليس حكرا على الولايات المتحدة بل إن مفاعيله ستؤثر على الانتخابات في أوروبا، في فرنسا وألمانيا مثلا.
يختلف المرشحان المتنافسان الأكثر حظا حتى الآن، فرانسوا فيون ومارين لوبن، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة على أشياء كثيرة لكنهما، للمفارقة، متفقان على التعاون مع روسيا والإعجاب ببوتين.
فجأة تكشف هيئة حماية الدستور في ألمانيا (الاستخبارات الداخلية) أنها تمكنت في العام الماضي من اكتشاف هجوم إلكتروني على كمبيوترات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وأنها وجدت قرائن على صلة روسيا بهذا الهجوم.
طردت واشنطن 35 دبلوماسيا روسيا مستدرجة حربا دبلوماسية بين البلدين. لم ترد روسيا بالمثل. اعترف العالم بحنكة بوتين وحذاقته، وغرّد ترامب “كنت أعرف أن هذا الرجل ذكي”.
لكن رئيس الولايات المتحدة المنتخب فهم من رسائل المؤسسات الأمنية أن “أميركا العميقة” لن تكون طيّعة لنزواته الانتخابية، وأن سياسة واشنطن الخارجية لا ترسمها تغريداته على موقع تويتر.
المصلحة العليا
استمع ترامب لرواية المؤسسات الأمنية في اجتماع مغلق مع مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي أي” جيمس كومي، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان، ورئيس وكالة الأمن القومي الأميرال مايكل روجرز، ومدير الاستخبارات جيمس كلابر.
أسقط ترامب شكوكه السابقة بالتنويه بعمل أجهزة الاستخبارات الأميركية. وقال “لدي احترام كبير للعمل الذي يؤديه رجال ونساء” الاستخبارات، مقرّا باحتمال قيام روسيا بارتكاب الخرق الإلكتروني، واعدا، بهذه المناسبة، وبانتهازية بارعة، بالعمل على حماية البلاد من أي هجمات إلكترونية مقبلة.
في كلمات ترامب أن “روسيا والصين ودولا أخرى ومجموعات وعناصر في الخارج يحاولون بشكل دائم اختراق البنى المعلوماتية لمؤسساتنا الحكومية، ولشركاتنا وبعض المؤسسات مثل الحزب الديمقراطي، إلا أنه لم يكن لذلك أي تأثير على الإطلاق على نتائج الانتخابات”.
وتابع “كانت هناك محاولات قرصنة للحزب الجمهوري، لكن الحزب أقام دفاعات قوية ضد القرصنة، والقراصنة فشلوا”.
ما يهم دونالد ترامب هو التأكيد على أن فوزه شرعي لم يتأثر بعبث روسي مزعوم حتى لو كان هذا العبث مؤكدا. وما يهم أوباما الديمقراطي ومؤسسات الأمن الكبرى أن تلقي شكوكا حول”أميركية” التصويت لترامب ونقائه، والتلويح بأن رئيس الولايات المتحدة الجديد الذي سيتسلم الحكم رسميا في الـ20 من الشهر الجاري، “صنع في روسيا”.
يسجل أوباما على ترامب علامة معيبة، ويضيف “ما يقلقني هو إلى أي مدى رأينا الكثير من الجمهوريين أو المنتقدين أو المعلقين يظهرون ثقة أكبر بفلاديمير بوتين من ثقتهم بنظرائهم الأميركيين، فقط لأن أولئك ديمقراطيون”.
لكن أوباما الذي استخف يوما بروسيا حين وصفها بأنها “قوة إقليمية كبرى” قبل أن يصوّب ذلك لاحقا ويعترف بها قوة دولية كبرى، يقر من حيث لا يدري، من خلال الحديث عن هجماتها الإلكترونية ضد بلاده، بأنها (أي روسيا) أصبحت ندّا دوليا تستعيد ندية الاتحاد السوفييتي القديمة، وأن في المبارزة الشخصية بينه وبين بوتين، استطاع الأخير تسجيل انتصاراته حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. يستنتج أوباما الأمر ويتبرع بنصح خلفه “علينا أن نذكر أنفسنا بأننا في نفس الفريق. فلاديمير بوتين ليس في فريقنا”.
أمام هذه الحقيقة الجديدة التي تفرج عنها تقارير المؤسسات الأمنية الأميركية، ستقف الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب أمام خيارين؛ إما اعتبار روسيا دولة كبرى ذات نفوذ دولي يمثل تهديدا للولايات المتحدة والعالم الغربي، وبالتالي التمسك بدعوة الرئيس إلى الودّ مع فلاديمير بوتين واعتماد تغريداته أنه “من الغباء اعتبار التعاون مع روسيا خيارا سيئا”، وإما اعتبار أن روسيا هي كل هذا الرجس، والذهاب إلى مواجهتها على ما يدعو بوتين المنصرف، وعلى ما تميل إليه كل مؤسسات “أميركا العميقة”.
فحتى رئيس مجلس النواب الأميركي الجمهوري، بول راين، استغل صدور التقرير من أجل اتهام روسيا بالإقدام على “محاولة واضحة للتدخل في نظامنا السياسي”.
وفي محاولة لطمأنة المسؤولين الجمهوريين، اختار ترامب السناتور السابق دان كوتس (73 عاما) لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية.
وكوتس، السيناتور السابق عن ولاية إنديانا، واحد من ستة من أعضاء مجلس الشيوخ وثلاثة من مسؤولي البيت الأبيض، الذين شملتهم العقوبات الروسية ومنعوا من دخول الأراضي الروسية في العام 2014، وذلك ردا على العقوبات الأميركية ضد موسكو بعد عودة القرم إلى روسيا.
يعرف ترامب أنه لا يستطيع أن يحكم دون دعم المؤسسات الأميركية الكبرى، ولن ينفذ مضامين تغريداته دون الحزب الجمهوري الذي يمثله.
وحده هذا الحزب سيكون كابحا لشطط الرئيس ومصوّبا لانحرافاته بما يتّسق مع المعهود ولا يناقض مصالح اللوبيات.
معارضو دونالد ترامب في الولايات المتحدة يتساءلون بخبث: إذا كان ترامب يرى في التعاون مع روسيا مصلحة أميركية، فلماذا لا يعتبر الشيء نفسه مصلحة مع الصين؟ وربّ قائل في كواليس القرار في موسكو إننا لا نستحسن ود ترامب المفرط، ولا نريد لإعجاب الرئيس المنتخب بالرئيس الروسي أن يكون استفزازيا لذاكرة وذائقة الأميركيين، ذلك أنه “من الحب ما قتل”.
لملفات الأمن الأميركي ضد روسيا مفاعيل هدفها جعل مخاض أي تقارب بين ترامب وبوتين موجعا. قد يكون منطقيا أن ينفتح الرئيس ريتشارد نيكسون المنتخب دون تشكيك ولا جدل ولا مظاهرات على دولة خصم مثل الصين في أوائل سبعينات القرن الماضي، لكن الأمر سيكون عسيرا على رئيس “تدخلت موسكو” لفتح أبواب البيت الأبيض أمامه.
لكن دونالد ترامب نفسه يستطيع أيضا أن يتأبط ملفات الأمن هذه في أي محادثات سيجريها مع نظيره الروسي لعل الأخير يتفهم معوقات الودّ بينهما إذا لم يتنازل بوتين في هذا الملف ويتراجع في ذاك الميدان.
صحيفة العرب اللندنية