أن يعلُق المرء في زحمة السير الخانقة، هو شأن يومي في مدينة بغداد. وفي حين تم تخفيض عدد نقاط التفتيش بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وفي حين انخفض عدد الجدران الخرسانية في المدينة بشكل ملحوظ أيضاً، فإن الاختناقات المرورية ما تزال عصية على الوصف. ولا يساعد بطبيعة الحال أن يعمد الجميع إلى إطلاق أبواق سياراتهم. فثمة نصف مليون سيارة أجرة تجوب شوارع بغداد، وتنشر التلوث في الهواء وهي تبحث عن راكب محتمل. وقد تم تقديم مقترحات لمواجهة هذه المشكلة إلى السلطات –على سبيل المثال، إنشاء مواقف لسيارات الأجرة في أنحاء المدينة. لكن كل المحاولات المبذولة لمعالجة هذه المشكلة تبدو عقيمة.
في زياراتي التي قمت بها خلال هذه الرحلة إلى النجف وكربلاء وبابل وبغداد، يبدو أن معضلة الفساد المستشري هي التي تشكل مكمن القلق السائد. وفي كل هذه الأماكن، يشعر الشيب والشباب، بلا استثناء، بأنهم عالقون ومختنقون بهذا الواقع. وقد روى لي أحد الشباب كيف أن الرؤساء في مكان عمله زادوا رواتبهم بشكل استثنائي عن طريق تزوير الأرقام. وإذا اعترض أحد أو تحدث عن ذلك، فإنهم سيسرحونه من عمله في أفضل الأحوال.
يوم الاثنين في الأسبوع الماضي، تعرضت الصحفية عفراء شوقي القيسي للاختطاف من منزلها في حي السيدية في بغداد على يد رجال زعموا أنهم عناصر من الأمن. وكانت قد كتبت مقالة تعبر فيها عن الغضب من أن الجماعات المسلحة تتصرف بحصانة من العقاب.
سألت بلطف شابة من بغداد: “كيف تنهضين في الصباح؟ كيف تتدبرين أمورك؟”.
وأجابت الفتاة: “بلا أمل. كل صباح أستيقظ بلا أمل”. وللشابة أم مريضة تعيش مع القلق كل يوم في انتظار عودة ابنتها سالمة إلى البيت من العمل. وأضافت الشابة: “كل العراقيين يريدون الأمل، لكنهم مجبرون على العيش مع ظروف سيئة”.
وقال رجل لطيف كان جزءا من المحادثة أيضاً: “لن يكون هناك أي مستقبل لنا إذا بقينا صامتين”. ومع أنه فقد هو نفسه وظيفته بسبب انتقاد الفساد، فإنه يخشى على مستقبل أبنائه إذا لم تتم معالجة المشكلة. وهو يعتقد أن الحل لمشكلة الفساد يكمن في التعليم عن طريق ضرب مثال.
كان لي شرف زيارة أسرة لم نكن قد رأيناها منذ أكثر من ثلاث سنوات. وكانت كاثي كيلي قد عرّفتني بداية إلى هذه العائلة في العام 2002، وحاولنا أن نظل على اتصال على مدى سنوات. وبينما كان المساء يحل، سار البعض منا في شوارع الحي القديم حيث تعيش هذه العائلة وحيث كانت منظمة “أصوات” قد استأجرت شقة في العامين 2003-2004.
ذهبنا إلى موقع تفجير انتحاري مرعب كان قد وقع يوم 3 تموز (يوليو) 2016، على بعد مقطعين سكنيين فقط من شقة العائلة، وحيث كانت شقة “أصوات” أيضاً. كانت ليلة التفجيرات هي ليلة العيد، في نهاية شهر رمضان. كان الكثير من الناس في الخارج من أجل التسوق الأخير لهذه المناسبة. وكان الباعة المتجولون ينشرون بضاعتهم على الأرصفة، وكان الأطفال يأكلون البوظة في حرارة الصيف اللافحة. وكانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة ليلاً تقريباً. وحصدت التفجيرات أرواح أكثر من 300 شخص، الكثير منهم من الأطفال. كما جُرح أكثر من 200 شخص آخرون. وفي البناية السكنية التي يقيم فيها بعض أفراد هذه العائلة، فقدت ثلاث عائلات أطفالاً وأمهات وآباء وأخوات وإخوة في هذا الانفجار. وقد مررت باثنين من الناجين على الأدراج هذه الليلة.
جعلت أصدقائي الشباب يلتقطون صورة عبر الشارع لأحد مواقع التفجيرات. وغرقنا في الصمت ونحن ننظر إلى هذه الكتلة المسودة فوقنا. وبعد أشهر لاحقاً، ما تزال هذه المنطقة مغلقة بسياج مموج كما يظهر في الصورة. وعبر الشارع، ثمة بناية منسوفة أخرى. وفي كل مكان من حولنا يأتي الناس للزيارة، ويسيرون وينظرون إلى المشهد القاتم. وقالت لي صديقتي الشابة ونحن نسير يداً بيد: “من الجيد رؤية الحياة”. وكانت العربات المدرعة وسيارات الشرطة حاضرة أيضاً في هذه المنطقة.
كان مما آلمني خلال إقامتي في بغداد أنني لم أتمكن من الاتصال بعائلة أخرى نرتبط بها أيضاً بعلاقة وثيقة. وكنت قد كتبت بكثافة عن هذه العائلة، حيث هرب الآب والابن الأكبر إلى فنلندا قبل أكثر من سنة. وكنت قد أملت بأن أتمكن من مقابلة الأم وبعض الأولاد على الأقل، في مكان ربما يكون آمناً بالنسبة لهم. لكن ذلك لم يكن ممكناً، للأسف.
لا تمكن مقارنة فوضى بغداد بالهدوء والأمان النسبيين في كربلاء والنجف. وبينما أكتب هذا المقال، وصلتنا الأنباء المحبطة عن وقوع تفجير انتحاري مزدوج في سوق بغدادي هذا الصباح. وقد قتل في الانفجارين 28 شخصاً على الأقل. وكان الكثير من الضحايا أناساً تجمعوا قرب عربة تبيع طعام الإفطار عندما انطلقت الانفجارات.
وقال مصور من وكالة “فرانس برس”: “كانت الملابس الممزقة وقطع الحديد المشوهة تنتشر على الأرض في برك الدم في موقع التفجير قرب شارع الرشيد، أحد الشوارع الرئيسية في بغداد. وتغص المنطقة المستهدفة بالمحال التجارية والورش الصناعية وأسواق الجملة، وعادة ما تتجمع فيها شاحنات التوصيل والعمال اليوميون الذين يفرغون الشاحنات أو يدفعون العربات اليدوية في المكان… وكان من المتوقع أن تتجمع الحشود مساء السبت في شارع بغداد للاحتفال بالعام الجديد للمرة الثانية فقط منذ رفع حظر تجول دام عاماً كاملاً في العام 2015”. وكنتُ في شارع الرشيد بالأمس.
عندما كنت في بغداد، أقمتُ مع زوجين كريمين كانا قد أديا فرضة الحج في مكة العام المنصرم. وفي واحدة من محادثاتنا الكثيرة، سألني مضيفي بخبث: “أي من الأمور الأربعة التالية تعتقدين أنها أكبر خطيئة في الإسلام؟ السرقة، الزنا، شرب الخمر، أم الكذب”؟ فكرت في السؤال الذي لم أكن أعرف إجابته حقاً، لكنني استمتعت بالتمرين. وتبين أن الإجابة هي “الكذب”، ومن الغريب أنني خمنتُ الإجابة بشكل صحيح.
ولكن، عندئذٍ، كان غزو الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 مستنداً إلى الأكاذيب والخديعة. وقد قبل الكثيرون في الولايات المتحدة، من دون أي تحقيق مناسب -أو حتى فضول معقول- فكرة أن الولايات المتحدة سوف تقوم بتحسين الظروف القاسية التي يواجهها العراقيون العاديون في أعقاب غزو العام 2003. وفيما ينطوي على مأساة حقيقية، بعد أربعة عشر عاماً من ذلك، لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة من هذا الزعم. ومع ذلك، ينبغي أن نتساءل الآن، باهتمام حقيقي، عما سيواجهه العراقيون في العام 2017، وكيف يمكننا أن نقدم لهم بعض التعويض عن المعاناة التي تسببنا لهم بها.
كاثي برين
صحيفة الغد