يقوم اقتصاد العراق و«إقليم كردستان العراق» بشكل أساسي على الأرباح التي يجنيها من صادرات النفط، وهي تبعية عثّرت نمو القطاعات الأخرى. أما اليوم، ففي الوقت الذي تُعتبر فيه التنمية السياسية وأسئلة الحوكمة ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») قضايا جوهرية، كيف سيرسم، أو يعيق، أو يساعد اعتماد العراق و «إقليم كردستان العراق» على النفط، معالم الجهود المبذولة لمواجهة مختلف أنواع الشلل السياسي الذي عزز المشاعر المعادية للحكومة؟ هل تقوّض تبعية النفط محفزات الإصلاح؟
بلال وهاب: في النظام السياسي العراقي، للجميع مصلحة في بقاء الدولة وصمودها، وفي الوقت نفسه إبقائها ضعيفة أيضاً. فالسياسيون يدركون قواعد اللعبة هذه، ويتصرفون للأسف كما لو كانت هذه لعبة محصلتها صفر. وبما أن أي فرد لا يملك الوسائل العسكرية والاقتصادية اللازمة للسيطرة على البلاد وهو الأمر بالنسبة لأي جماعة – كما كان عليه الوضع خلال فترة حكم صدام حسين – فقد طوّرت الجهات السياسية الفاعلة ثقافة تقوم على إبرام الصفقات وغالباً ما تعمل مع خصومها في تحالفات مؤقتة وتعاملية.
وعلاوةً على ذلك، تسيّر السياسة العراقية أعمالها ضمن نطاق وسطي بين الشمولية والمنافسة. فمن جهة، هناك شمولية مفرطة بعض الشيء، حيث يسيطر كل حزب سياسي على وزارة أو [يتبّوأ أعضاءه] مناصب عالية في الحكومة. ومن خلال سيطرة هذه الأحزاب على وزارة ما، بإمكانها توجيه الموارد والأموال إلى خزائنها. ويريد السياسيون العراقيون الحفاظ على نظام الدولة هذا لأنه يسمح لهم بضمان التمويل والنفوذ. فهذا النموذج يؤدي إلى وجود دولة غير متمسكة بسيادة القانون، أو الحكم الرشيد، أو تقديم الخدمات؛ وإذا كان باستطاعة الدولة توفير هذه الخدمات لشعبها، فستضعف قوة الأحزاب السياسية نتيجة لذلك.
ولا يمكن تطبيق النظام السياسي الذي تم وصفه أعلاه إلا في اقتصاد ريعي حيث هناك مورد مثل النفط الذي يُعتبر إنتاجه رخيصاً نسبياً ويحقق عائدات كبيرة. وفي البلدان التي يهيمن عليها حزب واحد أو لديها لاعب وحدوي قوي، ستمكن الثورة النفطية – الريع – ذلك الحاكم من الحفاظ على السلطة والنظام من خلال مزيج من وسيلتين هما: استيعاب المجتمع عبر إغداق الإعانات عليه، والتعليم المجاني، والرعاية الصحية المجانية، والسخاء؛ وإخضاع الشعب بواسطة قوات الأمن ووكالات الاستخبارات ذوي التركيبة المعقّدة والمؤلفة من عدة طبقات وأقسام. ويتغيّر التوازن بين هاتين الوسيلتين تبعاً لسعر النفط ومستوى المعارضة للحزب الحاكم. على سبيل المثال، خلال الحرب الإيرانية- العراقية بين عامي 1980-1988، ضخ نظام صدام حسين كميات كبيرة من الأموال في الاقتصاديات المحلية لإسكات المعارضين بعدما ازدادت أعداد الشبان العراقيين الذين عادوا إلى وطنهم جثثاً هامدة. وعندما فُرضت العقوبات على العراق خلال تسعينيات القرن الماضي، كان النظام بالكاد يملك ما يكفي من الأموال لتبذيرها بسخاء على الأجهزة الأمنية التي وفرت له الحماية – وبالتالي استخدم تلك الأجهزة للضغط على بقية السكان لحملهم على الخضوع.
وقد تغيّر هذا النظام الوحدوي بعد عام 2003 ليصبح إطار عمل موسع ومتعدد الجهات الفاعلة (اللاعبين). وبقي النموذج الاقتصادي الأساسي كما كان عليه قبل الاطاحة بصدام، لكن برز الآن العديد من اللاعبين السياسيين الإضافيين الذين يتنافسون مع بعضهم البعض. وتتمثل الحسابات الأساسية في السياسة العراقية على النحو التالي: “ما هو المبلغ المالي الضروري للفوز في الانتخابات المقبلة؟” وتأتي هذه الأموال من عائدات النفط في خزانات الحكومة – ويمكن النفاذ إليها من خلال تبوؤ منصب وزاري على سبيل المثال. وفي نهاية المطاف، لكي يكون السياسي عضواً في الحكومة، فهو بحاجة إلى المال، ولكي يحصل على المال، يجب على السياسي أن يكون عضواً في الحكومة. وهذه الديناميكية – التي هي ذات طبيعة قصيرة النظر للغاية، وغير مستقرة، وتعاملية – هي التي تطبع السياسة العراقية أكثر من الانقسامات الطائفية أو الإيديولوجية أو العرقية. ودائماً ما تتمحور الجدالات السياسية على الصعيدين الوطني والمحلي حول مسألة حجم السيطرة الذي يتمتع بها فرد أو حزب على موارد الدولة. وعندما يتتبع المرء عن كثب مناقشات الميزانية في “مجلس النواب العراقي”، يصبح من الواضح أن المشكلة الرئيسية تكمن في اقتسام الإيرادات.
كيف يمكن للعراق ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية» الخروج من هذا النظام؟ تكمن الإجابة في إعادة صياغة مفاهيم القوانين المحلية وسياسات الدعم الدولية لبناء نموذج اقتصادي أكثر شموليةً. وسيبقى النفط المصدر الرئيسي لإيرادات الحكومة. يجب أن يتمحور الحديث الفوري عن وضع العراق ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية» حول كيفية بناء عملية أكثر إنصافاً لتوزيع العائدات عبر المحافظات والمناطق. على سبيل المثال، في «إقليم كردستان العراق»، يشكو الناس في محافظة السليمانية من عدم حصولهم على الأموال بقدر ما يحصل عليها نظراؤهم في العاصمة أربيل، التي لديها مستويات عالية من الاستثمار. وتُعتبر هذه المظالم الإجتماعية والاقتصادية بالغة الأهمية؛ وقد يكون من الممكن مواجهتها بجهوزية أكبر من الانقسامات الطائفية أو العرقية. ومن المهم الإستثمار في مؤسسات الدولة وتعزيز الحكم الرشيد، بدلاً من التركيز على الأفراد وشبكات المحسوبية.
ولا يمكن للعراقيين وحدهم تحقيق هذا الهدف، حيث يتطلب ذلك انخراط جهات فاعلة دولية مع مؤسسات الدولة في البلاد لتمكين البرلمان، أو النظام القضائي، أو مكتب نظام المدعي العام، أو النظام الانتخابي. ومن المفارقات أنه في عصر انخفاض أسعار النفط، هناك فرصة لتحقيق هذه الأهداف؛ وببساطة ليس هناك ما يكفي من المال في الوقت الحالي للحفاظ على نظام المحسوبية.
“بوست وور ووتش”: في 30 تشرين الثاني/نوفمبر، توصلت الدول الأعضاء في منظمة “أوبك” إلى اتفاق لخفض إنتاج النفط، الأمر الذي أدى الى ارتفاع أسعار النفط المتهاوية. ورغم أن العراق – الذي قاوم لفترة طويلة وضع أي قيود على انتاجه من النفط – قد وافق على شروط “أوبك”، إلا أن بغداد بقيت عاجزة نسبياً عن إرغام «حكومة إقليم كردستان» على الالتزام بها. وقبل الإعلان عن الاتفاق، كنتً قد كتبتَ عن هذا التحدي. ما هو النفوذ الذي تتمتع به الحكومة العراقية في أربيل على معدلات إنتاج النفط وتصديره، هذا إن وجد أساساً؟
وهاب: في البداية قالت الحكومة العراقية إنها لن تشارك في أي اتفاق تتوصل إليه منظمة “أوبك”، وكان يعني ذلك فعلياً أنه سيتم استثناء «حكومة إقليم كردستان» أيضاً. وفي الواقع، كان صنّاع السياسة في «حكومة إقليم كردستان» قد خططوا في وقت سابق من هذا العام زيادة إنتاج النفط للتعويض عن انخفاض الأسعار. لكن بغداد أخذت المراقبين على حين غرة عندما أعلنت عن انضمامها لاتفاق “أوبك”، وخفضها الانتاج. وكانت هذه خطوة ذكية – فالنفط هو من بين القطاعات الوحيدة التي يتصرف فيه العراق بشكل مستقل وواقعية. ومن جهة أخرى، لا تستطيع بغداد التأثير بشكل كبير على «حكومة إقليم كردستان». فالقادة الأكراد لم يكونوا حاضرين عندما تم إبرام اتفاق “أوبك”. واليوم ليست «حكومة إقليم كردستان» ملزمة بالتقيد بتعهدات “أوبك”. والأهم من ذلك، أن قطاع الطاقة في الإقليم الكردي مستقل عن بغداد. ففي كركوك، على سبيل المثال، اتفقت أربيل وبغداد على إدارة الإنتاج كشريكين متساويين. وحتى اذا كانت الحكومة العراقية تريد الالتزام بشروط “أوبك”، فلن يكون لـ «حكومة إقليم كردستان» الكثير من الحوافز للقيام بذلك – ويمكن أن تعمل وفقاً لرغباتها الخاصة. ومن الصعب القول أن أربيل قد تُفسد الاتفاق، ولكن قد تنشأ تعقيدات.
وإذا وضعنا جانباً جميع هذه الاعتبارات المتعلقة بمصالح «حكومة إقليم كردستان»، يظل من الصعب جداً على العراق الاتحادي تخفيض إنتاجه الخاص. إن الموافقة على المبادئ التوجيهية لمنظمة “أوبك” هو شيء ما، ومتابعة الشروط هو شيء آخر. ولدى كل جهة فاعلة في “أوبك” حافز للغش – كما هو موضح في تاريخ المنظمة. وينبغي أن تبدأ تخفيضات الانتاج في كانون الثاني/يناير 2017. وإذا خفضت السعودية انتاجها بالفعل، فسيحذو العراق حذوها. وإذا لم تخفضه، فسيكون من المستغرب أن تنفذ بغداد شروط الاتفاق بمفردها.
“بوست وور ووتش”: في 7 كانون الأول/ديسمبر، وافق البرلمان العراقي على ميزانية الدولة لعام 2017، والتي حجبت نسبة 17 في المائة من الأموال التي تُرسل عادةً إلى «حكومة إقليم كردستان» لدفع رواتب قوات “البيشمركة” وموظفي القطاع العام – مما أدى إلى رد فعل قوي من جانب أربيل. هل تؤثر خطوة بغداد على المنافسات القائمة في أوساط الأكراد بين الأحزاب السياسية في الإقليم – وكيف تؤثر سياسة الميزانية للحكومة العراقية على «حكومة إقليم كردستان» على الصعيدين الاقتصادي والسياسي؟
وهاب: من وجهة نظر «حكومة إقليم كردستان»، يتمحور جوهر الخلاف بين أربيل وبغداد بشأن الميزانية، حول السؤال عما إذا كان من الأفضل لـ «حكومة الإقليم» مواصلة السياسات المعتمدة منذ حزيران/يونيو 2014، أي بيع النفط الكردي العراقي مباشرة إلى المستهلكين – أو إذا كان تسليم النفط إلى “مؤسسة تسويق النفط الحكومية” (سومو) سيعود بفوائد أكبر مقابل الحصول على 17 في المائة من ميزانية العراق. وتتمثل وجهة نظر «حكومة إقليم كردستان» بأن بيع النفط بشكل مستقل سيؤدي إلى تحقيق عائدات أكبر لأربيل. غير أن الحكومة الكردية عجزت عن دفع رواتب موظفي القطاع العام – وهي أموال يُفترض أن تأتي من نسبة 17 في المائة المخصصة لها من ميزانية العراق. ورغم أن “قانون الميزانية الاتحادية” ينص على أن بغداد ستضمن رواتب موظفي «حكومة إقليم كردستان»، إلا أن أرقام أعداد الموظفين الفعليين في كردستان العراق تختلف بين «حكومة الإقليم» وحكومة العراق، مما يؤدي إلى تفاوت بين الطلب والمدفوعات.
وعلى الصعيد السياسي، يُعتبر الاستقلال الاقتصادي لـ «حكومة إقليم كردستان» إنجازاً لم يكن من السهل تحقيقه. والسؤال هنا إلى أي حد تكون «حكومة الإقليم» مستعدة للتخلي عن هذا المستوى من الاستقلالية، حتى لو كانت مثل هذه الخطوة ستعود بالفائدة على أربيل مالياً؟ وحالياً يعاني الاقتصاد الكردي [من صعوبات]، كما ترزح الحكومة تحت وطأة ضغوط هائلة من الاحتجاجات والإضرابات الشعبية من أجل منح النفط إلى العراق الاتحادي لقاء أموال الرواتب التي تشتد الحاجة إليها. وفي السليمانية، على سبيل المثال، يتظاهر المعلمون والإداريون بشكل منتظم بسبب عدم استلام رواتبهم، مما أدى بالتالي إلى عدم بدء العام الدراسي بشكل كامل في جميع أنحاء المحافظة. أما داخل «إقليم كردستان العراق» فقد حددت الانقسامات بين الأحزاب السياسية معالم الجدال مع بغداد أيضاً. فالأحزاب المعارضة الرئيسية بما فيها «حركة التغيير» (كوران) و«الاتحاد الوطني الكردستاني» تريد إبرام اتفاق مع بغداد من شأنه أن يسمح لها الإدعاء بأنها قد حلت مشكلة رواتب موظفي القطاع العام. ويردّ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» الحاكم على ذلك بقوله أن الحكم الذاتي الكردي هو إنجاز كبير يجب عدم التخلي عنه، وأنه عوضاً عن ذلك من المهم لأكراد العراق أن يحافظوا على الصبر خلال المحن الاقتصادية الصعبة ولكن المؤقتة.
لقد وضعت «حكومة إقليم كردستان» خطة لبلوغ الاكتفاء الذاتي الكامل في غضون عامين. وتحقيقاً لهذه الغاية، سيتعين على أربيل الحدّ من نفقاتها المالية. وسيتطلب النجاح أيضاً تعهّد «حكومة الإقليم» بإجراء حسابات أفضل لقطاع النفط والغاز الخاص بها – وهي عملية بدأتها أساساً عبر توقيع عقود مع شركتي الاستشارات “ديلويت” و”إرنست أند يونغ” لتعزيز الشفافية والثقة في النظام. وأخيراً، على الحكومة الكردية خفض الإعانات ورواتب الموظفين الأشباح فضلاً عن رفع العائدات من الموارد غير النفطية الأخرى أيضاً مثل الضرائب والتعريفات الجمركية – وهو مسعى أطلقته إلى جانب تدابير جديدة على غرار سجلات الموظفين البيومترية. وفي حين قد تلحق التعريفات الضرر بالتجارة مع تركيا وإيران، إلا أنها تهدف إلى تعزيز النمو داخل «حكومة إقليم كردستان»، لاسيما في القطاع الزراعي. على سبيل المثال، خلال تشرين الثاني/نوفمبر، سافر وفد كردي إلى واشنطن، العاصمة – ضم وزارء الزراعة والتخطيط والكهرباء في «حكومة إقليم كردستان» – لتشجيع الشركات الأمريكية على الاستثمار مباشرة في القطاع غير النفطي.
وعلى المدى الطويل، من الأهمية بمكان أن نتذكر أن «حكومة إقليم كردستان» هي دولة ريعية، أو ما أسميتُه “إقليماً بترولياً”، وأن قادتها أنشأوا هذا النظام طوعاً، بعد عجزهم عن إصلاح أو تجاوز الإرث الاقتصادي والسياسي لعهد صدام. وفي النهاية، سيتطلّب التغلّب على التحديات الاقتصادية اليوم انخراطاً من قبل الحكومة الكردية والقطاع العام على السواء. لكن ما يكتسي أهمية موازية هي المساعي لاستحداث برامج تربوية عامة ترمي إلى تعزيز الثقافة المالية في أوساط الشباب الأكراد. وكانت السياسات المضادة للسوق والفساد والرأسمالية القائمة على المحسوبية قد قوّضت روح ريادة الأعمال في الإقليم. غير أنه بإمكان الحكومة معالجة هذه الشوائب عبر تطبيق تدابير الحماية للأعمال المستقلة؛ واستحداث نظام مصرفي؛ وتوفير الائتمانات للمؤسسات الخاصة؛ والأكثر أهمية وضع برامج تربوية وتوفير المحفزات الضرورية للابتعاد عن ذهنية الاعتماد على الحكومة في أمن الوظائف والقطاع المالي.
“بوست وور ووتش”: أيّدت الحكومة في محافظة كركوك – التي كانت في قلب النزاع على الأراضي بين «إقليم كردستان العراق» والعراق الاتحادي منذ عام 20033 – إنشاء إقليم فدرالي مستقل عن بغداد يتمتع بحكم ذاتي. هل أن مثل هذا الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي في وضع مستدام من الناحيتيْن الاقتصادية والسياسية نظراً إلى أهميته بالنسبة للسياسيين في جميع أنحاء العراق؟
وهاب: إذا عجزت «حكومة إقليم كردستان» عن العمل ككيان موحّد يُعرب بوضوح عن رغباته في شمال العراق – ولطالما دعا إلى ضمّ كركوك تحت الجناح الكردي – فلن يكون هناك سبب يدعو لضرورة انضمام كركوك إلى كردستان منقسمة. ونظراً إلى الأزمات الاقتصادية والانقسامات السياسية الداخلية التي تعيشها كردستان اليوم، قد لا تكون أربيل الشريك الأفضل لكركوك. فهذه المحافظة الأخيرة لديها حالياً حاكم قوي يحظى بشعبية هو نجم الدين كريم الذي نجح في جمع الجماعات العرقية المتنوعة التي يضمها الإقليم معاً. وما يكتسي أهمية أيضاً أن كركوك تضم مكامن نفطية غنية وخط أنابيب إلى جانب قدرتها على إبرام اتفاقات مع «حكومة إقليم كردستان»، أو العراق، أو إيران أو تركيا. وسواء اختارت كركوك السير في طريقها الخاص أو الإنضمام إلى ما يمكن أن يكون كردستان الكبرى، فإن الأمر سيتوقّف في النهاية على المدى التي يمكن أن تصل إليه «حكومة الإقليم» في جعل نفسها جذابة.
“بوست وور ووتش”: خلال معركة إخراج تنظيم «الدولة الإسلامية» من العراق، استولت قوات “البيشمركة” الكردية على مناطق لم تكن تقليدياً جزءاً من «إقليم كردستان العراق»، بما فيها سنجار، وكركوك والمنطقة الواقعة في سهل نينوى. وفي الماضي، أعلن رئيس «إقليم كردستان» مسعود البارزاني عن عزمه على الحفاظ على سيطرة “البيشمركة” على هذه المناطق، الأمر الذي أثار استنكاراً من صنّاع القرار السياسي في بغداد وزعماء ميليشيات «وحدات الحشد الشعبي» المتنفذين. ونظراً إلى المنافسة بين هذه الجماعات، من سيتولى التفاوض بشأن المستقبل السياسي لهذه المناطق المتنازع عليها – وكيف ستتمكّن الأطراف المعنية من تطبيق أي اتفاق محتمل وتنفيذه؟
وهاب: هذا سؤال بالغ الأهمية، وليست هناك في الحقيقة إجابة واضحة – فهو يُبرز الثغرة الفعلية في التخطيط لعراق ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية». فصنّاع القرار السياسي في العراق والمجتمع الدولي لا يطرحون هذا السؤال ويفضلون إرجاء مثل هذا النقاش إلى ما بعد هزيمة التنظيم ودحره. غير أن أمراً واحداً واضح وهو: أن إبرام أي اتفاق في المناطق المحررة سيتطلّب إشراك الأصوات المحلية. إنها مناطق متضررة وقد عانت الأمرّين، ومن المستحيل إعادة إنشاء الهياكل الإدارية نفسها التي كانت قائمة قبل عام 2014. فـ [بعض] السكان الذين عاشوا تحت احتلال تنظيم «داعش» أصبحوا في سنّ الرشد والنضوج ضمن بيئات مختلفة للغاية عن الأجيال الأكبر سناً؛ وقد تعلموا مصاعب الحياة في ظل حكم تنظيم «الدولة الإسلامية».
كيف يمكن لبغداد أو أربيل تخطي هذه الوقائع؟ إن ثقافة إبرام الاتفاقات أمر جيد ولا بدّ من تشجيعها لكي تصبح أكثر شموليةً. ولكن الخطوة التي لطالما افتقدتها هذه العملية من إبرام الاتفاقات كانت المكوّن الاقتصادي للمصالحة. على صنّاع القرار السياسي وشركاء العراق الدوليين التوصّل فعلياً إلى خطط من أجل إعادة بناء المناطق التي أنهكتها الحرب مثل سنجار، تلعفر، الرمادي، الفلوجة أو الموصل بشكل ملموس. ولا يتحدث أحد بجدية عن هذه الحاجة الضرورية والأساسية. وإذا بقيت الحكومة العراقية أو الكردية غير قادرة على دفع أجور موظفيها، فأين ستجد هذه المبالغ الهائلة اللازمة لتمويل إعادة إعمار هذه المناطق؟ وتشير التقديرات المحلية إلى أنه في الرمادي وحدها، ستبلغ تكلفة إعادة بناء المدينة وإزالة الألغام الأرضية حوالي 10 مليارات دولار.
إن الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية على استعداد دائم لتزويد بعض الميليشيات أو الفصائل بالمال، ولكن أي دولة ترغب في إرسال الأموال الضرورية لإعادة الإعمار أو المهندسين أو الطوبة أو الطين إلى العراق بعد انتهاء القتال؟ ومن سيوفّر التمويل الأولي لمشاريع التطوير ويمنح الشباب في المناطق التي دمرتها الحرب الفرصة للتخلي عن أسلحتهم نظراً إلى وجود مصدر آخر للدخل متوافر أمامهم؟ لقد ركّزت الحكومتان العراقية والكردية حتى الآن وبشكل شبه حصري على الانتصار في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». ومن شأن انتصار كهذا أن يوفّر الشرعية لجهات فاعلة متعددة – الأحزاب الشيعية والميليشيات و”البيشمركة” – التي لا تزال تصبّ اهتمامها على الانتخابات المزمع إجراؤها في عام 2018. وترى الدول المجاورة في المنطقة، بما فيها إيران وتركيا، فائدة في تمويل الجماعات المسلحة ولكن ليس الكثير جداً في إعادة بناء البلاد.
واليوم، يكرّس معظم صنّاع القرار السياسي والمحللين قدراً كبيراً من الوقت في مناقشة التسوية السياسية في العراق بعد تحرير الموصل – ويجلبون مختلف الأطراف المعنية إلى طاولة المفاوضات. ومع ذلك، لا بدّ أن تقترن هذه المناقشات بخطط لإعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية. فعلى مدى العامين والنصف الماضيين، شكّل تنظيم «الدولة الإسلامية» قوة من الدمار الهائل الخارج عن السيطرة. وقد يكون من المستحيل استعادة التراث الثمين والقطع الأثرية التي استولى عليها مقاتلو التنظيم. غير أن العراق يمكنه إعادة بناء المنازل والمدارس ودور العبادة التي تمّ تدميرها ومسحها عن وجه الأرض، إذا تلقى الدعم الدولي الكافي. ولا بدّ من وضع خطة لعملية إعادة الإعمار هذه لاستكمال إبرام أي اتفاق سياسي.
بلال وهاب
معهد واشنطن