أثناء زيارة الرئيس اللبناني الجديد ميشال عون السعودية وقطر، أعطى حديثاً تلفزيونياً لكل من فضائيتي «الجزيرة» القطرية، و «العربية» السعودية. بدا الرئيس في نبرته هادئاً في شكل لافت، بجمل مقتضبة، وحذِراً لا تخطئه عين.
كان لافتاً أن الرئيس في حديثه للفضائيتين حاول أكثر من مرة تفادي استخدام «الحرب الأهلية» التي انتهت إليها الثورة في سورية. استعاض عن ذلك أحياناً بـ «الحوادث الشرق أوسطية». وهي تسمية ليست دقيقة، لأنها أولاً حوادث عربية حصراً. وثانياً لأن كلمة حوادث ببرودها المحايد يفهم منها تغييب كلمة «الثورة» و «الحرب الأهلية». ربما أراد عون بهذه التسمية، وقد أصبح رئيساً ويقوم بأول زيارة خارجية له للرياض والدوحة، بعث رسالة تفيد بالتموضع في المنتصف بين الجزيرة العربية والشام. قد يبدو أن في الرسالة شيئاً من الحصافة تفرضه الظروف المحيطة بالزيارة. لكن يصعب، وللظروف ذاتها، تجاهل دلالة عدم تسمية الأشياء بأسمائها، وأن في ذلك ربما نوعاً من التكاذب مع طرف أو أطراف لا يرد ذكرها في الحديث. وفي سياق الحديث يأتي قول العماد عون للجزيرة بأنه «حدث طيّ صفحة قديمة (مع السعودية) وفتح صفحة جديدة». هذا جيد وواعد. لكن هل حصل فعلاً؟ مثل ذلك ما قاله للعربية أن زيارته تهدف إلى إزالة «الغموض» (كذا) الذي شاب العلاقات السعودية – اللبنانية أخيراً. هذه العلاقة لا تعاني من الغموض بقدر ما أنها تعاني من وضوح فائض، يفرض حديث لزوم ما لا يلزم. وحديث الرئيس ومفرداته، كما حديث محاوريه، جاءا بلغة لا جديد فيها، ويفرضان غموضاً لتجليل وضوح يبدو أنه بات يحرج الجميع.
كان لافتاً أيضاً أن تركي الدخيل في «العربية»، تجنب في شكل متعمد ذكر اسم «حزب الله» عندما سأل الرئيس عون عن «فاعليات لبنانية تشارك في الحرب السورية». حسن جمول في «الجزيرة» طرح على عون السؤال نفسه مستخدماً: «حلفاؤه الذين يتخذون موقفاً معادياً للسعودية وقطر». هل حصل تجنب اسم «حزب الله» هنا بطلب من الرئيس؟ أم أن حساسية الـ «حوادث الشرق أوسطية»، والظروف اللبنانية هي من فرض ذلك؟ الأخطر من ذلك أن مجمل إجابة الرئيس تفيد بأن قتال الحزب في سورية ليس خيار الدولة اللبنانية، وأنه كرئيس للدولة وللجميع لا يستطيع أن يفرض خياراً على أحد. هنا نكون أمام نموذج تفقد فيه الدولة حقها في احتكار أدوات العنف، وتفقد جزءاً من سيادتها لمصلحة أحد مكوناتها بقوة السلاح أولاً، وبقوة تدخل دول أخرى ثانياً، هي إيران التي ورثت النفوذ السوري في لبنان، ثمناً لجهودها في حماية النظام السوري بمساعدة «حزب الله» اللبناني.
مع ذلك يقول عون: «نحن نمنع أن ينطلق الأذى من لبنان ضد أي دولة». وهو قول يضعنا أمام مشهد سوريالي لا يوجد إلا في لبنان، لكن مسؤوليته تمتد لمحيطه العربي. «حزب الله» لا يمثل الدولة اللبنانية رسمياً، لكنه ممثل في مجلسي الوزراء والنواب فيها. كيف يمكن التمييز بين الرسمي وغير الرسمي في هذه الحال؟ الأسوأ أن الحزب وهو لا يمثل الدولة اللبنانية بمغامراته، يمثل دولة أخرى، هي إيران. بهذه الصفة يكون الحزب يستخدم الدولة اللبنانية غطاء لدور إقليمي يخص دولة أخرى ليست حتى سورية التي يقاتل فيها. العماد عون يعرف كل ذلك وأكثر، لكنه لا يملك أن يفعل شيئاً إزاءه. دور الحزب كما قال «للجزيرة» بات جزءاً من وضع إقليمي ودولي وما يحكمه من توازنات، ومسؤوليته تتجاوز قدرة لبنان. والحل؟ غموض «بناء» في الحديث عن الموضوع، وتكاذب يلتقي عنده الجميع.
لا يقل أهمية هنا ما قاله الرئيس عون عن الربيع العربي وأن تحوله إلى خريف قاس حصل بسبب أن من قاموا بالربيع تمسكوا بخيار الرجوع إلى الماضي، في إشارة إلى القوى الإسلامية المنخرطة في هذه الحوادث، المعتدل منها والمتطرف. ويضيف أن أي حلول أو طموحات للحاضر يجب أن تنبع من الحاضر أو المستقبل، وليس من الماضي. مؤدى كلام الرئيس أن الربيع طرح حلولاً من الماضي بدلاً من التمسك بمتطلبات الحاضر والتطلع نحو المستقبل، وهو ما أدى إلى ما نحن فيه الآن. ومع صحة ما قاله الرئيس، إلا أنه لا يسعف كثيراً ما يرنو إليه بمثل هذا القول. صحيح أن الإسلام السياسي الذي انخرط في ثورات الربيع طرح حلولاً من الماضي ضاعفت من تعقيد المشهد، ومن العقبات التي تراكمت أمام هذه الثورات. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن الإسلام السياسي وموقفه وتطلعاته ليست السبب الأول لما انتهى إليه الربيع. والدليل ما حصل في تونس بعد 16 كانون الأول (ديسمبر) 2011، وما حصل في مصر بعد 25 كانون الثاني (يناير) من العام نفسه. والأكثر دلالة على ذلك ما حصل في سورية. لكن لندع هذا جانباً ونركز قليلاً على وطأة الماضي التي أشار إليها عون ومعه كل الحق في ذلك. عمر حكم البعث في سورية يقترب من 54 سنة هذا العام، منها أكثر من 46 سنة اقتصرت على حكم حافظ الأسد، ثم ابنه بشار. ولعله من الواضح أن أكثر من نصف قرن ينتمي بمعايير الحاضر، وبتطلعات المستقبل، إلى الماضي أيضاً. وهو الماضي الذي يقاتل النظام السوري شعبه لتثبيته وتأبيده. فوق ذلك هو ماض مظلم اتسم أكثر من أي شيء آخر باستبداد دموي أنهك في التاريخ السوري قيم المواطنة والتعددية والحرية، وورث خسارة الجولان، ووصاية سورية على لبنان، ومذبحة حماة في ثمانينات القرن الماضي، ثم مذبحة سورية بأكملها، التي لا تزال مستمرة لما يقرب من ست سنوات الآن. حلفاء النظام السوري، ممثلون بإيران وميليشياتها، ينتمون بدورهم إلى الماضي بمعتقداتهم الدينية وأهدافهم السياسية. من هذه الزاوية، لا يجوز قصر مسؤولية فرض الماضي كمخرج على طرف من دون آخر، بل إن مسؤولية النظام في هذا الصدد أضعاف مسؤولية الأطراف الأخرى. لكنها زاوية لا يستطيع الرئيس اللبناني بحكم حساسية موقعه، وربما بحكم قناعاته، الاقتراب منها.
على رغم كل ذلك، يبقى أن عون حاول في حديثه أن يتموضع في الوسط سواء في ما خص لبنان، أو علاقته بمحيطه العربي. حاذر كثيراً من كشف خياراته تجاه النظام السوري تحديداً، وأكد أن قتال «حزب الله» في سورية لا يمثل الدولة اللبنانية، وأن هذا بات مسؤولية إقليمية ودولية قبل أي شيء آخر. كأنه بذلك يشير إلى المسافة التي تفصله عن الحزب، وإلى المسؤولية العربية لما انتهى إليه دور الحزب خارج لبنان. وهي إشارات قد تنطوي على استئناف مختلف للعلاقة بين الضيف ومضيفيه.
خالد الدخيل
صحيفة الحياة اللندنية