لاشك في ان الثالث من شباط/ فبراير 2015 يوم حزين في الاردن فاعدام الطيار معاذ الكساسبة، وحرقه وهو على قيد الحياة من قبل عناصر “داعش”، اوجد غضبا شعبيا عارما، واستنفاراً اقليميا ودوليا لبذل المزيد من الجهود في التصدي لهذا التنظيم واستئصاله. وليست البشاعة في اعدام الطيار الاردني، الا تعبير عن وحشية بربرية، تكشف عن ان القتل لدى “داعش” ملهاة يشتركون فيها، ثم يسدل الستار، لتبدأ عمليات قتل جديدة يبتدع فيها الجناة موتا متوحشا.
مقاربات في تفسير الارهاب
مناخ الارهاب الذي يجتاح المنطقة، يحتم التصدي لهذه الظاهرة، التي فسرها صاموئيل هنتنغتون، ومارك جيركنسماير بمتغيرات دينية، فنظرية صدام الحضارات، التي يعزو فيها إلى الثقافة والدين الدور الرئيس التحريض في ميدان السياسية العالمية، ويؤكد أن كل حضارة تملك ثقافة فريدة وميزة دينية وهذه الصفات قد تكون متضاربة مع الحضارات الأخرى، مما قد ينتج عنه استياء يسبب الإرهاب.
بينما يرى جيركنسماير أن الإرهاب ينجم عن استغلال النخب السياسية للمؤسسات الدينية، وتقول نظرية أخرى ان الدين مادة محفزة للإرهاب وذلك باللجوء إلى مرجعية أعلى من الدولة وبالتبشير بالثواب في الحياة بعد الموت.
والحروب التي تشن باسم الدين مثال للوحشية والفوضى التي يمكن أن تؤدي إليها مجابهة تمليها ضمائر الأشخاص، أي بسبب اقتناع المرء بأنه على حق. وفي هذا النوع من النزاع الذي تتجلى فيه الجوانب الأكثر كآبة من النفس البشرية، حيث تمتزج الفوضى بالفظاعات، يكون الضحايا الرئيسيون هم عامة الناس غير المسلحين، مثلما كان الحال طوال نظام ما قبل الثورة الفرنسية.
كما ان التفسيرات السيكولوجية التي كانت تقرر أن أعضاء الجماعات المتطرفة أو الإرهابية يتسمون بعدم التوازن النفسي، أو أنهم عادة ما ينتمون إلى الطبقات الفقيرة أو المهمشة، بدت عاجزة هي الاخرى، وذلك لأنه ثبت أن أنصار هذه الجماعات – كما هي الحال بالنسبة إلى “داعش” – قد ينضمون دفاعاً عن الفكرة، رغم أنهم ينتمون إلى الطبقات الوسطى أو الثرية.
اما الابعاد الثقافية التي اكد عليها المفكر محمد عابد الجابري، في كتابه “المسألة الثقافية” فانها تحيل اسباب الظاهرة الى فشل المؤسسات والمعاهد العلمية في ترسيخ الثقافة، بما مّكن التطرُّف الديني من التغلغل، ناشرا الحدية والواحدية المغلقة، التي ترى انها تعبير عن الحقيقة وما عداها ليس الا هرطقة تستوجب الاستئصال. وتهتم المدرسة السياسية، بتفسير تصاعد العنف والارهاب، من مدخلات سياسية، رافقت التغيرات العالمية اعقاب انتهاء الحرب الباردة، ومن بينها ضعف الدولة القومية وعجزها عن حماية سيادتها.
وكان النظام الدولي، عاملا رئيسا في النظر الى الاخر بوصفه خارج عن اطار الشرعية العالمية، وصاحب ذلك ثورة هائلة في تكنولوجيا الاتصالات، كما يرى بعض أنصار هذه المدرسة أنه لفهم ظاهرة الإرهاب لابد من الأخذ في الاعتبار شعور قطاعات من الجماعات المتهمة بالإرهاب بالظلم والقهر وانعدام الأمل في رفع الظلم.
وابرز ما يمكن تلمسه في النظرية الانحرافية هو تنوع المشكلات الاجتماعية، التي تتزايد مع مفاعيل التغيير، مسببة انتهاك معايير اجتماعية رئيسة ومهمة، تسهم في هز المجتمع وتقوض من انماط تفاعلاته، ليحل محلها جديد قد يتخذ صوراً عدائية وعنيفة.
صراعات الهويات الأولية، تفسير يركز على الدين أو السلالة أو القومية. وهي التي تصوغها الحركات الاجتماعية التي تسعى إلى التغيير الشامل والانقلابي للمجتمع، ومثالها هوية جماعات الإسلام السياسي، التي تريد القضاء على الدولة المدنية وإحلال الدولة الدينية محلها. وهذه الجماعات قد تلجأ في مرحلة من مراحل تطورها إلى القيام بالإرهاب الصريح، سواء ضد الدولة أو ضد الجماهير.
محطات في تاريخ الارهاب
لا شك في ان الإرهاب قديم قدم البشرية، اذ برز اولا بشكله الفردي، وسرعان ما تحول الى ممارسة جماعية، ليتم استخدامه وسيلة للتأثير في السياسة والسلطة. وفي ثنايا التاريخ، نجد ان الارهاب قد امتد في اكثر من مكان، واتخذ صورا وحشية، فجماعة Sicarii السيكاري اليهودية وتعني -القتلة-، التي ظهرت في القرن الأول الميلادي، استخدمت الخناجر في قتل اعدائها ابان حملتها للإطاحة بالحاكم الروماني كيرينيوس في سوريا، الذي اراد إجراء تعداد لليهود بقصد فرض الضرائب عليهم.
والفرقة القرمطية التي نشأت في الكوفة وواسط والبصرة في العراق، ثم في البحرين والأحساء والقطيف في القرن التاسع الميلادي، استخدمت الإرهاب والاغتيال أداة للتغيير. لتتحالف مع القبائل الفقيرة وقطاع الطرق، إذ تمكنت من تحويلهم إلى قوة عسكرية ضاربة، وجعلت من الغزو المدمر وسيلة لسياستها التخويفية.
وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر للهجري نشأت حركة الحشاشين في شمال إيران، وانتقلت إلى أجزاء من بلاد الشام، وهي حركة تنسب إلى التشيع، ولجأت إلى العنف والاغتيال وترهيب الخصوم لتحقيق مآرب اقتصادية وسلطوية، وتصاعد بطشها خلال الفترتين السلجوقية والأيوبية، حيث أسس زعيمها حسن الصباح فرقة متكونة من أكثر المخلصين له وسماها الفدائيين.
اما القرون الوسطى فقد عرفت أبشع وأعنف صنوف البطش والعنف متمثلة بمحاكم التفتيش، التي نصبها البابوات للانتقام من كل من لا يدين بالولاء للكنيسة البابوية، ومع بداية القرن السابع عشر بدأت سيطرة الدول الأوروبية على البحار العالمية وبدأت في زيادة حجم السفن الناقلة للتجارة بين الشرق والغرب، وظهرت معها القرصنة البحرية التي عدت شكلا من أشكال الإرهاب، واستمرت حتى بداية القرن التاسع عشر.
ولم يبرز مصطلح الإرهاب بإطاره العملي الا بتحريض من ماكسميليان روبسبير في عام 1793 أعقاب الثورة الفرنسية، حيث اطلق على المرحلة الممتدة من حزيران/يونيو 1793 الى تموز/يوليو 1794 عهد الارهاب، والتي اتصفت بقمع وحشي بعد تعليق النظام السياسي المركزي لكل المنجزات التي أتت بها الثورة، كما اخترع روبيسبير مجموعة فريدة من التهم يعاقب مقترفيها بالإعدام: كالتعرض للوطنية بالسب والقذف، بث روح اليأس لدى المواطنين، ترويج أخبار كاذبة، انتهاك الأخلاقيات، إفساد الضمير العام و تعكير البراءة والطهارة الثورية. ومن أجل الإسراع بهذه الإجراءات صدرت جملة من القوانين بمنع محامي الدفاع أو استدعاء أي شهود، ليكون الحكم دائما الإعدام.
ويعتبر عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر عقداً للمتفجرات، إذ توالت الاعتداءات بالديناميت المخترع حديثاُ، حيث شكل الاعتداء على القيصر ألكسندر الأول في العام 1881 وأعمال أخرى من تنفيذ مجموعة “إرادة الشعب” (نارودنايا فوليا) مصدر إيحاء للفوضويين في أوروبا كلها، الذين انكروا السلطة السياسية، واعتبروا أن السلطة الوحيدة الشرعية والأخلاقية هي التي يمنحها الناس لأنفسهم، بالتالي لا يمكن إرغام أحد على عمل لا ينبع من إرادته المستقلة لأن التشريع وصنع القرار هما من حقوقه المطلقة، أي أن “كل مواطن هو مشرع نفسه”.
ومن هنا اتهمت الفوضوية المؤسسات بتهديد الحرية الفردية وطالبت بإزالتها لضمان الحرية الحقيقية للإنسان وفتح الطريق أمام مجتمع جديد يقوم على الارتباط التلقائي الحر بين المواطنين. ففي فرنسا مثلا جرى تأسيس حركة العصابة السوداء الفوضوية التي أخذت تهاجم الكنائس والشركات بين عام 1882 وعام 1884 وبرز فيها إرهابيون شنوا سلسلة أعمال إرهابية بين عام 1892 وعام 1894.
وفي بداية القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة الامريكية مرتعا خصبا للإرهاب حيث نشأت هناك عدة حركات عنصرية، هدفها ارهاب الزنوج والملونين بصورة عامة وتتجسد هذه الحركات في الأنشطة التي كانت تمارسها منظمة (كوكلاكس كلان) الارهابية التي أنشأها المزارعون الجنوبيون عام 1856 ضد الحقوق المدنية للزنوج وكان الشنق على الأشجار قانون المنظمة هذه.
اما في خمسينيات القرن الماضي وامتداداً للنصف الثاني منه فقد نشطت تكتيكات حرب العصابات من قبل جهات غير حكومية تتطلع لتحقيق استقلالها القومي الاثني، الذي حركته المشاعر المناهضة للاستعمار في بريطانيا العظمى، وفرنسا والإمبراطوريات الأخرى، واختلفت النظرة الى هذه الجماعات بين مؤيد لها ومبارك لما تقوم به، باعتباره عنفا ثوريا يراد به تحقيق الانعتاق والاستقلال وتتحرك بوحي من جدول اعمال وطني، وبين طرف آخر ينظر لها بوصفها مجموعات ارهابية، تستهدف المدنيين وينجم عن انشطتها ضرر انساني واقتصادي. من بينها الجيش الجمهوري الايرلندي الذي سعى لتشكيل جمهورية كاثوليكية مستقلة عن بريطانيا العظمى. وبالمثل استخدم حزب العمال الكردستاني (PKK)، التكتيكات الإرهابية للإعلان عن هدفه المتمثل في قيام دولة كردية. ونمور التاميل في سيريلانكا وهم أعضاء في أقلية التاميل العرقية، اعتمدوا على التفجيرات الانتحارية والتكتيكات القاتلة الاخرى لخوض معركة من أجل الاستقلال ضد حكومة الأغلبية السنهالية.
وفي المرحلة الواقعة بين الحربين العالميتين وبعد الحرب الثانية، شهدت المنطقة العربية نمطا من الارهاب يختلف اسلوبا وهدفا عن كل الأنماط التي شهدها من قبل. وتركز هذا الارهاب في فلسطين، حيث قامت الجماعات الارهابية الصهيونية هناك باعتماد اسلوب التشريد والقتل الجماعي لتحقيق اهدافها الاستيطانية . وفي مواجهة الصمود الذي ابداه الشعب الفلسطيني على ارضه طوال فترة الانتداب البريطاني بل ما قبله عمدت المنظمات الصهيونية الارهابية الى تصعيد الارهاب والرعب الدمويين الى اقصى درجاتها، بغية اقتلاع هذا الشعب من ارضه وتشريده. وكان ابرز اعمال الارهاب الصهيوني في تلك الفترة مجزرة (دير ياسين) التي ارتكبت في نيسان 1948 ومنذ عام 1950 خططت ونفذت هذه الاعمال الارهابية منظمات مزودة بكل مستلزمات الارهاب من مال وسلاح ومعلومات وقصد اجرامي، فكان ابرزها (هاشومير) و(غوديم) و(هاغانا) و(ارغن زفاي لومي) و(شتيرن). وكانت هذه المنظمات كلها هدفا وأسلوبا وأفرادا الأساس الذي قامت عليه المؤسسة العسكرية الاسرائيلية الحالية.
واستكمالا لما تقدم اتخذت بعض صور العنف الثوري طابعا مسرحيا، ان صحت هذه العبارة، ففي الاعوام ما بين 1961 إلى 1977 دخلت المقاومة الفلسطينية على الاتجاه لجذب الانتباه الدولي لقضيتهم العادلة، وبهدف إطلاق سراح رفاقهم في السجون الإسرائيلية، وأصبحت عمليات الخطف تتخذ منحى جديدا، إذ أصبح المسافرون رهائن لعملية تبادل المسجونين داخل زنازين فلسطين المحتلة, منها ما حدث عندما قامت جبهة الشعبية لتحرير فلسطين باختطاف احدى طائرات العال الاسرائيلية عام 1968.
على ان تسليح الجماعات المعارضة، اضحى اكثر سهولة من خلال السوق السوداء لتي مكنتهم من الحصول على الأسلحة الخفيفة السوفيتية، مثل البنادق الهجومية AK-47 لتتسع هذه السوق مع انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1989 .
ويعد القرن الحادي والعشرين عصر الإرهاب الديني، الذي بات الاكثر مدعاة للقلق، إذ شكل الدين متغيرا تبريريا، بحيث تحول من نطاق الممارسة الفردية ليأخذ طابعا اكثر شمولية، يستند الى التكفير واستباحة دم المخالفين في العقيدة تثبيتا لما يدعوه بإحقاق الحق، فالمجموعات الاسلامية التي تبرير عنفها كـ”تنظيم القاعدة” و”داعش” و”حزب الله”، تعمل من منطلق الوصاية الشرعية والفكرية، لتحمل الاخرين على الانصياع لتوجهاتها بالإكراه والاجبار. ولم يقتصر هذا الامر على الجماعات الاسلامية فالمسيحية واليهودية والهندوسية والديانات الأخرى، قد عرفت تزايد أشكال من التطرف والعنف خاصة بها.
“داعش” والميليشيات ارهاب بين العلنية والصمت
لاشك في ان “داعش” تنظيم بالغ القسوة والوحشية، يستخدم عنفا غير مسبوق وممنهج، لقتل الخصوم وتصفيتهم، فبعد تمكينه من احتلال الموصل واستقراره في الرقة السورية، طالعنا بنموذج من التقتيل ينطوي على وحشية بالغة سواء اكان بقطع الرؤوس او تعليق الجثث، ليصل الى حرق الاحياء كما جرى للطيار الاردني بطريقة تتجاوز كل القواعد والقيم الأخلاقية والإنسانية. ولا يمكن، على الإطلاق، تبرير مثل هذه الأفعال، تحت أي غطاء، سواء باعتبارها دفاعاً عن النفس، أو تعبيراً عن الانتقام من الخصم.
وفي الجهة الاخرى من هذا المشهد تقف الميليشيات الشيعية التي تسمى “بالحشد الشعبي”، التي ترتكب فظاعات وحشية وممنهجة ايضا، بحق السكان المدنيين، حيث تم العثور على عشرات الجثث مجهولة الهوية في مختلف مناطق العراق، وقد قُيدت أيادي اصحابها خلف ظهورهم ما يشير إلى وجود نمط من عمليات قتل على شاكلة الإعدامات الميدانية. وبدا ان الميليشيات الشيعية تركز في المقام الأول في معاركها على مهاجمة الذين لم يفروا مع تقدم “الدولة الإسلامية” لتنهب وتحرق وتهدم عشرات القرى السنية، متهمة الأسر المتبقية بأنها “متواطئة.” كما جرى تداول عدد من الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي تكشف عن قيامها بحرق جثث من قتلتهم، وفيها مناظر وحشية عن التمثيل بقصد القصاص.
ويبدو جليا ان العوار القيمي والسلوكي متغير مشترك يجمع بين “داعش” والميليشيات، فكلاهما اوغل في انتهاك الانسانية وجرح ضميرها، الاول اعلن وبوقاحة عن عنفه وبربريته، والاخر يحاول التواري عن الانظار، ويمارس الانتقام والتشفّي من خصومه، بطريقة تتجاوز كل القواعد والقيم الأخلاقية والإنسانية، يتحركان بوحي من قناعة أيديولوجية، أو لموقف سياسي ما .
ولكن ما يستوقفنا المعايير المزدوجة التي تعاملت بها الولايات المتحدة والدول الاخرى التي انضمت الى التحالف الدولي لمحاربة التنظيم، لجهة الصمت حيال جرائم الميليشيات، ولعل غض الطرف هذا سيفضي الى تصعيد وتائر الطائفية. وعمليا تبدو الحكومة العراقية اضعف من ان تضع حدا لسطوة الميليشيات وتغولها. وقد يفهم من ذلك انها مسلوبة الارادة بسبب حركات وأحزاب طائفية سياسية تستند إلى رعاية إقليمية. وعندما تكون معالجة الطائفية بطائفية، فان الحرب الأهلية المستدامة أو التقسيم يقفان على الابواب. وكما اكد ابن خلدون في مقدمته أن الظلم مؤذنٌ بخراب العمران، وهو ما يشهده العراق اليوم.
هدى النعيمي
مركز الروابط للدراسات والبحوث الاستراتيجية