دور الهوية في السياسة: الموقف الفرنسي من انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي

دور الهوية في السياسة: الموقف الفرنسي من انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي

  لا تزال عضوية الاتحاد الأوروبي بالنسبة لتركيا خيارًا حضاريًا وهدفًا استراتيجيًا راسخًا، على مدار 150 سنة من الأوربة التي بدأت في عهد الإمبراطورية العثمانية. وفي نفس الوقت، هي أحد المشاريع الرئيسة للعهد الجمهوري. وبما أنها  جزء من أوروبا فهي أيضًا مسألة – كما أنها منسجمة مع إرث كمال أتاتورك- رمز”الحداثة”. وبدلًا من أن تدير ظهرها للغرب، تعيد تركيا، على نطاق أوسع، رسم سياساتها الخارجية من خلال تحديد مصالحها الإستراتيجية. لذا عندما يتحدث السياسيون الأتراك عن التراث العثماني، فإنهم يستندون إلى هوية الدولة التي اختارت أن تكون أوربية، بإرثها البيزنطي والإمبراطوري العريق، صاحب التاريخ الطويل في السياسة الأوروبية، والذي تمتد جذوره في الثقافة المتوسطية. ويستمر النموذج الأوروبي في التنمية  والحريات المدنية في كونه مصدر جذب وإعجاب المجتمع التركي، أيضًا تعززت القوة الناعمة لتركيا في الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى بعلاقات تركيا القوية مع الاتحاد الأوروبي. لذا فإن توطيد مكانتها في دوائرها الإقليمية ليس انعكاسًا لحنين العثمانيين الجدد إلى الماضي، ولكن ورقة مساومة وورقة رابحة في مسار الدولة نحو أوروبا.

       تقدمت تركيا بطلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة في 31 تموز/ يوليو 1959م، وجددت طلب الانضمام إلى المجموعة الأوروبية في 14نيسان/ أبريل 1987م. وتُواصل تأكيد اهتمامها وسعيها إلى الانضمام للمسار الأوروبي. وقد أصبحت هذه المسألة أحد أبرز أهداف سياستها الخارجية، فضلًا عن أنها إحدى القضايا المهمة والمثيرة للجدل في السياسات الداخلية. وحققتت خطوات عدة، إذ دخلت في اتفاق الوحدة الجمركية عام 1969م، وفي قمة هلنسكي، عام1999م، قَبِلَها الاتحاد الأوروبي كدولة مرشحة للتفاوض من أجل الإنضمام إليه.

           انتظرت بعد ذلك سنوات عدة حتى منحها الأوربيون وضعية الترشُّح لمفاوضات العضوية في 16كانون الأول/ديسمبر، بدءًا من 3تشرين الأول/أكتوبر2005م، ” على أن تكون المحادثات غير محددة الأجل، ومن دون ضمان لنتيجتها”. وعلى الرغم من أن ذلك لم يؤكد أن المفاوضات ستنتهي بقبولها كليًا ونهائيًا في الاتحاد الأوروبي، إلا أن مجرد الإعلان عن بدء المفاوضات اعُتبر انجازًا سياسيًا واستراتيجيًا كبيرًا لدى الأتراك هذا ما يخص تركيا، وأما فيما يخص فرنسا الدولة المركزية في الاتحاد الأوروبي فهي ترفض انضمام تركيا له لعدة أسباب لعل من أهمها ما يتعلق بالهوية.

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا ترفض فرنسا ذلك الانضمام وتكتفي فقط “بشراكة متميزة” بين الاتحاد الأوروبي وتركيا؟

ولهذا السؤال وجاهته من جانبين الأول: ان تركيا ليست دولة غريبة عن المنظومة الأوروبية، فهي عضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، التي ساهمت في التصدي للمد الشيوعي خلال الحرب الباردة، وهي من الناحية الاستراتيجية تعد دولة المفتاح في منطقة الشرق الاوسط. ثانيًا: ان العديد من دول أوروبا الشرقية التي كانت حليفة للاتحاد السوفييتي في أثناء الحرب الباردة انضـــــمت إليه، بعد ما توفر فيها شروط العضوية- المتوفرة في تركيا- كالديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الانسان، ومع ذلك لم تحظ بعضـــــوية الاتحاد الى يومنا هذا.

   أما أهمية تناول الموقف الفرنسي من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فهو لتأكيد مسألتين، أولاهما: عدم صدقية مقولة ” نهاية سياسات الهوية”، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وأن معيار الحكم على أي دولة يتوقف على مدى تبنيها لمبادئ الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي محض افتراء. وثانيهما: عدم الركون بشكل مطلق إلى النظرية الواقعية التي تعلي من عناصر القوة المادية، والتقليل من المتغيرات غير المادية كالهوية في فهم وتفسير العلاقات الدولية.

ولأن متغير الهوية يعد أحد المتغيرات التي تؤثر في السياسة الخارجية للدول، في مجال العلاقات الدولية ومجال تحليل السياسة الخارجية، لذا ستقسم الورقة على النحو الآتي:

أولًا- الهوية: التعريف والمكونات:

قدمت العلوم الاجتماعية تعريفًا مبسطًا للهوية على إنها السمات المعرفة للفرد أو الجماعة والتي من خلالها يتم تمييز الذات عن الآخرين. وقد حددت الأدبيات ثلاثة أسئلة رئيسية للهوية: كيف يتم تعريف الذات؟، كيف يتم تعريف الآخر؟ كيف يُرى العالم؟

وفي مجال العلاقات الدولية، قدمت النظرية البنائية إسهاما مهما في التأصيل للهوية، كأحد المتغيرات التي تؤثر في حركة التفاعلات الدولية، حيث يرى “ألكسندر ونت”، أحد منظريها، أن الهوية سمة من سمات التفاعل الدولي، وهي تولد لديه تصرفات سلوكيه، وقد عرف الهوية بأنها كيف ترى الذات والآخر. وعرّف “ديفيد إل. روسو” الهوية بأنها” حزمة من القيم المشتركة والمعتقدات، والاتجاهات والقيم والأدوار، تستخدم لرسم الحدود بين هويه من هو داخل الجماعة ومن خارجها”.

ويلاحظ  أن عمومية تعريف مفهوم الهوية أدى إلى وجود العديد من الدراسات التي حاولت ضبط هذا المفهوم، ومن ذلك دراسة ” ماكسيم أليكسندر” وهي” مفهوم هوية الدولة في العلاقات الدولية: تحليل نظري”، والتي رصد فيها خلط منظري النظرية البنائية بين مفهوم الهوية ومفهوم القيم والثقافة، واستخدامهم هذه المفاهيم كمترادفات في بعض الأحيان، وكمكونات للهوية في أحيان أخرى.

ورأى أنه عند دراسة تأثير الهوية في مجال العلاقات الدولية، يتم التركيز على هوية الدولة، والمقصود بها مجموعة الصور والمعتقدات المعبرة عن الدولة، والخاصة بحقوقها ومسئولياتها، وبسلوكها تجاه الدول الأخرى،  وهذا هو البعد الخارجي لها. أما البعد الداخلي، فتعبر عنه الصور والمعتقدات المترسخة لدى النخبة الحاكمة والشعب عن حقوق الدولة ومسئولياتها، وعلاقتها بالجماعات المختلفة داخل المجتمع.

ويمكن هنا التمييز بين ثلاثة مداخل لدراسة هوية الدولة وتأثيرها في العلاقات الدولية، أو ما يسمى سياسات هوية الدولة. ويتمثل المدخل الأول في التركيز على الهوية المشتركة بين الدول، وكيف تؤثر في العلاقات بينهما، مثل الهوية العربية، وكيف أثرت في العلاقات بين الدول العربية؟. وينصرف المدخل الثاني إلى التركيز على أبعاد وخصائص الهوية الذاتية الجماعية، أي ما الذي يجعل الولايات المتحدة دولة متمايزة عن غيرها؟ وكيف يمكن أن تؤثر هويتها الذاتية الجماعية في سياستها الخارجية؟ وينصرف المدخل الثالث  إلى تحديد خصائص هوية الدولة الأخرى، أي ما هي الخصائص التي تراها الولايات المتحدة الأمريكية معرفة للصين كدولة متمايزة عنها؟ وكيف ستؤثر تلك الرؤية في العلاقات معها؟

ويكشف تتبع تاريخ العلاقات الدولية، خلال المرحلة السابقة على انتهاء الحرب الباردة، عن أن الهوية كانت عاملًا مهما في حركة التفاعلات الدولية والإقليمية، ودونه من الصعوبة بمكان فهم الكثير من التطورات. فعلى سبيل المثال، كانت الهوية المصدر الرئيسي للحرب، مثل الحرب الأهلية في لبنان، التي تمثل أبرز نموذج للاقتتال على الهوية. كما كانت الهوية المحرك الرئيسي للثورات في شرق ووسط  أوروبا. وبعد الحرب الباردة كانت السبب الرئيسي لمعارضة قطاع عريض من الدول الأوروبي لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

وفيما يتعلق بمكونات الهوية استقرت الأدبيات على أن الهوية تتألف من أربعة مكونات رئيسية، يختلف الوزن النسبي لكل منها من حالة لأخرى، وتتمثل في اللغة و الثقافة، والدين، والعادات والتقاليد والتاريخ.

ثانيًا- الخطاب الفرنسي تجاه انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي:

كان –ولايزال- الهدف المعلن لحزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى حكم تركيا في الثالث من تشرين الثاني عام 2002م، هو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ومن أجل تحقيق ذلك قامت حكومة العدالة والتنمية بسلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية المنسجمة مع معايير “كوبنهاجن” السياسية والاقتصادية التي وضعها الاتحاد من أجل إنضمام تركيا له. وعلى الرغم من تلك الإصلاحات المكثفة التي طبقتها الحكومة التركية، فقد استمرت فرنسا في رفضها من انضمامها له. فالرغبة التركية تصطدم بالموقف الفرنسي الذي يعتبر  الاتحاد الأوروبي ناديا مسيحيا. وفي هذا السياق ذكر ” فاليري جيسكار ديستان”، رئيس الجمهورية الفرنسي الأسبق(1974م-1981م)، ورئيس لجنة إعداد الدستور الأوروبي، أن ” انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يعني نهاية أوروبا”. وأضاف: ” إن عاصمتها ليست في أوروبا، و95 بالمئة من مواطنيها خارج أوروبا، وهي ليست دولة أوروبية”. ويعتبر الرئيس الفرنسي السابق “نيكولا ساركوزي”(2007م-2012م)،  من أشد المناهضين لفكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وسعى منذ تسلمه الرئاسة الفرنسية إلى تغيير السياسة الأوروبية حيال تركيا رأسًا على عقب. فهو يتفق مع المستشارة  الألمانية”إنجيلا ميركل” في سياق رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكنه يختلف عنها من ناحية كونه كان يطرح هذه الوجهة بوضوح ودون تحفظ. وقد عبر عن هذا الموقف في زيارته لتركيا في شباط/فبرايرعام 2011م، بالقول:” إن عملية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي مسألة نعارض تركيا فيها، ونسعى حاليًا لنفهم الخطوط الحمر لكلا الجانبين، وإيجاد صيغة مشتركة، بحيث لا تخل باستقرار الاتحاد الأوروبي، أو تقلل من شأن الشعب التركي وتجرح كبرياءه”. ولا يعدو هذا القول عن كونه بيانا سياسيا إذا ما قورن مع السياسات العملية التي تتناقض معه، ففرنسا في سبيل عرقلة مساعي تركيا ذهبت إلى حد تشريع يجعل من إنكار مذابح الأرمن في تركيا” جريمة يعاقب عليها القانون”، شأنه شأن إنكار المحرقة النازية لليهود.

هذا الموقف الفرنسي يمكن أن يفهم من خلال دور الهوية في السياسة إذ يستكشف العلاقة بين الذات والآخر في الخطاب السياسي الفرنسي تجاه تركيا. وعليه تنظر فرنسا إلى كل ما هو أوروبي غير مسيحي على أنه “آخر”، يمارس عليه الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وقد ساهمت نهاية الحرب الباردة بصياغة تلك الهوية، وذلك حينما تبنى الغرب بشكل عام وفرنسا بشكل خاص خطابًا ثقافيًا استعدائيًا.

ففرنسا تنظر الى انتشار الإسلام في دولتها، حيث وصل عدد مسلميها خمسة مليون مسلم، وبلغ عدد المسلمين في أوروبا بحدودها الطبيعية بما فيها الجزء الأوروبي من روسيا نحو 45 مليون مسلم، وهذا العدد مرشح للتزايد في السنوات القادمة، وذلك مرده لارتفاع معدلات المواليد المسلمين في أوروبا مقارنة بالمواطنين الأوروبيين، فضلا عن استمرار الهجرة في صفوف المسلمين لها، وفي حال انضمام تركيا له، سنضيف للعدد السالف والمرشح للتزايد سبعين مليون تركي، وسيشجع اكتسابها- على فرض- عضوية الاتحاد، الدول الأوروبية الإسلامية في البلقان (البانيا، كوسوفو، البوسنة والهرسك)، لاكتسابها أيضا، الخطر القادم الذي سيهدد مستقبل المدنية الغربية.

فهي أي فرنسا أيضًا لا ترى في ثقافة مواطنيها المسلمين، ولا تركيا الدولة المسلمة المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، على أنها ثقافة من الممكن التعايش معها وان اختلف معها، بل ترى فيها ثقافة مهــــددة للأمن والاستقرار في أوروبا، وهذا ما عبر عنه الإعلام الغربي بشكل عام والفرنسي بشكل خاص حينما تبــــــنى مقاربـــــة غير منــــــطقية بين المسجد والبندقية الرشاشة، ويـــــرى في مسلمي أوروبا قنبلة موقوتة.

فتركيا في الذاكرة التاريخية الثقافية الفرنسية وريثة الدولة العثمانية التي هي بنظرها أسقطت العاصمة التاريخية للمسيحية وهي القسطنطينية (اسطنبول اليوم) عام 1453م، والعدو العثماني المسلم الذي يقرع أبواب الغرب، وهي بنظرها أيضا على الرغم من قساوة المنهج العلماني للدولة التركية، فمازال المجتمع التركي متمسكا بهويته الإسلامية، هذا المجتمع الذي صاغ التحولات الداخلية والخارجية فيها من خلال انتخابه المتكرر لحكومة حزب العدالة والتنمية، المدافعة عن قضايا الأمة الاسلامية، وهذا ما لا يروق لفرنسا، التي ترى فيها انبعاث للإمبراطورية العثمانية التوسعية وهذا تصور غير دقيق. لأنها عثمانية الدولة القومية في القرن الحادي والعشرين.

    وبناء على ما تقدم ستعمل فرنسا على توسيع دائرة الدول الاوروبية الرافضة لانضمام تركيا للاتحــــاد الأوروبي، وما معايير” كوبنهاجن” التي وضعت من قبل مجلس الاتحاد الاوروبي في عام 1993م، من أجل كسب عضويته، سيكون غاية في التعقيد إذا تعلق الأمر في انضمام  تركيا، وعلى فرض التزمت بها، سيخرج المجلس عليها بمعايير جديدة كمعيار باريس، أو روما، أو برلين، وهكذا دواليك.

الخلاصة:

 يمكن القول: أن الموقف الفرنسي الرافض لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي يختصره المفكر العربي الراحل محمد عابدي الجابري بالقول الآتي:” سنكون مخطئين إذا نحن اعتقدنا أن الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية الدينية التي كانت تواجه فلاسفة التاريخ والمستشرقين وأنه غرب علماني خالص، عقلاني برغماتي لاغير”. وعليه فإن الشعار الذي يرفعه الاتحاد الأوروبي “متحدون في التنوع”، فهذا منطق التنوع السلبي المقتصر على الهوية المسيحية. ليبقى ناديًا مسيحيًا بكل تنويعاته المذهبية الكاثـــــوليكية والبروتستانتية والسلـــافية واللاتينية والأرثوذوكسية، فهو اتـــــحاد مفتوح العضوية على الهوية المسيــــحية الأوروبـــية، ومغلق على ما عداها من الهويات. فسياسات الهوية لا تزال تفعل فعلها في عالم السياسة، وليس صحيحًا انها انتهت بنهاية الحرب الباردة.

د.معمر فيصل خولي