ما شجع الفصائل على اتخاذ هذه الخطوة الشجاعة عوامل متعدّدة، أهمها أمل المعارضة في تعميق ما ظهر من تباينٍ في وجهات النظر الروسية والإيرانية منذ سقوط مدينة حلب في أيدي حلفاء النظام، ورغبتها في استثمار هذا التباين، بل في تشجيع موسكو على تعميق تمايزها عن طهران. وهذا ما حاولت روسيا أن توحي به أيضا من خلال ممارسات وتصريحات عديدة، من جديدها تصريح وزير الخارجية، سيرغي لافروف، عن إنقاذ بلاده دمشق من السقوط الوشيك، لتكسب ثقة المعارضة، وتعزّز رهانها على دور روسي جديد، مختلف عن دورها الأول في دعم النظام وحمايته. والواقع أمام إدراك الفصائل، والمعارضة عموماً العجز الكامل للغرب عن انتزاع المبادرة على الأرض، أو في المجال الدبلوماسي الدولي، بدت موسكو وكأنها الوحيدة التي تملك ما يكفي من النفوذ والرشد، لكبح جماح التغول الإيراني المليشياتي، وتقييد آلة القتل والتهجير والدمار، حتى لو افتقرت لأي تعاطفٍ مع مطالب الشعب السوري.
ومن العوامل التي شجعت على هذه الخطوة أيضاً الدور التركي الاستثنائي الذي انتزعته أنقرة، بوصفها شريكاً رئيسياً في قيادة العملية السياسية في سورية، نتيجة تفاهمها الجديد مع روسيا. فوجود أنقرة، الحليف الرئيسي للفصائل، منذ بداية الثورة السورية، شريكاً في رعاية هذه المفاوضات، قدّم للفصائل غطاءً دولياً سياسياً ومعنوياً يعزّز موقفها، ويضمن تراجعها، إذا لزم الأمر، حتى لو أنه لا يقدم ضماناتٍ على نجاح المباحثات، أو حتى على جدّيتها.
وعلى الرغم من أن هذه المخاطر لا تزال موجودة، وأولها تهميش المعارضة السياسية، وربما رهان موسكو على إحلال الفصائل محلها، واحتمال فشل محادثات أستانة، وتقويض النظام لها، وهذا ما دلّت عليه تصريحاته أخيراً للصحيفة اليابانية التي قال فيها إنه يفاوض في أستانة الإرهابيين لدفعهم إلى إلقاء سلاحهم، ما يعني أنه لا يزال يصر على رفض الاعتراف بالمعارضة، فقد حقّقت الفصائل بعض المكاسب السياسية منذ الآن. منها تكريس نفسها قوةً معارضةً شرعية، معترفاً بها، في نظر موسكو التي كانت ترفض الاعتراف بها، وتتعامل معها باعتبارها قوى متمرّدة أو إرهابية. وهذا يعكس رغبة موسكو في العمل من أجل مخرج سياسي من الحرب، بعكس حلفائها في طهران ودمشق. وربما تنجح المباحثات في أستانة التي تبدأ اليوم في تثبيت وقف إطلاق النار بشكل أفضل، وفي تشديد الضغط على الأسد وخامنئي، للحد من جموحهما لتهجير مزيد من السوريين، وتغيير البنية الديمغرافية، وإعادة بناء الدولة السورية على أسسٍ طائفيةٍ ومذهبية، وكذلك في فضح عملية التجويع المفروضة على سكان المناطق المحاصرة، أو الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة. ولو تحقق ذلك ستكون أستانة خطوة تمهيدية على طريق مفاوضات جنيف 3 في فبراير/ شباط المقبل، والتي هي بالتعريف مفاوضات سياسية.
ومع ذلك، لا ينبغي لهذه الخطوة أن تبعث فينا أوهاماً كثيرة بشأن ما يمكن أن ينجم عنها على طريق التقدم نحو الحل السياسي، إذا كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نفسه قد وصفها بأنها مبادرة هشة، فعلى الرغم من أن للروس مصلحة فعلية في تثبيت وقف إطلاق النار، بل في التوصل بالفعل إلى تسوية سياسية، تمكّنها من قطف ثمار جهودها العسكرية، وتجنبها السقوط في مستنقع الحرب الدائمة، على مثال حرب أفغانستان، إلا أنهم ليسوا مطلقي اليدين، وليس هناك أي ضمانةٍ في أن يستطيعوا السيطرة على مسار العملية التي أطلقوها، فوقف إطلاق النار وتوسيع دائرة الهدنة وتثبيتها ليس ممكناً من دون وجود توافقات أولية حول الرؤية السياسية لسورية ما بعد الأسد. وهذا ما لا تزال روسيا بعيدة عن تحقيقه، في وقتٍ تعلن فيه أطرافٌ عديدة رفضها تسويةً لا تلبي مطالبها كاملة على حساب الشعب السوري. ولا تخفي طهران، الطرف الرئيسي الذي أشعل فتيل الحرب، وعمل على تغذيتها وتوسيع نطاقها، وراهن على استمرارها، شكّها، بل رفضها مبادرةً روسيةً تخفّض من مستوى طموحاتها. وهي تعمل، منذ الآن، على تقويضها من خلال عدم الالتزام بوقف إطلاق النار، وانتهاك قرارات الأمم المتحدة، وتوقيع الاتفاقات الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية التي ترهن استقلال سورية وسيادة شعبها حتى تضمن سيطرتها على البلاد في المستقبل، مهما كانت الظروف وطبيعة الحل السياسي المنشود.
ولن يسلم الإيرانيون بسهولة بخسارة مشروعهم الذي كاد يتحوّل، في نظرهم، إلى حقيقة، بعد أن نجحوا في اختراق مؤسسات الدولة السورية واحتلالها من الداخل، وتقويض أي أسسٍ لاستعادة المجتمع السوري وحدته وتماسكه واستمراره. وبالمثل، لا يزال كثيرون من قادة نظام الأسد يعتقدون أن بإمكانهم المراوغة واللعب على روسيا، كما لعبوا من قبل على كل حلفائهم، وأخلوا بالتزاماتهم تجاههم في اللحظة المناسبة، لكسب الوقت واستعادة المبادرة والحرب لاسترجاع موقعهم في دولةٍ ورثوها بالقوة والحرب. سيظل الطرفان يراهنان على تعطيل أي تقدّم ممكن في أي مفاوضات، عسكرية أو سياسية، بأمل الخروج بنظام يعكس نفوذهم على الأرض، ويكرس احتلال الأمر الواقع الذي فرضوه على الشعب السوري.
خطوة مهمة لكن
لا تكفي رغبة الروس، أو مصلحتهم، في الدفع في اتجاه التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ، للوصول بالفعل إلى هذا الهدف. فمن دون قوة مؤثرة، أو بالأحرى استعادة المعارضة السورية، بمختلف أطرافها، القوة، لتوازن الضغط الإيراني، لن يكون من الصعب على موسكو أن تستبدل التسوية السورية السورية بالتسوية الدولية، وأن تجعل أقصى طموحاتها في المفاوضات إعادة توحيد القوى العسكرية التابعة للنظام، وتلك التابعة للمعارضة، لتوجيهها جميعا ضد القوى والمنظمات المتطرّفة. وهو أيضا الهدف المعلن للولايات المتحدة والغرب، قبل الرئيس دونالد ترامب وبعده، مع فارق وحيد، هو أن موسكو تريد، لدواعي استعادة دورها العالمي، أن تكون هذه التسوية، أو بالأحرى التصفية للقضية السورية، تحت إشرافها، حتى تضمن شرعنة سيطرتها على سورية وهيمنتها في الشرق الأوسط، وتظهر للغرب وللرأي العام الدولي قدرتها على اجتراح المعجزات السياسية والعسكرية، في الوقت والمكان الذي أخفق فيه الغرب قبلها، ولتقدّم نموذجاً مختلفاً عن الذي قدمه التدخل الغربي في العراق وليبيا.
ولا ينبغي أن يكون لدى المعارضة أوهام حول استعداد موسكو للتخلي عن النظام ورعاته الإيرانيين، حتى لو اضطروا إلى الضغط عليهم، لتقليص سقف تطلعاتهم. ولا يجب لتصريحات الروس التي تؤكد أنهم كانوا وحدهم وراء النصر الذي أنقذ دمشق من السقوط بيد المعارضة، أن تخدع أحداً حول حقيقة الموقف الروسي الرافض، من حيث المبدأ، أي نوعٍ من التحولات الديمقراطية التي تعطي هامشاً أكبر للتحركات الشعبية، والذي لا يؤمن أصلاً بأي سلطةٍ شعبية تمثيلية. لن تكسب المعارضة موسكو إلى صف مطالبها، ولن تثنيها عن عدائها الثورة الشعبية والديمقراطية، وتمسّكها بحكم الوصاية الداخلية والخارجية. وها هنا أكبر التحديات التي تواجهها المعارضة في دخولها في العملية السياسية.
حتى تستطيع المعارضة أن تفرض الحد الأدنى من مطالبها، وتنقذ نفسها من المعادلة الخانقة التي تجعل من الروس الخصم والحكم في الوقت نفسه، ينبغي ألا تستعجل النتائج، ولا تحلم
بالمستحيل، وأن تعمل، بسرعةٍ وثباتٍ، على مواكبة المفاوضات داخل أستانة، ثم في ما بعد في جنيف، وبشكل فعال، على ثلاثة محاور رئيسية: الأول عسكري، تظهر فيه وتؤكد قدرتها على الاستمرار والقتال في أي لحظة يفرض عليها من جديد. وهذا يحتاج إلى إعادة ترتيب أوضاع الفصائل وتوحيد قيادتها بالفعل، وإظهار تماسكها. وليس سوى هذه القيادة العسكرية الواحدة ما يستطيع أن يمنع الروس من اللعب على تعدّد الفصائل والرهان على شراء ولاء بعضهم، وعزل آخرين. وتوحيد القيادة ليس، ولا ينبغي أن يكون، من المهام المستحيلة، اليوم، ولم تعد تحول دونه الدول الرئيسية الداعمة.
والمحور الثاني خروج المعارضة السياسية من سباتها، والتغلب على شللها، وتجميع صفوفها لتفرض نفسها، لا طرفاً في المفاوضات الشاملة فحسب، وإنما بوصفها الممثل الحقيقي للشعب الذي ثار على الدكتاتورية، وضحّى بأغلى ما يملك من أجل التخلص من الطغيان وحكم الفساد والعسف والإرهاب والمجازر الجماعية. ففي وضعها الراهن، لن يكون في مقدور المعارضة أن تمارس أي ضغطٍ من أجل احترام حقوق الشعب السوري، وربما لن تكون لديها القدرة على فرض نفسها طرفاً جدياً في المفاوضات المقبلة. كما أن المعارضة لا تستطيع أن تفاوض من موقع القوة على إعادة بناء الدولة السورية على أسسٍ وطنيةٍ وديمقراطية، استجابةً لمطالب التظاهرات السلمية الأولى، من دون أن توحد موقفها، وتتبنى رؤية سياسية، تنبذ كل أشكال التمييز الطائفي والقومي، وتقبل أن تكون سورية الجديدة دولةً ديمقراطيةً لجميع أبنائها بالتساوي. ومن شان هذا أن يقضي، منذ البداية، على أي انحرافٍ في اتجاه تسويد منطق المحاصصة الطائفية، أو التقسيم المذهبي أو القومي، وأن يفتح أفق المصالحة الأهلية التي لا غنى عنها لاستعادة الوحدة الوطنية والسياسية للبلاد.
والمحور الثالث هو إعادة موازنة العلاقات الدولية، فالتسليم للروس وحدهم برعاية المفاوضات وعملية الانتقال السياسي يحرم المعارضة والشعب السوري من أي هامش مناورةٍ أو مبادرةٍ، وتفرض على المعارضة، مهما كانت مواقفها، خياراً واحداً هو الانسحاب، أو قبول الإملاءات الروسية. وهذا يتطلب من المعارضة إعادة بث الروح في تحالفاتها العربية، بما في ذلك احتمال اللجوء إلى قوات ردع عربية، لمواجهة إصرار طهران على تطبيع وجود المليشيات الطائفية التابعة لها، كما يتطلب تفعيل العلاقات الدولية، وعدم التضحية بجنيف من أجل أستانة، أو التفريط بالعلاقات التاريخية مع أوروبا والمجتمع الدولي والأمم المتحدة، حتى لو أن هذه العلاقات لم تكن على مستوى ما كان يُنتظر منها في السنوات الماضية.