النتيجة الهزيلة التي خرج بها مؤتمر آستانة تُظهر بوضوح أن أحد طرفي النزاع الرئيسيين، أي نظام الأسد، ليس جاهزاً بعد لمفاوضات فعلية تنتهي بحل سياسي يقود إلى سورية جديدة. فيما الأطراف الثلاثة «الضامنة»، ليست قادرة على التوافق في ما بينها على رؤية سياسية واحدة، سواء بالنسبة إلى سورية أو للمنطقة كلها، حتى لو اتفقت هذه الأطراف على آلية لتثبيت وقف إطلاق النار، وهو أمر مشكوك في فاعليته إلى حد كبير.
فالنظام جاء إلى المؤتمر لأسبابه واعتباراته، لكن بالدرجة الأولى مسايرة لروسيا التي تحاول جاهدة الظهور بمظهر المحايد، وتركز على شراكتها مع تركيا لأنها تعرف أن «الراعي» الإيراني ليس ضامناً ولا محايداً، بل هو منخرط حتى العظم في الحرب الدائرة منذ ست سنوات، ولديه تصور مسبق لما يريده من هذا البلد، وهو نفسه بحاجة إلى من يضمنه ويمنعه من التخريب.
وإذا كان النظام المستجيب لإلحاح موسكو المنقذة، يحاول استعادة بعض الصدقية أمام العالم، وتجنب الظهور بمظهر الرافض جهود التسوية، إلا أنه اكتفى في آستانة بترديد النغمة القديمة المستهلكة عن «محاربة الإرهاب» وضرورة الفصل بين التنظيمات، والتذرع بمشكلة المياه في دمشق لاستمرار حملة التطهير المذهبي الجارية على قدم وساق بأيدي «حزب الله» والميليشيات الإيرانية الأخرى.
فنظام الأسد لا يزال يعتبر الحل العسكري السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة، أي إخراج المعارضين تدريجاً من كل معاقلهم، وإجهاض ثورتهم، والحيلولة دون أي تغيير حقيقي. وهو تقييم تشاركه فيه إيران التي ترى أن الحفاظ على النظام السوري الطائفي الأقلوي يضمن استمرار نظام طهران نفسه.
وعلى رغم تشديد موسكو على دخولها مرحلة جديدة تقوم على محاولة إيجاد حل سياسي في سورية، وتبنيها خلال المؤتمر مواقف لتدعيم دورها المستجد، إلا أنها تنطلق من مفهوم خاطئ يعتبر أن التسوية السياسية يجب أن يسبقها بالضرورة وقف لإطلاق النار، علماً أن تجارب سابقة كثيرة في العالم لا تزكي هذا الاتجاه. وقد يساعد وقف إطلاق النار في تسهيل المفاوضات، لكن هذه لا تنجح إلا إذا كانت هناك رغبة سياسية فعلية مسبقة في التسوية يكون وقف القتال تتويجاً لها وليس العكس. وهذا ما لم يحصل في الحالة السورية بعد، بل إن المسعى الروسي في غياب الإرادة السياسية يشبه تماماً وضع العربة أمام الحصان.
وما لم تستطع موسكو انتزاع اعتراف علني من الأسد بضرورة التغيير السياسي ودخول مرحلة انتقالية تمهد لانتخابات تشريعية ورئاسية ودستور جديد، سيظل أي وقف لإطلاق النار رهناً برؤية النظام للحل وبضغوط طهران الهادفة إلى قطف ثمار استثماراتها في سورية منذ عهد حافظ الأسد وحتى اليوم.
ولهذا يفترض أن يطاول الضغط الروسي إيران أيضاً، بعدما بدأت بالرد على التنسيق بين موسكو وأنقرة عبر الاقتراب من القوات التركية المتوغلة في شرق حلب نحو مدينة الباب، ما يهدد بتوسيع الحرب وينزع صفة الحياد عن أنقرة ويجهض الجهود الروسية.
وفي المحصلة، يشكل مؤتمر آستانة محطة صغيرة وهامشية في مسار الأزمة السورية بانتظار أن تنتهي الإدارة الأميركية الجديدة من المرحلة الانتقالية التي قد تستمر بضعة أشهر. وفي غضون ذلك، ستظل «وصفات» إنهاء النزاع السوري تنقصها لمسة «كبير الطهاة»، إذا توافرت لديه الرغبة والوقت.
حسان حيدر
صحيفة الحياة اللندنية