كندا
هل تستطيع كندا أن تكون شيئا مختلفا عن مجرد الولاية الخارجية للولايات المتحدة؟ إن الأوضاع الاقتصادية لا تسمح بتصور كندا مختلفة عن ذلك، بالرغم من التقاليد السياسية البريطانية، والرفض الثقافى لكيبيك. ولكن الأشخاص الأكثر استنارة فى البلاد لا يتصورون فقط هذه الضرورة، وإنما يعملون على دفع الوعى بها. ولكن الطريق أمامهم طويل وصعب. ومهما يكن لطف شعب كيبيك ومهما تكن عدالة نضاله الثقافي، فإن القوى السياسية الرئيسية فى البلاد ـ مركزة على البعد اللغوى لمقاومته ـ لن تسمح بفك ارتباط اقتصاد كندا مع الجار الكبير. وهذا الجار لا يهتم، بناء على ذلك، باستقلال ذاتى لإقليم كيبيك، أو حتى باستقلاله. وستستمر الولايات المتحدة فى نهب الموارد الطبيعية الضخمة لكندا بما فى ذلك الماء لمصلحة التبديد الأمريكي، دون أن تعتبر هذه الموارد، مثل تلك الموجودة فى منطقة الأمازون، «ملكاً للبشرية جمعاء».
اليابان
وماذا عن اليابان؟ هذا بلد وضعه معاكس تماماً، فهناك اقتصاد رأسمالى مسيطر وفى الوقت نفسه، سيطرة ثقافة غير أوروبية. فأى من هذين البعدين سينتصر، التضامن مع الشركاء فى الثالوث (الولايات المتحدة وأوروبا) ضد بقية العالم، أم الرغبة فى الاستقلال بمساندة الروح «الآسيوي»؟ ويمثل التأمل فى هذا الموضوع وحده، مكتبة كاملة.
ويدفعنى التحليل الاقتصادي، وكذلك الجيو سياسي، للاستنتاج بأن اليابان ستبقى سائرة فى ذيل واشنطن. وكذلك ألمانيا التى استمرت كذلك حتى حرب العراق، ولأسباب مطابقة تقريباً. وتقوم العولمة السائدة وهو ما لا يقال أبداً تقريباً على عدم تماثل بين الشركاء الرئيسيين فى الاقتصاد العالمي. فمن جهة تحقق الولايات المتحدة عجزاً بنيوياً فى ميزانها التجاري، وهو عجز يغطى بالكامل تقريباً الفائض الاقتصادى لليابان وألمانيا والصين )هذا موضوع آخر لن أتناول نقاشه هنا. ويعد عدم التماثل هذا، أساس التضامن بين الشركاء الثلاثة فى المحنة، لآن القضاء عليه سيدفع الرأسمالية بكاملها إلى حالة من الفوضى غير المتصورة، لن تنجو منها الإنسانية إلا باختراع نظام جديد. ويبدو هذا التضامن قوياً ومتماسكاً، ليس فقط لأن الطبقات الحاكمة فى اليابان وألمانيا تعيه بوضوح، وإنما لأن شعبيهما يبدوان على استعداد لتحمل الثمن. فلماذا، وإلى متي؟
وتشير الإجابة السهلة على هذا السؤال، إلى التقاليد الأوتوقراطية، وروح الخضوع، والقبول بمبدأ عدم المساواة، الخ. وهذه جميعها حقائق تاريخية، ولكن هذه الحقائق ليست أبدية. والإجابة الأفضل فى رأيي، تشير إلى الاختيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة فى غداة الحرب العالمية الثانية، فقد قررت واشنطن ألا «تدمر» هذين الخصمين ـ اللذين كانا الوحيدين اللذين هددا تقدم الولايات المتحدة نحو السيطرة على العالم ـ بل أن تساعدهما على إعادة بناء ذاتهما، وتصيرا حليفين مخلصين لها. والسبب الواضح هو أنه كان هناك فى ذلك الوقت تهديد «شيوعي» حقيقى من الاتحاد السوفيتى والصين. وأضيف هنا بالمناسبة، أن القادة الجدد لروسيا لم يفهموا هذه الحقيقة، إن البعض منهم يعتقدون أنهم ما داموا قد اختاروا الرأسمالية، فإن روسيا تصير فى وضع مماثل لوضع اليابان وألمانيا، فقد خسرت الحرب، ولكن يمكن أن تكسب السلام، والمعركة الاقتصادية. وهذا معناه نسيان أنه فى ظل عدم وجود منافس خطير، فقد اختارت السلطة الأمريكية أن تدمر خصمها المهزوم بالكامل. وهى تسير فى هذه الخطة بكل تبجح مادام أن أوروبا تتبع خطاها دون أن تفهم أنها بذلك تسهم فى جعل أى مساس بالسيطرة الأمريكية أمراً أصعب بكثير.وللعودة لموضوع اليابان، هل توجد أية إشارة لرد فعل شعبى (ولا أقول شعبوى بالمعنى الديماجوجي)، أو وطنى (ولا أقول قومى بالمعنى الشوفيني)؟ فكيف يفكر الشعب الياباني، من وراء الأشكال التقليدية التى تدفع لرسم صور كاريكاتورية، أو الحديث عن «نهاية المعجزة» أو فقدان النَفَس للحزب الوحيد فى السلطة؟
بريطانيا وفرنسا
فهل هناك فرصة أكبر لحدوث التغيير فى أوروبا قبل الولايات المتحدة أو اليابان؟ أعتقد ذلك ـ من باب التخمين ـ دون التقليل من الصعوبات التى تعود لتنوع «الأوروبيين» وأود أن أشرح وجهة نظرى هنا.
والسبب الأول لهذا التفاؤل النسبى يرجع إلى حقيقة أن الأمم الأوروبية لديها تاريخ عريق، ومتنوع، تدل عليه التراكمات الهائلة من بقايا التاريخ الإقطاعى المؤثرة. وتفسيرى لهذا التاريخ يختلف بالتأكيد عن ذلك الذى تتبناه المركزية الأوروبية السائدة، والذى رفضتُ أساطيره (وأعتقد أنى دحضتها تماماً)، حيث طورت فى المقابل الأطروحة القائلة إن التناقضات ذاتها الخاصة بالمجتمع الإقطاعي، والتى تجاوزها اختراع الحداثة، مازالت تعمل فى أماكن أخري. ولكننى أرفض بنفس القوة الترهات «المعادية لأوروبا» التى يتشدق بها بعض المثقفين فى العالم الثالث الذين يحاولون إقناع أنفسهم بأن مجتمعاتهم كانت أكثر غني، وأكثر تقدماً، بل وأفضل من أوروبا الإقطاعية «المتخلفة». ومثل هذا الفكر، يتجاهل أن أسطورة العصور الوسطى المتخلفة، إنما هى ذاتها من نتاج نظرة الحداثة الأوروبية للخلف على تلك القرون.
وفى الحقيقة، فإن كان تاريخ أوروبا السابق للحداثة ليس أفضل منه فى مناطق العالم الأخريذ وفى رأيى أن المسارات التاريخية متشابهة أكثر مما يظن الكثيرون ـ فإنه بالتأكيد ليس «أسوأ» ولا أكثر تخلفاً. وعلى أى حال، فإن أوروبا بعبورها أولاً عتبة الحداثة، قد حققت منذ تلك الفترة إنجازات من غير المعقول إنكارها. ومن المفهوم أن أوروبا متنوعة، مثل بقية أنحاء العالم، والكثير من الأوروبيين الذين يراقبون خصائص الآخرين، دون أن يختصروها فى النموذج الفارغ المسمى بالشرقى (أورينتال)، يعمدون، رغم ذلك، إلى مقارنة الاختلافات التى يلحظونها «بنماذج» أوروبية يتخذونها مقياساً- أخذاً بمركزيتهم الأوروبية. وفى أوروبا المتنوعة هذه ـ رغماً عن الخطاب الفارغ المعادى للأمة من جانب «أنصار أوروبا» ما هى العناصر الإيجابية والسلبية بالنسبة لاحتمالات التغيير؟
إن إنجلترا وفرنسا هما صاحبتا مبادرة الحداثة، فهما المجتمعان اللذان بنياها ـ أى الحداثة ـ بشكل منتظم، وهذا التأكيد القاطع لا ينفى أنه كانت هناك لها جذور سابقة، خاصة فى المدن الإيطالية، وهولندا. كما أن مساهمة كل من فرنسا وإنجلترا فى بناء الشكل النهائى للحداثة الرأسمالية لم تكن متشابهة، بل دارت حول محاور مختلفة، حتى وإن كان من الممكن اعتبارها متكاملة.
وقد مرت إنجلترا بمرحلة مضطربة من تاريخها عند ظهور العلاقات الرأسمالية (المركانتيلية) الجديدة، فقد تحولت من «إنجلترا المرحة» الإقطاعية، إلى إنجلترا البيوريتانية (التطهرية) الأسيفة، فأعدمت الملك، وأعلنت الجمهورية فى القرن السابع عشر. ثم عادت الأمور إلى الهدوء، فعبرت مرحلة اختراع الديمقراطية الحديثة، حتى وإن كانت ريعية، فى القرن الثامن عشر، وبعدها فى القرن التاسع عشر، مرحلة التراكم التى افتتحتها الثورة الصناعية، دون صراعات كبري. لقد استمر صراع الطبقات بالتأكيد، وانتهى بالميثاق فى منتصف القرن التاسع عشر، ولكن دون أن تأخذ هذه الصراعات طابعاً سياسياً يهدد النظام فى مجموعه. ويستمر هذا الطابع كما هو ظاهر، حتى يومنا هذا.
أما فرنسا فى المقابل، فقد اجتازت المراحل ذاتها عبر سلسلة غير منقطعة من الصراعات السياسية العنيفة. فالثورة الفرنسية هى التى اخترعت الأبعاد السياسية والثقافية للحداثة الرأسمالية المتناقضة، وفى فرنسا تسيست صراعات الطبقات الشعبية ـ وإن كانت أقل تبلوراً منها فى إنجلترا حيث وجدت البرولتاريا الحقيقية الوحيدة فى أوروبا فى تلك الحقبة ـ فى عام 1793 ثم فى 1848، ثم 1871، وبعد ذلك فى عام 1936 حول أهداف اشتراكية بالمعنى الكامل للكلمة. وتحركات عام 1968 لم تحدث فى إنجلترا.
وهناك بالتأكيد الكثير من التفسيرات المقدمة لهذين المسارين المختلفين، ولن أتوسع فيها هنا. وقد شعر بها ماركس بقوة، ولم تكن صدفة أنه ركز أغلب تحليلاته على هذين المجتمعين، فركز انتقاداته للاقتصاد الرأسمالى بناء على خبرة إنجلترا، وانتقاده السياسة الحديثة على أساس تطبيقها فى فرنسا.
ولعل الماضى البريطانى يفسر الحاضر، فأى مراقب يرى بوضوح كيف يقبل هذا الشعب التدهور المستمر لمستوى معيشته بالنسبة لبقية شعوب أوروبا. وليس أقل خطورة، تدهور التعليم، وهناك الكثير من الأرقام التى تثبت ذلك. صحيح أن اللامساواة فى التعليم كانت دائماً فى بريطانيا أكثر منها فى فرنسا أو ألمانيا، حيث كان التعليم مخصصاً لأبناء الأرستقراطية مما منحه طابعاً متعالياً (أكسفورد، وكيمبريدج). وكانت إنجلترا الصناعية متأخرة بالمقارنة بفرنسا وألمانيا فيما يتعلق بالتعليم الابتدائي، أو حتى مجرد تعلم القراءة والكتابة. وبالتأكيد أن إنجلترا المعاصرة لا تنقصها المهارات العلمية، وتصل للقمة فى بعض فروع البحث، ولكن إلى جانب ذلك تشيع الشكلية الفارغة، خاصة فى العلوم الاجتماعية. ومع الأسف فهناك تطورات سيئة مماثلة فى بقية البلدان، وفى الجامعات الفرنسية على الأقل، وإن كان عدد الطلاب فى المرحلة العمرية 20 إلى 25 عاماً أكبر فى فرنسا بكثير.
كل هذا أقنعنى بأن الأمر لا يعود بالدرجة الأولى «لأفول الإمبراطورية» ولا لتدهور الصناعة (فهذه نتيجة وليست سبباً للوضع)، بقدر ما يعود لعدم تمسك البريطانيين بقيمة المساواة. وقد حاول حزب العمال البريطانى وقف التدهور فى المرحلة التالية مباشرة لانتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن يبدو أن هذه الصفحة قد طويت، ويقبل المجتمع البريطانى أن يرى مستقبله يتهرأ دون أن يبدو فى الأفق المنظور أثر لرد الفعل المقاوم.
ولعل هذه السلبية تعود لتحويل الكرامة الوطنية البريطانية نحو الولايات المتحدة، فهى لا تعتبر بالنسبة للبريطانيين بلداً أجنبياً مثل البلدان الأخري، بل هى تبقى فى نظرهم الابن العاق، المتوحش قليلاً. ومن المعروف أن بريطانيا اختارت منذ عام 1945، السير فى ذيل واشنطن. ولعل السيادة العالمية للغة الإنجليزية، تساعد على تحمل هذا التدهور، دون حتى إدراك مدى خطورته، والإنجليز يعيشون تاريخهم المجيد مرة أخرى فى شخص الولايات المتحدة.
إن التاريخ لم يصل لنهايته فى بريطانيا كما لم يصل فى أى مكان آخر، ولكننى أشعر أن هذا البلد لن ينضم لقطار التغيير، إلا إذا قطع الحبل السرى بينه وبين الولايات المتحدة، وليس قبل ذلك. ولا أرى أية علامة على ذلك فى الوقت الحالى .
د.سمير أمين
صحيفة الأهرام