خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، تعهد دونالد ترامب بأن الأشياء الجيدة فقط ستحدث في إدارته. وكان غامضاً بعض الشيء في تحديد ما هو الجيد وما السيئ على وجه الدقة. وفي هذا، كان بالضبط مثل أي مرشح رئاسي آخر. لكنه، على العكس من الكثيرين، قدم بعض التفاصيل عن القضايا التي تشغله وعرض رؤية استراتيجية أوسع. وكانت هذه الرؤية متضمنة في خطابته الفريدة من نوعها، لكننا نستطيع إذا استخلصناها أن نرى خريطة طريق واضحة. ومع أن خطاب ترامب يصنع مشكلة، فكذلك هو حال الخطاب السياسي الواضح تقليدياً، والذي لا يقول شيئاً. أقول هذا لأنني أعتقد أن المراقبين يميلون إلى رفض ما يقوله سلفاً. وهذه محاولة لفك رموزه.
تقول أطروحة ترامب الاستراتيجية المركزية أن الولايات المتحدة متمددة بإفراط. والسبب الأساسي لهذا الإفراط في التمدد هو أن الولايات المتحدة استبدلت نظام العلاقات متعدد الأطراف بتحليل حذر للمصلحة الوطنية. وفي هذه القراءة، تكون واشنطن مقيدة بعلاقات معقدة تضع مخاطر وأعباء على كاهلها عندما يتوجب عليها القدوم لتقديم مساعدات لبعض البلدان. ومع ذلك، فإن تلك البلدان لا تواكب التزامات الولايات المتحدة في القدرة، ولا في القصد.
يشكل حلف الناتو قضية واضحة. وكانت الولايات المتحدة منخرطة في حروب في أفغانستان والعراق وأمكنة أخرى في العالم الإسلامي، لكن حلف الناتو لم يقدم دعماً استراتيجياً حاسماً لهذه الجهود. ومع أن العديدين قدموا الدعم الذي استطاعوا تقديمه أو الدعم الذي أرادوا تقديمه، فإن مستوى ذلك الدعم كان أقل من قدرات أعضاء الناتو بكثير.
لدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نفس إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة تقريباً، وعدد سكان أكبر. ولديها أيضاً قاعدة صناعية كبيرة. وقد تجاوزت أوروبا الآن كثيراً أوضاعها عند تأسيس حلف الناتو، عندما لم تكن قادرة على الدفاع الجمعي من دون الولايات المتحدة. وأخذ أعضاء الناتو تحمل واشنطن العبء الرئيسي للدفاع بحكم المسلمات، والذي لا يقاس بحجم الدولارات التي يتم إنفاقها فقط، وإنما أيضاً بتطوير القدرات العسكرية.
وعلى قدر مساو من الأهمية، كان النشاط الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة للأعوام الخمسة عشر الماضية متركزاً في العالم الإسلامي. وكان العديدون في حلف الناتو قد اعترضوا على العملية الأميركية في العراق، وباستثناء المملكة المتحدة، قدموا النزر اليسير من الدعم أو لم يقدموا أي دعم. ولا يوجد أي التزام لدى أعضاء التحالف بالانضمام إلى الصراعات التي تبادر إليها الولايات المتحدة خارج منطقة تركيز الناتو. ويقبل ترامب بهذا المبدأ، لكنه يشير إلى أن المنظمة كانت غير ذات صلة بالاحتياجات الاستراتيجية الأميركية. وحيثما انخرط التحالف، فإنه فعل ذلك بقوة أصغر بكثير من أن تشكل قوة استراتيجية. وحجتهم المنطقية القائمة على أن التحالف الذي يضم 28 عضواً لا يتعهد بأي التزامات بالانخراط “خارج المنطقة”، والتي لا تتم وفقاً للمادة 5، تثير السؤال: ما هي إذن قيمة الناتو بالنسبة للولايات المتحدة؟ في المجموع، يفتقر حلف الناتو إلى القدرات الاستراتيجية الكبيرة، كما أن التحالف معرف بطريقة يستطيع أعضاؤه، بل ويختارون تجنب تلك الصراعات التي تهم أميركا أكثر ما يكون.
ولذلك، من غير الواضح ما إذا كان حلف الناتو كما هو شكله حالياً يشكل قيمة للولايات المتحدة. المعروف أن الولايات المتحدة مسؤولة عن الدفاع عن أوروبا. وفي المقابل، لا تتحمل أوروبا مسؤولية الدفاع عن المصالح الأميركية، الموجودة اليوم خارج أوروبا. ويعتقد ترامب بأنها تجب إعادة التفاوض على هذه العلاقة بشكل متبادل. وإذا كان الأوروبيون غير راغبين في إعادة التفاوض، فيجب على الولايات المتحدة عند ذلك الخروج من الناتو وتطوير علاقات ثنائية مع البلدان التي تكون قادرة على -ومستعدة للعمل مع الولايات المتحدة في مناطق مصلحتها القومية في مقابل ضمانات من واشنطن. كما يجب إعادة فحص علاقاتنا الدولية فيما يتعلق بالتحالفات مع اليابان وكوريا الجنوبية، لضمان أن تبقى هذه العلاقات ذات قيمة لكلا الطرفين وأن يعكس مستوى الجهد والمخاطرة تلك القيمة.
مزايا التجارة
تصح نفس وجهة النظر على سياسة ترامب المتعلقة بالتجارة الخارجية. من غير الواضح ما إذا كان نظام التجارة الدولية الحالي يفيد الولايات المتحدة. فالتجارة الدولية ليست غاية في حد ذاتها، وإنما يجب أن تخدم مصالح كل طرف. وعند هذه النقطة في التاريخ، فإن الحاجة الاقتصادية الرئيسية في الولايات المتحدة هي خلق علاقات تجارية تخلق الوظائف في الولايات المتحدة. لم يعد الهدف السابق المتعلق بالنمو المتراكمي لاقتصاد ما مقبولاً من دون أخذ التداعيات المجتمعية بعين الاعتبار. ولذلك، لم تعد الشروط التي أُبرمت بموجبها معظم الاتفاقيات التجارية الدولية مقبولة. صحيح أن التجارة الحرة قد تزيد من إجمالي الناتج المحلي، لكنها لا تتعامل مع القضايا المجتمعية الحساسة.
لذلك، تعتبر اتفاقيات التجارة الحرة الكبيرة متعددة الأطراف أعقد كثيراً من أن تصب في المصلحة الأميركية. وثمة حاجة لأن يتم تجنبها لصالح المعاهدات الثنائية أو لصالح اتفاقيات أصغر مثل “نافتا”، التي تمكن إعادة تأطيرها لخدمة المصلحة الأميركية الراهنة. وفي هذه المفاوضات، تتمتع الولايات المتحدة، التي تنتج حوالي 25 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، باليد العليا. ويجب أن يكون مكمن الاهتمام الرئيسي للولايات المتحدة هو نفس ما لدى البلدان الأخرى: علاقات تجارة تعود عليها بالفائدة، وليس التزاماً مجرداً بالتجارة الحرة.
إلزام الصين
تشكل الصين حالة خاصة. فهي اقتصاد ضخم يعتمد بشكل عالٍ على الصادرات إلى الولايات المتحدة. وقد وفرت بيئة تتمكن معها الشركات الأميركية من تحويل منتجاتها وزيادة عوائدها وأرباحها بينما يتم تفريغ القاعدة الصناعية الأميركية. ولن يستمر هذا الوضع. فعند هذه النقطة، يظل الاعتماد الصيني على الولايات المتحدة أكبر بكثير من العكس. وبالإضافة إلى ذلك، تتمتع الولايات المتحدة بميزة استراتيجية على الصين، والتي تتجلى في رغبة ترامب برفض مفهوم صين واحدة. وتتمتع الولايات المتحدة حاليا بالميزة الاقتصادية والاستراتيجية للتفاوض على علاقة جديدة مع الصين، وبالتالي فرض ذلك التفاوض.
نهاية تعدد الأطراف
يتجلى الهاجس المركزي للولايات المتحدة في السياسة الخارجية –والذي تشاركها فيه بلدان أخرى- في التركيز على التطرف الإسلامي، وخاصة في تجليه الأحدث: “داعش”. ويشكل “داعش” تهديداً يقلل البعض من شأنه، لكن ترامب يعتبره تهديداً لا يمكن تحمله لسببين. أولاً، أنه يمكن تصعيد الهجمات، كما أظهرت خبرة 11/9. ثانياً، أن العبء النفسي للإرهاب هائل. ولا يمكن هزيمة التهديد الإرهابي من دون جلب قوة طاغية إلى الشرق الأوسط. ولا يشكل العيش مع الإرهاب إلى أجل غير مسمى خياراً. ولذلك، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها تكوين قوة جامحة.
تبدو الولايات المتحدة مستعدة للعمل مع أي حليف يكون مستعداً لتكريس موارده لخدمة هذه الغاية ولتقاسم المخاطر. ويشمل ذلك روسيا التي تعاني من مشكلة داخلية مع الإرهابيين الإسلامويين، وتتوافر على قدرات كبيرة يمكنها استخدامها. ويرى ترامب أن المصالح الأميركية والروسية تتلاقى. وباستطاعة واشنطن وموسكو الاتفاق على تحييد أوكرانيا: حيث تكون لكييف روابط اقتصادية وسياسة مع الغرب، لكن أوكرانيا لن تكون جزءاً من أي نظام تحالف ولا قاعدة لقوات غربية. وتريد الولايات المتحدة منطقة فصل لحماية حلفائها في أوروبا الشرقية، في حين تريد روسيا درجة من الحكم الذاتي في شرقي أوكرانيا والحفاظ على مصالحها في شبه جزيرة القرم، حيث لديها حقوق قانونية في سيفاستوبول. وتمكن إدارة الموضوع الأوكراني في سياق عممليات مشتركة معادية للإسلامويين. ومن الطبيعي أن يكون ترامب واعياً للمشاكل الاقتصادية في روسيا، ويرى فيها رافعة تمكنه من إنجاز هذه الغاية.
بالنسبة لترامب، يمكن المفتاح في إدراك أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من تعدد الأطراف قد انتهت، وأن الاستمرار في العمل بخلاف ذلك يضر بالمصالح الأميركية بعدة طرق. وتظل هجمات 11/9 بالنسبة للولايات المتحدة لحظة تعريف، ولا تعني 15 عاماً من العمليات غير المرضية في الشرق الأوسط أن التوصل إلى حل غير ممكن. ونظراً لأن أعضاء الناتو إما غير راغبين في الالتزام بهذا الجهد أو لديهم القليل للالتزام به، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى دول أخرى لديها نفس الاهتمام، وفي مقدمتها روسيا.
قال ترامب فعلياً معظم هذه الأشياء بطريقة غير مترابطة. لكننا إذا تجاهلنا الأخطاء الخطابية ونظرنا إلى جوهر ما قاله، فإنه يتوافر على سياسة خارجية مترابطة ومتطرفة. فترامب يقترح إعادة تعريف للسياسات الخارجية الأميركية استناداً إلى الحقائق الراهنة وليس تلك التي تعود وراء إلى 40 عاماً مضت. وهي سياسة خارجية يتم فيها الوصول بالقوة الأميركية إلى أقصاها من أجل تحقيق الغايات الأميركية.
أما إذا كان سيتابع ذلك وهو في المنصب، أو ما إذا كان يشكل سياسة جيدة، فهو ليس بيت القصيد: أما أن تتوافر تصريحاته على سياسة فعلية جداً في ثناياها، فهو النقطة الرئيسية. وهي أيضاً ليست سياسة حمقاء. كانت السياسة الأميركية ملتزمة برد فعل انعكساسي بترتيبات عمرها ثلاثة أرباع القرن. وقد تغير العالم، لكن شكل السياسة الخارجية الأميركية لم يتغير. أما ترجمة ذلك إلى واقع، فسيكون، بالنسبة لترامب مسألة أخرى.
جورج فريدمان
صحيفة الغد