هذا العنوان ليس لي، بل لأبي الحسن بني صدر الرئيس الأول لجمهورية إيران الإسلامية، بعد ثورة عام 1979. وربما كان يريد من وراء ذلك إيضاح حدود صلاحياته رئيسا للجمهورية، في مقابل زعامة الخميني الأسطورية آنذاك. وبالطبع فإن ذلك كان وهما من الوهم. فحتى آية الله منتظري المنظِّر البارز لولاية الفقيه، ما كان يتوقع أن تلغي سلطة الخميني باسم الدين والمذهب، كل سلطة أخرى مهما كانت تلك السلطة (السياسية) ضئيلة أو هامشية. وهكذا فإن تسلُّم السلطة باسم الدين – وليس عند المسلمين فقط – يلغي السلطات الأخرى، ويُحدثُ صراعات بين الطرفين، لا تنتهي إلا بنهاية سلطة أحدهما. البابوية عند الكاثوليك على سبيل المثال، ما كانت مُلْغيةً لسلطة الملوك، وإنما كان البابا يريد أن يكون هو رأس النظام أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وواهب الشرعية باسم الدين للأنظمة الملكية القائمة. لكن الصراع نشب على مدى 6 قرون ونيِّف، إلى أن بدأت الكفة تميل لصالح الأنظمة الدنيوية في القرن السادس عشر. وما حدث هذا الرجحان بسبب قوة الملوك؛ بل لأن الكنيسة انقسمت من الداخل في حركة الإصلاح البروتستانتي المعروفة. وكان الانقسام سببه الخلاف بشأن مهام الدين ووظائفه ومقاصده، وبشأن مهام رجال الدين الذين اعتبروا أنفسهم وسلطاتهم هي الدين ذاته! ثم جاءت الثورة الفرنسية لتقلب الأمور رأسا على عقب، حين زعمت أو زعم منظِّروها أن الناس ليسوا بحاجة للدين في هذه الدنيا، وبالتالي لا حاجة لرجالاته أو لكنيسته! وبالطبع، ما كان ذلك صحيحا. إنما خلال نحو القرن ظهرت حدود شبه واضحة لعلائق الدين بالمجال العام. فالعلمانية في الحقيقة عندما استتبت في أوروبا أخيرا، ما كان هدفها إلغاء الدين، بل إجراء ترتيبات لإيقاف التنازع بين السلطتين على المجال العام؛ أو وضع حد فاصل بين الدين والسياسة، وبين الكنيسة والدولة، وهذا الأمر هو الذي رجاه أبو الحسن بني صدر وغيره في المجال الإسلامي، وفي الأزمنة المعاصرة، وفشلوا فيه.
لماذا نقول ذلك هنا والآن؟ لأن الدين الإسلامي يشهد ثورانا يريد إلغاء الفواصل والحدود بين الدين والدولة، لصالح دعاة الدين وأحزابه. وقد أفضى هذا الثوران إلى إقامة الدولة الدينية في إيران، في حين لا يزال يصارع من أجل ذلك في العالم الإسلامي السني. كيف جرى ذلك ولماذا؟ بخلاف الكاثوليك؛ فإن تلك الدعوى في الإسلام الحديث أتت من خارج المؤسسات الدينية في الأصل، وجرت لدى السنة قبل الشيعة. وأصلها الزعم أن الدين والدولة كانا شيئا واحدا في الإسلام القديم، وأنه جرى انحراف وفصل وتغييب للدين عن الدولة وفصامٌ نكِدٌ، وأنه لا بد من تصحيحه. وقد اقتضى ذلك الحملة على «التقليد» والحملة على «التغريب» في الوقت ذاته. ولأن المؤسسة الدينية قائمة على تجربة تاريخية عريقة في التمايز والتراتب بين المجالين ومهمات كل منهما؛ فإن الخروج على «التقليد» من جانب المتشددين الجدد، والتنويريين الجدد، ترك المؤسسة ضعيفة ومنقسمة العقل والتوجه. في حين سارعت المؤسسة الدينية الشيعية (التي تختزن عقيدة الإمامة المعصومة والمؤجلة) إلى اقتباس فكرة استعادة السلطة والشرعية التي ابتدعها الإسلاميون السنة، وأقامت في ثوران شعبي جارف دولة دينية في إيران، مثالها الإمامة المعصومة، وممارستها مماثلة لممارسات الأنظمة الكوربوراتية والشمولية المعاصرة إنما باسم الدين.
إن التعليلات العقدية والكلامية لذلك معروفة، وهي تتلخص بأنه لا بد لاستعادة الشرعية من تطبيق الشريعة، التي جرى الانحراف عنها في تقاليد المؤسسة الدينية عندما أقرت التمايز والتداخل والتراتب. ثم اكتمل الانحراف بسيطرة الغرب وعلمانياته وفصله على مقدرات الإسلام والمسلمين في القرنين الأخيرين، فزالت كل «بقايا» الشرعية الإسلامية! ومع هذه التعليلات والذهنيات ما كان هذا التحويل المفهومي سهلا، ليس بسبب قوة التقليد لدى السنة والشيعة فقط؛ بل ولأن الدولة الوطنية الجديدة الطالعة في ديار الإسلام كانت ذات شعبية جارفة، لأنها صارعت الاستعمار، وبدأت بإقامة مؤسسات لدولة حديثة ذات جمهور واسع. لكن بسبب الضغوط القاسية التي تعرضت لها الدولة الناشئة من الاستعمار المنتشر الذي أراد الاحتفاظ بامتيازاته، وظروف الصراع بين الجبارين في الحرب الباردة؛ فإن المرحلة الأولى من زمن الدولة الوطنية انتهت لصالح العسكريين والأمنيين في سائر ديار العرب والمسلمين، بحجة أن هؤلاء كفيلون بإنجاز ما عجز عنه مناضلو الاستقلال والتلاؤم مع الغرب. والقصة بعد ذلك معروفة. فقد فشل العسكريون خلال 3 عقود في كل شيء تقريبا.
ماذا يحدث الآن؟ هناك صراع عنيف على المجالات المجتمعية والسياسية والاستراتيجية في العالم العربي له 3 حلقات أو دوائر: الصراع من أجل إقامة دولة دينية. والصراع على المجال السياسي بين قوى الأنظمة القائمة والفئات الجديدة، والصراع على المجال الاستراتيجي العربي. في الدائرة الأولى (إقامة الدولة الإسلامية) صار الصراع خرابا بحتا وذلك لعدة أسباب: البون الشاسع بين الأفكار والممارسات. فدار الإسلام في مثالاتها هي دار السلام الشامل؛ بينما صارت في الواقع مكانا محاصَرا ومحاصِرا لأكثر الناس باسم فرض الدين عليهم وهم مسلمون. والسبب الثاني لهذا الخراب الذي قادت إليه «الدولة الإسلامية» استعداء العالم بالعنف المستطير، بحيث بدت الأنظمة الاستبدادية أقل سوءا أحيانا. والسبب الثالث: التصارع داخل المشروع السياسي والجهادي للدولة الميمونة بين الفرق والأحزاب، والصراع السني/ الشيعي بين الفكرتين والاعتقادين عن الدولة ظاهرا (إمامة أو خلافة)، بينما هو صراع طائفي في الحقيقة ليس على «المثال»؛ بل على الأرض والمجتمعات والسلطة. أما الدائرة الثانية فقد كانت هي الأبرز قبل 4 سنوات، إذ قامت حركات مدنية ضد الاستبداد العسكري والأمني. بيد أن الإسلام السياسي والجهادي وصعودهما معا من جديد، والتدخلات لصالح الأنظمة من الخارج، وعدم قدرة الشباب على المقاومة السلمية الطويلة الأمد؛ كلُّ ذلك صنع مجالا هائلا للعنف والدمار، نافس ولا يزال عنف «الجهاديين». وأما الدائرة الاستراتيجية فنعني بها الصراع على المجال الجيوسياسي والجيوثقافي العربي. وهو صراع دخلت فيه عدة قوى إقليمية ودولية، وبسبب انهيار المناعة التي ظهرت في الدائرتين الأوليين.
إن معظم الدول العربية موضوعة ضمن الدوائر الثلاث من حيث احتمالات الصراعات وتوقعاتها بين الديني والطائفي، وبين المدني والأمني، وبين الانتماء والتحديات الاستراتيجية. وكل عامل من هذه العوامل لا يقبل الشراكة، ويفضل الخراب على الخضوع: وبخاصة الأصوليات. هذه الحقيقة أثبتتها تجارب كثيرة، ومنها تجربة أبو الحسن بني صدر المقيم في المنفى منذ ثلاثين عاما ونيف. إذ في المجال العام لا إمكانية للشراكة بين رجل الدولة ورجل الدين!
رضوان السيد
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية