خدعة الأغلبية الطائفية في العراق

خدعة الأغلبية الطائفية في العراق

تحولت معظم التقاليد السياسية الطائفية التي قدمها المحتل الأميركي عن قصد ودراية ضمن هديته سلطة الحكم للأحزاب الشيعية في العراق إلى قوانين مفروضة على الشعب بقوة السلاح وليس الدستور رغم هزالته. قُدمتْ لهؤلاء وسيلة السلاح والعنف كخيار رئيسي لأنه لم يكن يمتلك مشروعا للبناء والتطوير بل التدمير الذي ابتدأ بزمنه الاحتلالي السيء.

كانت سياسة نظام ولي الفقيه الإيراني أكثر شراسة وأقسى وأمرّ من ممارسات المحتل الأميركي على يد أتباعه في العراق ممن ادعوا مناصرة المذهب والتشيّع تنفيذا لسياساته التوسعية حيث ادعى الولاية على المسلمين داخل إيران وخارجها رغم أن الطائفة الشيعية هناك لا تمتلك الأغلبية العددية، النظام لا يناصر غير الشيعة التابعين له ويحارب الشيعة العرب في العراق، دليل سياسته الاستعبادية انحيازه لأرمينيا ضد أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية.

هذا الإكراه والتجبّر على العراقيين بفرض حكم الأحزاب الشيعية الموالية لطهران لم يحصل صدفة أو ناتجا عن إفرازات انتخابية محلية شخّصت لأول مرة في تاريخ عراق ما بعد 2003 اغتراب القوى الولائية عن الناس وعن جمهورهم الشيعي الخاص في نتائج انتخابات 2021، هذا التوصيف ليس تعبيرا عن نظرية المؤامرة، بل هو مظهر من سياق سياسي ممنهج وحقائق نقلتها وقائع ما تعرض له العراق الحديث أخطرها احتلاله عسكريا عام 2003 بشراكة أميركية – إيرانية.

ليس من باب التعظيم القول بأهمية العراق فهو مركز صراع إقليمي ودولي إضافة إلى عمقه الحضاري ما تتوفر فيه من عناصر وأدوات الحياة المعاصرة القادرة على إنهاء عوامل التخلف والجهل والتفكك وظروف الحروب العبثية إذا ما قادته دولة مدنية ديمقراطية ذات سيادة حقيقية خادمة لشعبها، لا أن تحتله دولة كبرى ادعت انفرادها بالقوة العالمية وحوّلت وجعها من إرهاب القاعدة في واقعة عام 2001 للتحالف مع طهران الموجوعة من هزيمتها أمام جيش العراق كتبرير لتحالف الشر في احتلال العراق وتدميره.

ليست مشكلة العراقيين كشعب أن تكون غالبيتهم السكانية شيعة أو سنة أو حتى أكرادا، فاللحمة الاجتماعية والهوية الوطنية العراقية الجامعة هي المقياس الحقيقي لحياتهم في ظل نظام مدني يخدم كل الشعب بلا فوارق

قبل احتلال العراق بعقد زمني وُضعتْ الأرضية الفكرية والسياسية في واشنطن لتدميره عبر تفكيك مجتمعه طائفيا من قبل دوائر اليمين المحافظ بزعامة صقور الحرب ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وولفيتز وتلميذهم الميداني الأفغاني الأصل زلماي خليل زادة في استحضار مغشوش لفكرة المظلومية الشيعية التي سبق لمحتلي العراق الإنجليز أن رعوها وشجعوها خلال صراعهم مع العثمانيين وطردهم بالحرب من العراق والمنطقة.

لهذا استقبلت دوائر الاستخبارات والبحوث الأميركية وشجعت عددا من الباحثين ومنظري الفكر السياسي التقليدي والمتجدد المتناغمين مع مشروع تفكيك المنطقة والعراق، بصورة خاصة إثنيا وعرقيا، للسيطرة والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط والعراق بصورة خاصة وتحويل بذور التنوع الطائفي في هذا البلد إلى مادة للصراع السياسي ظاهره تقاسم السلطة، وحقيقته إعادة العراق وأهله إلى أرذل تقاليد التخلف التي تسبقها حياة القبائل في أدغال أفريقيا بقرون.

كانت المناورة الفكرية والسياسية تدور بين خياري هيمنة شيعة إيران على السلطة في العراق أو تقسيمه إثنيا إذا ما تمرّد السنّة ولم يُدجّنوا مثلما حصل في أعوام ما بعد نتائج انتخابات 2010 الهزلية. يبدو أن خيار هيمنة شيعة إيران على السلطة في بغداد مازال هو المُفضل على خيار تقسيم العراق.

أواخر الثمانينات كان من أمثلة هؤلاء الأميركان المنظرّين المناهضين لوحدة العراق وانسجام مكوناته وتشجيعهم لفكرة تقسيمه، مايلز كوبلاند والمستشار في البيت الأبيض آلن توبول الذي قدم بعد نهاية الحرب العراقية – الإيرانية خارطته لتقسيم العراق داعيا للإسراع بتقسيمه قائلا إن “عدد دول العالم حاليا 193 دولة وليست هناك مشكلة إذا أصبحت 196 دولة، في إشارة إلى 3 دويلات ناتجة من تقسيم العراق”. فيما روّج خليل زادة للفكرة التي يحييها الآن الرئيس جو بايدن الداعية إلى تقاسم النفوذ بين إيران خامنئي والولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.

عام 2002 كشف مركز ستراتفور للدراسات أن الاستراتيجية الأميركية بعيدة المدى التي تعقب غزو العراق هي تقسيمه إلى ثلاث مناطق منفصلة منطقة سنية في الوسط تنضم إلى الأردن، ومنطقة شيعية في الجنوب تنضم إلى الكويت أو إيران، ومنطقة كردية ضمنها الموصل وكركوك. لهذا لم يخرج مشروع التقسيم الطائفي للرئيس الأميركي بايدن والمصادق عليه من الكونغرس من فراغ.

كان من الضروري أيضا ترويج فكرة الغالبية الطائفية الشيعية على أيدي مفكرين وصحافيين عراقيين وعرب، أولهم الكاتب اليهودي حنا بطاطو الذي وقع في الأخطاء التاريخية لفكرة الأغلبية السكانية للشيعة في العراق، فلم يستند على وقائع إحصائية لسكان العراق، بل تحوّل ظنّه إلى مصدر اتبعه الآخرون في استغلال مُغرض للظروف السياسية الطارئة التي مرت بالعراق من بينها غياب الديمقراطية الحرة داخل البلد خصوصا بعد اجتياح صدام للكويت عام 1990.

رغم ليبرالية الكاتب العراقي حسن العلوي لكنه وقع في محظور فكرة “الغالبية الشيعية” دون استناده على حقائق إحصائية معتبرة بل بردود فعل ظرفية، أو الكاتب اللبناني إسحاق النقاش الذي رسّخ المظلومية الشيعية، وتأسف في كتابه “شيعة العراق” على عدم قيام الدولة الشيعية في العراق منذ أوائل القرن الماضي قبل قيام الدولة الملكية المدنية.

تسويق الأغلبية العددية للشيعة في العراق هدف سياسي سبق أن قدمه المحتلون الإنجليز للعراق في وقت مُبكّر حيث رفض السياسي الوطني كامل الجادرجي هذا المنهج الطائفي قائلا “إن تشجيع الإنجليز للشيعة كان يجري بمختلف الأشكال ومن أمثلة ذلك تحريضهم على جعل الطائفية مَثَلهمْ الأعلى”. وتساءل: لمَ لمْ يؤخذ بأرقام إحصائية لنفوس العراق في ولاياته الثلاث بغداد والبصرة والموصل التي نشرت سنة 1920 عن حكومة الاحتلال الإنجليزية التي أظهرت أن نسبة السُنّة 48.81 في المئة، ونسبة الشيعة 42.31 في المئة، ونسبة اليهود والنصارى 7 في المئة، ونسبة الأديان الأخرى أقل من 2 في المئة.

قبل احتلال العراق بعقد زمني وُضعتْ الأرضية الفكرية والسياسية في واشنطن لتدميره عبر تفكيك مجتمعه طائفيا من قبل دوائر اليمين المحافظ بزعامة صقور الحرب ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وولفيتز وتلميذهم الميداني الأفغاني الأصل زلماي خليل زادة

الخيار العملي الذي تحقق بعد عام 2003 بصورة أذهلت المسؤولين الأميركيين عن الملف العراقي وبعثت الارتياح في نفوسهم سرعة صعود الشيعة الموالين لطهران حيث ولدت الميليشيات المسلحة، وقلّدت ميدانيا وسائل الاحتلال الأميركي في القتل الجماعي والتغييب الفردي من خلال فرق الموت وسجون وزارات الحكم الجديد، إلى جانب الخدمات الخيالية التي قدمتها لهم إجراءات وقوانين الاحتلال الأميركية السائدة بحماسة لحد الآن، مثل قرار حل الجيش الوطني العراقي وفرض العقوبات الجماعية ضد منتسبي حزب البعث المنحل.

لم يتم بناء الأطر السياسية المحلية المُشجّعة والمُشرعنة للهيمنة الإيرانية في العراق بمعزل عن المشروع الاستراتيجي بالإذعان لفكرة الأغلبية العددية الطائفية، هذه النظرية الطائفية لكي تأخذ مداها الواقعي كانت بحاجة إلى عمليات تغيير ديموغرافي في المناطق العربية السنية، وتهجير سكانها بالقوة من مناطق عيشهم التاريخية مثال ذلك مدينة جرف الصخر القريبة من العاصمة بغداد أو حاليا فيما يسمى بحزام بغداد ومدن سامراء وتكريت والموصل وديالى. إلى جانب تكريس أزمة النازحين من المحافظات التي احتلها داعش عام 2014 وتوطين مئات الألوف من الإيرانيين المجنّسين كعراقيين.

لكي تسوّق فكرة الغالبية الطائفية العددية “الشيعية” ويتم الإذعان لوهمها على مستوى الفعاليات السياسية ومَفصَل الانتخابات لا بدّ أن تتحول تلك التقاليد المزوّرة إلى حقائق سياسية مفروضة في زمن هيمنة أدوات الاحتلالين الأميركي والإيراني، فيصبح رئيس الوزراء شيعيا مواليا لطهران، ورئيس الجمهورية كرديا مواليا للقيادة التاريخية الكردية والسنيّ مواليا متعدد الرؤوس، وأن تبقى سيادة الحكم لشيعة إيران رغم رفض شيعة العراق الموالين لوطنهم.

ليس غريبا أن نسمع اليوم من المهزومين في الانتخابات الأخيرة عبارات ومصطلحات مباشرة لا علاقة لها بالتقاليد الديمقراطية التي أعلنوا التزامهم بها كقصة الأوزان السياسية وليست الانتخابية رغم انكشاف تلك الأوزان وعزلة تلك القوى عن الشعب، أو الأطروحة الطائفية الغالبية الشيعية وليست الأغلبية الوطنية أو أن هذه الدولة الشيعية هي دولتنا ولا نسمح بالتفريط بها، لسبب بسيط هو أن مقتدى الصدر طرح مشروعا عراقيا إن صمد خلفه سيؤسس لميلاد مشروع عراقي متوازن لا طائفي حتى وإن كان مُنظره وقائده شيعيا.

ليست مشكلة العراقيين كشعب أن تكون غالبيتهم السكانية شيعة أو سنة أو حتى أكرادا، فاللحمة الاجتماعية والهوية الوطنية العراقية الجامعة هي المقياس الحقيقي لحياتهم في ظل نظام مدني يخدم كل الشعب بلا فوارق. لعل شيعة العراق الأصلاء هم أول من واجهوا سياسة حكم الأحزاب وميليشياتها التي قتلت وجرحت الآلاف من أبناء الشيعة الشباب لأنهم رفضوا النظام وتبعيته للنظام الإيراني الذي يسوّق خرافة الأغلبية الطائفية لأغراض المنافع السياسية وتشبث وكلائه بالسلطة.

العرب