وعلى الرغم مما له من أهمية، واستقباله بترحيب من معظم الأطراف الفاعلة على الساحة الفلسطينية، بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان ما زال موقفهما ملتبسًا من كل ما يخص منظومة العمل الدولي؛ فإن القرار لم يسلم من التشكيك حتى الهجوم، وكان لافتًا أن عددًا من هؤلاء المشككين والرافضين؛ من معارضي محمود عباس في فتح، ومنهم من شغل مناصب قيادية في السلطة الوطنية.
لماذا القرار مهم؟ وهل يستحق أن يرحب به لا فريق السلطة وحسب، بل حتى المعارضة، وإن كان ترحيبها حذرًا؟ وهل من وجاهة في نقد وجّه له، ووصل إلى حد اعتباره بمثابة مؤامرة؟
بداية، لا بد من التأكيد على أن القراءة الموضوعية لنص القرار، تقتضي أخذ عوامل ومحددات عدة بالاعتبار، تتعلق بالتوازنات الدولية، والواقع العربي والفلسطيني الراهن، وطبيعة منظمة الأمم المتحدة وآلياتها، والقانون الدولي بما فيه الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة، وحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة. وأي قراءة لا تأخذ ذلك كله بالحسبان هي غالبًا؛ إما انعكاس لفكر وخطاب دوغمائي جامد، “صالح لكل زمان ومكان”، يقف أصحابه على ضفة نهر الحياة، ولا تبتل أقدامهم بمياهها، سِمَتهم المزاودة والتشكيك في كل شيء، أو قراءة مغرضة، يُعلي أصحابها مصالحهم السياسية الخاصة الضيقة على مصلحة القضية.
إيجابيات وأهمية استثنائية
أولى إيجابيات القرار في توقيت صدوره، وإسرائيل تواصل مد بساط مستوطناتها على أراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس، وتهويد المدينة المقدسة وطرد سكانها العرب بوسائل شتى، كذلك جاء وحركة المقاطعة الشعبية لإسرائيل في العالم وحملاتها النشطة في دولٍ كثيرة في تصاعد مستمر، ومن المتوقع أن يكون القرار سندًا قويًا لها لترويج مقاطعة دولة الاحتلال شعبيًا ورسميًا على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وباتخاذ خطوات قانونية في المحاكم الوطنية داخل عدد من الدول، خصوصاً الأوروبية ضد إسرائيل وقادتها. وهو ما يُعوّل عليه اليوم أكثر بما لا يقاس من التعويل على تحرّك رسمي فلسطيني أو عربي بهذا الصدد، فأنّا للمسؤولين الفلسطينيين الذين يسوِّقون التطبيع من أن يكونوا دعاة مقاطعة؟ أو للدول العربية التي لا تستحي من استقبال وفود إسرائيلية على أراضيها ناهيك عن التي أقامت معاهدات سلام مع إسرائيل وتروّج “سلاماً دافئا” معها؟
كما عالج القرار 2334 إحدى ثغرات اتفاقيّة أوسلو (وما أكثرها) التي لم يرد فيها نص واحد عن الاستيطان. ومنذ أن أصبحت “أوسلو” متضمنة في القانون الدولي بحكم أنها اتفاقية دولية، لم يصدر أي موقف دولي من شأنه أن ينشئ أثرًا في القانون الدولي بشأن الاستيطان، باستثناء الرأي الاستشاري الذي قدمته محكمة العدل الدولية في لاهاي، عام 2004 عن جدار الفصل في الضفة الغربية، والذي تقاعست القيادة الفلسطينية عن متابعته في المحافل الدولية.
وبالإضافة إلى إدانة الاستيطان، هناك ثلاث نقاط أخرى في القرار، أعطته أهميته الاستثنائية:
أولاً؛ أعاد للقضية الفلسطينية بعدها الدولي الرسمي، بعد أن تم تقديمها في المحافل الدولية خلال السنوات التي تَلَتْ توقيع اتفاقية أوسلو قضية ثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية، الراعي الرئيس لما تعرف بـ “عملية السلام”، والتي استندت إلى ذلك في تبرير استخدامها “الفيتو” في مجلس الأمن ضد مشاريع قرارات ذات علاقة قُدّمت بعد “أوسلو”.
ثانيًا؛ التأكيد على مبدأ “عدم جواز الاستيلاء على أرض بالقوة”، الذي جاء في ثاني إحالات القرار، وقد أهمل هذا المبدأ في كل القرارات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وحتى في التصريحات والبيانات والمواقف الصادرة عن السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير منذ أوسلو. وأشار الكاتب والأكاديمي الأميركي التقدمي، نورمان فينكليستاين، الذي اعتبر القرار “انتصارًا” لحقوق الشعب الفلسطيني، أشار إلى ذلك، في مقابلة معه أخيرا، مذكرًا بأن إسرائيل حاربت بشراسة قبل خمسة عقود، كي لا يتم تضمين هذا المبدأ في القرار 242، حيث كانت تجادل بأن الأراضي التي استولت عليها في الضفة والقطاع غير خاضعة لسيادة دولة، وكانت تحت وصاية دول غير مالكة لها (الأردن ومصر)، وبالتالي هي غير مطالبة بإعادتها لأحد، وجاء إقرار مبدأ عدم جواز الاستيلاء على أرض بالقوة في قرار مجلس الأمن 242 ليقوّض محاولتها تلك، إلا أنها حصلت على تعويضٍ بإزالة التعريف عن “الأراضي” المحتلة في نص القرار لتصبح “أراضيَ” محتلة.
ثالثًا؛ الإشارة إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، 12 آب/أغسطس 2004، الذي اعتبر بناء جدار الفصل الإسرائيلي غير قانوني، وأكد عدم شرعية المستوطنات، وهي المرة الأولى التي يُذكر فيها هذا الرأي في قرار لمجلس الأمن.
وعلى الرغم من تأكيد مصدر دبلوماسي فلسطيني شارك في العمل على القرار لكاتب هذه السطور بأن فريقاً من وزارة الخارجية الفلسطينية عمل على صياغة النص بالكامل، إلا أن مقارنة بين القرار الجديد ومشروع القرار الذي قُدِّم من المجموعة العربية عام 2011 وسقط بعد تصويت الولايات المتحدة ضده؛ تُظهر فروقاً كبيرة بين النصين، لصالح الأخير بخلاف المُتوقع، فمشروع القرار الذي عُرض على مجلس الأمن قبل ستة أعوام كان ضعيفًا إلى درجةٍ صادمة، وكأنه مُقدَم من دول محايدة، أو حتى صديقة لإسرائيل، لا من المجموعة العربية، حيث أُسقط منه مبدأ عدم جواز الاستيلاء على أرض بالقوة، ولم يذكر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وتوجه، في مطالباته، إلى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وكأنهما يشتركان بالقدر نفسه في المسؤولية عن خرق القانون الدولي وتدهور الأوضاع على الأرض. وعلى الرغم من ذلك كله، صوّتت الولايات المتحدة ضد مشروع القرار وأسقطته. ويقول المنطق إن الولايات المتحدة كانت ستُمرّر قرارًا أقل وضوحًا في إدانته إسرائيل من الذي رفضته قبل خمس سنوات، خصوصاً في ظل وجود الإدارة نفسها في الحالتين، لكن ما حصل هو العكس تمامًا.
تتبُّع السياق الذي جاء فيه القرار، وما تضمنه، وتوقيت طرحه، والإصرار غير المسبوق على تمريره؛ يجعلنا نتأمل في ما قاله ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، رون ديرمير، إن القرار صاغته دولة غربية، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وحتى إن لم تقترح إدارة أوباما النص، إلا أن من المرجّح أنها أعطت إشارات أو حتى توجيهات لمن صاغه حول المبادئ والمطالبات ومستوى التشديد في اللغة التي يمكن أن تقبل بها.
وعلى كل حال، لا تخرج جميع المبادئ والمطالبات الواردة في القرار عن الأدبيات الغربية حول القضية الفلسطينية، فعلى سبيل المثال، جاء ثالث بنود القرار، عن عدم الاعتراف بأي تغييرات على حدود ما قبل 1967، مطابقًا بالكامل لما نصّ عليه البيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في ديسمبر/ كانون الأول 2010. في حينه، علق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على النص الأوروبي، بأن “خطوط 1967 لا يمكن الدفاع عنها عسكريًا، كما أنها تضع غالبية السكان الإسرائيليين في يهودا والسامرة خلف تلك الخطوط… الدفاع عن إسرائيل يتطلب وجوداً عسكرياً إسرائيلياً على طول نهر الأردن”، فجاء الرد عليه أميركيًا حين تبنى الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، المضمون نفسه، في خطاب حالة الاتحاد، في 19 مايو/ أيار 2011. ومن الملفت أن أول بندين في القرار الجديد تحدثا عن “القدس الشرقية”، بينما تحدث الثالث عن القدس (غير مرفقة بـ”الشرقية”)، بالضبط كما جاء في بيان الاتحاد الأوروبي.
سلبيات ومثالب
ولا يخلو القرار، على أهميته، من سلبياتٍ ومثالب، ومن أبرزها ما جاء في بنده السادس، من إدانة لجميع أعمال الإرهاب، ومن المعروف أن السياق الذي يتم وفقه التعامل مع مفردة الإرهاب في منظمة الأمم المتحدة، في ظل الهيمنة الغربية والأميركية عليها، لا يميّز بين أعمال المقاومة والتي منها الكفاح المسلح واستخدام العنف انطلاقًا من دوافع أيديولوجية عدمية، أي الذي يستهدف الإنسان لمعتقداته وأفكاره وعرقه ولون بشرته. وفي البند نفسه، أكد القرار على آلية التنسيق الأمني لمواجهة “الإرهاب” الذي يعني، بشكل أساسي، تعاون الأمن
الفلسطيني مع نظيره الإسرائيلي في حماية المحتل من المقاومة المشروعة للشعب الواقع تحت الاحتلال، كما أثبتت الممارسة على الأرض طوال السنوات الماضية. كما لم ترد أي إشارة لقضية اللاجئين في البند التاسع من القرار الذي تحدث عن السلام الدائم في الشرق الأوسط، وتم ذكر المبادرة العربية للسلام سيئة الذكر، والتي قدمت تنازلاً جوهرياً في قضية اللاجئين، حين تحدثت عن حل عادل ومتفق عليه على أساس القرار 194 عوضًا عن الدعوة إلى تطبيق القرار، بعودتهم إلى الأراضي التي شرّدوا منها وتعويضهم.
كان لا بد من تسليط الضوء على سلبيات القرار، على الرغم من وعي الواقع العربي والدولي الراهن وإدراكه، وطبيعة منظمة الأمم المتحدة، كما ذكرنا سابقًا، لكن ذكر تلك السلبيات هو، في حد ذاته، تسجيل موقف من المعايير المجحفة والمنحازة للمنظومة الدولية تجاه القضية الفلسطينية، كذلك رفض لتفريط وتهاون وتخاذل من يفترض به أن يحمل لواء القضية ويدافع عنها.
في الختام، وعلى الهامش، من المفيد تفنيد اتهام بعضهم قرار مجلس الأمن بأنه أعطى للتنسيق الأمني شرعية دولية، بعد أن كان “آليةً محلية” بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وفي الواقع، يمتلك التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية ودولة إسرائيل بالأساس شرعية دولية، لأنه منصوص عليه في اتفاقية أوسلو، في المادة الثانية الخاصة بسياسة منع “الإرهاب” وأعمال “العنف”، في البروتوكول الخاص بإعادة الانتشار والترتيبات الأمنية. ومن المعروف أن “أوسلو” اتفاقية دولية، أي أنها أضحت، بمجرد توقيعها والمصادقة عليها، كأي اتفاقية دولية؛ جزءاً من القانون الدولي. وبالتالي، لم يحمل قرار مجلس الأمن جديداً في هذا الخصوص، والمثير للاستغراب والسخرية في آن معًا أن هذا الاتهام جاء على لسان أحد أعضاء الفريق المفاوض في “أوسلو”، ووزير سابق في السلطة الفلسطينية.
حسن شاهين
صحيفة العربي الجديد