ثمة سياسة أميركية واضحة المعالم، تهادن روسيا وتواجه إيران، تفسح المجال أمام القوى الإقليمية للتموضع وفق المعطيات الجديدة، ما يشي بإعادة صياغة التوازن في الشرق الأوسط. ولا يخفى أن الزمن الأميركي الحالي يحوي في خلفياته إيديولوجيا جوهرها معادٍ للإسلام وللعولمة الاقتصادية، إنما تعبيراتها مرنة وتتلخص بالانفعال المصلحي الذي يتغيّر تبعاً لوقائع متحركة ولنظام دولي يتغير بدوره.
وبعكس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي فاجأ العالم بضراوة تدخله في سورية مستفيداً من ضعف الرئيس أوباما، وهادفاً إلى إظهار قوة روسيا وميزات ترسانتها الحربية وصلابة موقفها السياسي، فشفافية الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعفويته وارتجاله تساعد في ترجمة القوة الأميركية في شكل يتحول فيه الانفعال الشخصي قوة بحد ذاتها.
لكن وبعيداً من الجنوح العشوائي لشخص الرئيس فإن فريق الإدارة يبدو أكثر ارتكازاً وثباتاً وقدرة على ترجمة المسار الأميركي التقليدي في العلاقات الدولية، ويشكل الثلاثي المؤلف من نائب الرئيس ووزيري الخارجية والدفاع ركيزة السياسة الأميركية التي تحدد مسارات النظام الدولي الجديد. أضيف إليهم مؤخراً مستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر. وإذ يبدو هذا الفريق منسجماً إلى حد بعيد في مهمة «تغطية عورات» رئيس البلاد، فالواضح أن كل عضو من هؤلاء يبحث عن إظهار الحزم في مواقف الإدارة الأميركية الجديدة.
هذا الأمر الذي ميّز مسيرة ترامب منذ البداية عكس نفسه على التوازن الدولي، حيث لم تكد تصبح رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة يقيناً حتى تغير كل الكلام الروسي عن تعديل في التوازن الدولي نتيجة ضعف وتراجع الدور الأميركي، وإن أصر بعض الروس على التفتيش عن عناوين للتحولات في النظام الدولي، فذلك يرتكز على المواقف التي أطلقها ترامب ذاته تجاه وحدة أوروبا والأطلسي لا أكثر.
فالقدرات التي تتمتع بها الولايات المتحدة لا تزال تسمح لها بقيادة العالم شرط إدارة العلاقات الدولية بسياسة تعكس تلك الإمكانات، وهو ما تخلى عنه الرئيس السابق باراك أوباما الذي أتى في ظروف التصدي لنتائج الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 2008 واعتمد سياسة الجزرة وتخلى عن العصا في استراتيجيته الشرق أوسطية تحديداً.
تسنح الفرصة للولايات المتحدة إذاً بتقديم استراتيجية جديدة للشرق الأوسط مستفيدة من مسألتين، الأولى أن التواجد الروسي وصل إلى حدوده التي باتت تفترض البحث عن مخارج وحلول للأزمة السورية لا يمكن التوصل إليها بمعزل عن الولايات المتحدة والغرب، والثاني أن احتواء القوى المحلية لإيران ودورها المتورّم في المنطقة قد بدأ حتى في مرحلة الإدارة السابقة، وذلك مع اندلاع الثورة السورية والتدخل العربي في اليمن وصعود الدور التركي في سورية والعراق.
وفي الحالتين فإن الإضافة الأميركية على هذا المسار تأتي استكمالاً لما هو قائم وقد تفضي إلى «تصحيح» التوازن في المنطقة. وبكل تأكيد فإن تصحيح الخلل في الشرق الأوسط وحوض المتوسط مع النجاح في عزل داعش ووقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا ودور أكثر تناغماً لتركيا مع الإدارة الأميركية، يؤكد الحاجة إلى الأطلسي ويبقي على ركائز النظام الدولي ذاته.
المواقف والالتزامات الأميركية التي سمعها الأوروبيون وقادة حلف الأطلسي في مؤتمري الأمن في ميونيخ ووزراء خارجية الـ20 في بون، من ربط نزاع مع روسيا في أوكرانيا والإبقاء على العقوبات حتى احترام موسكو اتفاقيات مينسك، كانت كافية لإعادة إمساك الغرب بمفاصل التوازن الدولي وليس العكس، والكلام على نظام عالمي ديموقراطي وعادل لمرحلة «ما بعد الغرب»، وفق القراءة الروسية، فيه كثير من التسرّع، إذ يفتقر أي بديل عن الغرب حالياً أقلّه إلى نظام اقتصادي وقيمي، أو حتى سياسي قادر على القيادة. فروسيا ربطت نفسها ببقايا الديكتاتوريات وهي لا تنفك تؤمّن الغطاء لجرائم الحرب التي يرتكبونها وما زالوا، وبافتقاد منظومة قيمية بديلة من الصعب الحديث عمّن يرث المؤسسات الدولية التي أتاحت إنشاءها الحروب العالمية. قد يصح أن العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة تحتاج إلى إعادة صياغة في ضوء كثير من الوقائع التي كشفها مجيء ترامب ومخاطر تفكك الاتحاد الأوروبي وصعود اليمين. ويصح أيضاً أن التوازن مفقود في مجلس الأمن نتيجة آلياته في حق النقض، التي ارتكزت إليها روسيا في حماية نظام الأسد مثلما ارتكزت إليها أميركا تاريخياً لحماية إسرائيل.
والحقيقة أن الأوروبيين ارتكزوا إلى مبادئ التماسك الديموقراطي لحماية نظامهم العام بعد انتهاء الحرب الباردة وأحالوا المسألة الدفاعية إلى الولايات المتحدة التي تتكفل بـ70 في المئة من الإنفاق العسكري على الأطلسي، وذلك أفضى إلى تحولات بنيوية أعادت رسم سلّم الأخطار على ضوء الهجرة المتزايدة وسياسات الاندماج والضغوط الاقتصادية والإرهاب الذي نفذته القاعدة، إلى أن برز التحدي الروسي من جديد في أوكرانيا وميل بوتين إلى التمدد واستعادة نفوذ الاتحاد السوفياتي.
كل ذلك جعلهم يتفاعلون مع وعود ترامب الانتخابية وترؤسه الإدارة الأميركية بشيء من الانكشاف والتخبط الاستراتيجي نتيجة الخوف من فقدان الدعم والحديث عن تهديد روسي للقارة وخلخلة الأنظمة في شرق أوروبا. بلا المظلة الأميركية يبرز الهاجس الأوروبي الذي اعتاد التغني بمنظومة القيم وحقوق الإنسان كمعيار للحضارة، فيما ظلّت أميركا تذهب إلى الحروب لتحسم وجهة النظام الدولي حينما يستوجب الأمر.
هذه الفجوة هي تحديداً ما يبحث عن ردمها ترامب في استراتيجيته التي تتساوى فيها أوروبا والولايات المتحدة من حيث الأرباح والأكلاف.
العالم اليوم مأزوم بقضايا حساسة وجوهرية، لكن مَن قال إن نجاح النظام الدولي أو فشله يتوقف على حل هذه المعضلات بدلاً من إدارتها؟
بهاء أبو كروم
صحيفة الحياة اللندنية