عندما استولى “داعش” على مدينة تدمر الأثرية في 11 كانون الأول (ديسمبر)، كان النظام السوري وروسيا منشغلين تماماً وسط هجوم شرس لاستعادة السيطرة على الأجزاء الشرقية من مدينة حلب من الثوار. وقد أتاح تحويل النظام موارده إلى هناك فرصة للمتشددين ليعودوا أدراجهم مرة أخرى إلى المدينة، بعد أن كانوا قد فقدوها في آذار (مارس).
حدث فقدان تدمر على الرغم من محاولة جادة بذلتها روسيا لمنع حدوثه، وأظهر استيلاء “داعش” على المدينة مرة أخرى أن النظام السوري لم يكن قادراً على الدفاع عن كافة جبهاته بينما يسعى إلى تحصين المعاقل الحاسمة التي يسيطر عليها في كل من حلب وحمص ودمشق.
استعادة مدينة تدمر من “داعش” يوم الخميس الماضي، كما كان حال فقدانها في كانون الأول (ديسمبر)، تسلط الضوء على نقاط ضعف النظام. ولدى دمشق كل من روسيا وإيران وحزب الله والولايات المتحدة لتشكرهم جميعاً على هزيمة “داعش” في تدمر. فلم تكن قوات النظام لتتمكن من أن تفعل ذلك وحدها، وربما لم تكن القوة الجوية الروسية لتتمكن من طرد المتشددين من تدمر أيضاً من دون تدمير شبه كامل للمدينة.
لكن هناك شيئاً أكثر كشفاً في استعادة تدمر. كانت مساهمة القوة الجوية الأميركية في القتال انعطافة جديرة بالملاحظة في الأحداث. وفي كانون الأول (ديسمبر)، كان الجنرال ستيفن تاونسند، قائد قوات التحالف الذي يحارب “داعش”، قد أخبر الصحفيين في بغداد بأن الولايات المتحدة ستقوم بتصعيد ضرباتها الجوية ضد “داعش” في تدمر “إذا لم يقم الروس والنظام بذلك” هناك.
وقال الجنرال: “إننا نبقى خارج الموضوع نوعاً ما ونراقب الوضع الآن، نحمي مصالحنا وندع الروس يعالجون هذا الأمر، وهو ما أعتقد أنه ربما يكون الطريقة المنطقية للتعامل مع مسألة تدمر”.
مع ذلك، لم تبق الولايات المتحدة خارج الموضوع، وإنما نفذت عشرات الضربات الجوية ضد “داعش”، حتى مع أن روسيا والنظام فعلا مثل ذلك أيضاً. وبغض النظر عما إذا كانت هذه المشاركة تشير إلى تحول في السياسة، فإن التحرك يشير إلى تغير دقيق في السلوك الأميركي في سورية. وينطوي هذا التحول في الموقف على تجاهل كامل لحساسيات الصراع.
لم يعد المسؤولون الأميركيون المشاركون في القتال ضد “داعش” يبدون اهتماماً بالتعامل مع السياق السياسي لعملياتهم في سورية. وكان من شأن التحالف بحكم الأمر الواقع مع إيران وحزب الله وروسيا ضد “داعش” في تدمر سيكون أكثر مدعاة للدهشة قبل عام من الآن. لكنه أصبح اليوم مجرد حدث عابر.
ولم تكن هذه حادثة معزولة في الحقيقة. فقد أصرت الولايات المتحدة على أن تكون الميليشيات الكردية رأس الحربة في القتال ضد “داعش” في الرقة. وفي أطروحة عرضهم القضية، يبدو المسؤولون الأميركيون مركِّزين على الاعتراض التركي على الدور الكردي، كما لو أن هذا هو العيب الوحيد في القرار. ويمكن القلق الأساسي في الدور القيادي الذي يفترض أن تلعبه الميليشيات الكردية في طبيعة النظرة المحلية إلى هذه القوات. وهو ما يجعل أولئك الذين يحاربون “داعش” بمثابة قوات “محرِّرة” في مقابل قوات “احتلال”.
استبعد الجنرال تاونسند مسألة القلق المتعلق بكيفية النظر محلياً إلى هذه الميليشيات بإعلانه أن المقاتلين المشاركين فيها ينحدرون من محافظة الرقة الأوسع. ويشير هذا الاقتراح إلى أن وحدات حماية الشعب الكردية هي من السكان المحليين للرقة، لأن محافظة الرقة الأوسع تضم سكاناً أكراداً. ويتجاهل هذا التصور الكيفية التي ينظر بها الناس في الرقة، وفي أماكن أخرى أيضاً، إلى ميليشيات وحدات الشعب الكردية، وكيف يميزونها عن الشعب الكردي بشكل عام.
كما يبدو أن التصريح يتجنب أيضاً التعامل مع مسألة إبقاء الميليشيات التي ينظر إليها السكان المحليون بعين الشك في الخارج، وهو منطق كانت الولايات المتحدة قد ضغطت لتطبيقه في الموصل. ويمكن أن تكون ملاحظات الجنرال تاوسند قد جاءت في الحقيقة رداً على تصريح أدلى به رئيس الوزراء التركي، والذي دعا فيه الولايات المتحدة إلى أن تتبع في الرقة نفس المنطق التي استخدمته هي نفسها في الموصل.
ثمة مثال آخر على انعدام الصلة، هو التحرك الذي قامت به القوات المدعومة أميركياً في منبج يوم الخميس الماضي؛ حيث قامت بتسليم بعض المناطق الواقعة تحت سيطرتها إلى قوات النظام السوري، كطريقة لخلق منطقة عازلة بينها وبين قوات الثوار المدعومة من تركيا والتي تقاتل “داعش” في شرق حلب. وإذا كان الدور المحتمل للميليشيات التي يقودها الأكراد في الرقة فكرة سيئة، فإن هذه الحركة جعلت الأمور أكثر سوءاً. وقد ضمنت أن يرى عدد أكبر بكثير من الناس هذه القوات على أنها حليفة للنظام. والأسوأ، أن نفس القوات المدعومة من الولايات المتحدة سمحت للقوافل “الإنسانية” بدخول مدينة منبج، التي تم تحريرها من “داعش” في شهر آب (أغسطس). ووفقاً للناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، الكابتن جيف دافيس، فإن هذه القوافل تضمنت “بعض المعدات المدرعة”.
بالنسبة لأي سوري مناهض للنظام، تشير هذه التطورات في تدمر ومنبج والرقة إلى سياسة أميركية بغيضة. وبعد نحو سنتين ونصف في سورية، ربما يكون المسؤولون الأميركيون قد فقدوا رؤية مثل هذه الحساسيات، لكنهم لا ينبغي أن يفعلوا.
ما تزال قدرة النظام على تأمين حتى نسبة الـ35 من المناطق التي يسيطر عليها في البلد محدودة. وما تزال قواته غير قادرة على القتال على عدة جبهات من دون المخاطرة بفقدان الأرض، كما حدث في كانون الأول (ديسمبر) مع تدمر. كما أنها غير قادرة أيضاً على تأمين ما يفترض أنها مناطقها الآمنة، كما أظهرت العملية المعقدة التي نفذها تنظيم القاعدة في حمص يوم السبت، والتي تمكن فيها خمسة مسلحين من اختراق أحياء مشددة الحراسة، واقتحام مجمعات المخابرات، حيث قتلوا مسؤولاً رفيع المستوى ونحو 40 شخصاً آخرين من الكوادر الأمنية.
تعني محدوديات قدرة النظام على هذا النحو أن الاستثمار المناسب في القوات الأخرى لمحاربة التطرف في الأماكن الأخرى في سورية يجب أن يكون أولوية للولايات المتحدة، إذا كانت تريد أن تهزم التطرف وأن تبقيه مهزوماً. وبغض النظر عن المكان الذي تقف فيه الولايات المتحدة من مسألة شرعية النظام، فإنها يجب أن تفهم أن النظام غير قادر على محاربة التطرف في كل أنحاء سورية. وحتى تستمثر في القوى الأخرى لملء الفراغ، فإن على الولايات المتحدة أن تبقى مركزة على الكيفية التي يُنظر بها إلى سياستها هناك.
للأسف، يبدو أن الولايات المتحدة بصدد تطوير المزيد من البقع العمياء الخطيرة في سورية. ومن شأن هذا الجهل، أو التجاهل للسياق السياسي الذي تعمل فيه هناك أن يعود ليطاردها هي نفسها بشكل حتمي في المستقبل.
حسن حسن
صحيفة الغد